قام حلف قبائل بنو بكر مع بنو شيبان بهزيمة الفرس في يوم ذي قار ، وكان أول مرة يظفر فيها العرب على الفرس. ولكن تبدأ قصتنا مع مملكة الحيرة، فعلى الرغم من كون العرب قوم بادية، إلا أنهم بنوا ممالك، كالحيرة التي كانت تضم بعض أجزاء من العراق وبعض دول الخليج العربي حاليًا، وقد جاوروا الفرس، وكالغساسنة بالشام الذين جاوروا الروم، وكانت تلك الممالك في حلف شبه دائم مع من تجاور من الإمبراطوريات فالحيرة كانوا في حلف مع الروم في أول الأمر، ثم بعد ذلك دخلوا في حلف مع الفرس وكانوا يساعدونهم في حروبهم ضد الروم، وكذلك الحال مع الغساسنة الذين كانوا في حلف مع الروم وساعدوهم في حروبهم ضد الفرس. استمرت مملكة الحيرة في حلفها مع الفرس، ولكن بدأت العلاقة بين ملوكهما بالتدهور، وانتهي الأمر بغزو الفرس للحيرة وعَيَّن كسرى صديقًا له من العرب عليها، وترتب على هذه الأحداث يوم ذي قار ، حين انتصرت العرب على العجم.
استكشف هذه المقالة
أسباب معركة يوم ذي قار
كانت الإمبراطورية الفارسية في حالة فوضى قبل تولي كسرى الثاني الحكم، واضطر كسرى لأن يهرب بأهله إلى الشام، واستنجد بالنعمان بن المنذر، ولكن النعمان رفض مساعدته واشترط أن يعطي كسرى الاستقلال للنعمان إن أراد مساعدته، وكان ملوك الحيرة خاضعين لأباطرة الفرس حينها، واستنجد كسرى بإمبراطور الروم موريس، فساعده موريس على تقلد الحكم، وتلى رفض النعمان لمساعدة كسرى العديد من الأحداث التي زادت العلاقات سوءًا.
وكان ملك الحيرة يلقب بملك العرب، وكان بلاطه مفتوحًا لشعراء العرب وبلغائهم، وقد استقبل النعمان بن المنذر في بلاطه العديد من كبار شعراء العرب وفحولهم، كالنابغة الذبياني قاضي الشعراء، وحاتم الطائي سيد الكرم، وشاعر الرسول حسان بن ثابت. وكان للنعمان يوم بؤس ويوم نعيم، إذا صادف أحدًا في يوم بؤسه قتله، وإذا صادف أحدًا في يوم نعيمه أكرمه، وكان ممن قتلهم النعمان شاعرًا يدعى عديّ بن زيد، وكان عديّ يتحدث العربية والفارسية فاستخدمه كسرى الأول كترجمان بينه وبين العرب، وكان أول من كتب بالعربية عنده.
وبعد موت عدىّ عمل ولداه لدى كسرى الثاني، عمرو بن عدىّ كان كاتب كسرى الثاني وترجمانه وزيد بن عدىّ كان رسول لكسرى، ويقال إن زيدًا هو من ذكر جمال بنات النعمان لدى كسرى، فأرسله كسرى إلى النعمان طالبًا بناته ونساءً من أهله له ولأولاده، فرفض النعمان ذلك، وقال أما لكسرى ما يكفيه من نساء فارس؟ ويقال أنه شَبَه نساء فارس بالبقر، مما أغضب كسرى غضبًا شديدًا ولكنه كان مشغول بإخماد بعض الثورات في ذلك الوقت فأجل الأمر، ثم أرسل بعدها إلى النعمان يطلبه، فعرف النعمان أن كسرى قاتله لا محال، فطلب اللجوء لدى من كان يناسب من قبائل العرب فرفضوا خوفًا من كسرى، وقد رأى العرب ماذا يفعل الفرس بمن يعاديهم من العرب سابقًا، وظل النعمان يستنجد بمن يعرف من قبائل العرب حتى أتى بني شيبان، وطلب الجوار من هانئ بن مسعود وكان سيد بني شيبان فوافق هانئ.
اتحاد العرب واستعدادهم قبل يوم ذي قار
وبالرغم من قبول هانئ لحماية النعمان وأهله وماله، إلا أنه نصحه بأن هذا الأمر سينتهي بهلاك كليهما على يد الفرس وأنه رجل قضى حياته في الملك والعزة وأن يموت ملكًا أكرم له من أن يعيش مثل أراذل الناس ويقضي حياته خائفًا من بطش كسرى، وأن يذهب لكسرى بالهدايا ويطلب مسامحته، فإذا قبل كسرى عاش ملكًا وإن رفض مات ملكًا أيضًا، فقبل النعمان مشورة هانئ واستئمنه على أهله وما كان معه من السلاح والدروع، وذهب النعمان إلى كسرى فانتهى الأمر بقتل النعمان. وكان رجل من العرب يدعى إياس بن قبيصة قد ساعد كسرى حينما كان هاربًا، فتذكر كسرى له هذا الجميل وعينه حاكمًا على الحيرة بعد النعمان وأمره بأن يأتيه بنساء النعمان وسلاحه، فراسل إياس هانئ بن مسعود وطلب منه أن يعطيه نساء النعمان وسلاحه، فرفض هانئ وكان بنو شيبان احدي فروع قبيلة بكر بن وئل التي كانت تعد أكبر قبائل العرب على الإطلاق ولم يضاهيهم في الحجم إلا قبيلة تغلب.
وبدأ بنو شيبان بمراسلة أخوانهم من قبائل بني بكر بن وائل، واجتمع أسيادهم وتناقشوا في الأمر، وكان كسرى قد طلب منهم أن يعطوه نساء النعمان وسلاحه ومائه من غلمان بني بكر أسرى كعقاب لرفضهم إعطاءه ودائع النعمان أول مرة، وأتى سيد بكر وفارسها حنظلة بن ثعلبة على اجتماع أسياد بكر ولما رأى أنهم يريدون أن يخضعوا لمطالب كسرى وأن يفتدوا أنفسهم ببعض منهم، زجرهم حنظلة وقال لا أرى إلا القتال، وقال لهانئ بن مسعود أن عرضكم عرضنا وأمره أن يخرج سلاح النعمان ودروعه وأن يستخدمها قومه في الحرب، ووافق أسياد بكر حنظلة بن ثعلبة على رأيه واستعدوا للقتال في يوم ذي قار .
أين وقعت معركة ذي قار ومن أطرافها؟
بعد أن قرر أسياد بكر أن يتبعوا حنظلة، قرر حنظلة أن يخيم البكريين ببئر كان عند ذي قار، وكان لهذا القرار الاستراتيجي أثر كبير على أنتصار العرب على الجيش الفارسي المخضرم والمدجج بالسلاح، فالعرب كانوا يعيشون في الصحراء ويحاربون فيها، ويعرفون قيمة الماء أكثر من الفرس الذين اعتادوا الحياة والقتال في أراض خصبة بها أنهار وماء وفير. سار جيش الفرس نحو ذي قار وكان يتألف من ألفي فارسي أكثرهم رماة وعلى رأسهم قائدين عسكريين من خيرة قادة الفرس أحدهما الهامرز، وكان مع الفرس ما يقارب الثلاثة آلاف من العرب من قبائل تغلب وقضاعة وإياد ونمر وكان على رأسهم إياس بن قبيصة حاكم الحيرة، وكان العرب يكرهون انتصار الفرس على إخوانهم من العرب فجرت المراسلات بين تلك القبائل والبكريين وعرضوا عليهم أن يهجروا الفرس الآن أو ينتظروا حتي تتلاقى الصفوف في يوم ذي قار فيتركوا الفرس وحدهم، فرأى حنظلة أن يظلوا مع الفرس حتى يوم اللقاء.
وبالفعل أخَّرَ إياس بن قبيصة وقادة القبائل جيش العرب وجعلوا جيش الفرس في المقدمة لملاقاة البكريين استعدادًا لهجرهم، ولما وصل الخبر باقتراب جيش الفرس من ذي قار بدأ الرعب يدب في قلوب العرب وبدأ بعضهم يفكر بالهرب بأهله، فقام حنظلة بقطع وضين ناقة امرأته، والوضين هو ما يوضع على ظهر الجمل أو الناقة للركوب فإذا قطع لا تصلح للركوب، وكان هذا الفعل ليرفع من الروح المعنوية للرجال وليقول أنا هنا ولن أهرب، فبدأت النساء بقطع وضنهن كي لا يهرب رجالهن، وقال حنظلة فليقاتل كل رجل عن أهله، وأمرهم بأن يسرعوا بالتحام الصفوف وألا يحاولوا أن يرموهم فهم لا قدرة لهم على رماة الفرس، وكان هذا أيضًا قرار في غاية الدهاء، فأفضلية الفرس كانت في الرماة، فإذا التحمت الصفوف فقد الرماة أهميتهم.
أحداث يوم ذي قار
ولما تقاربت الصفوف للالتحام، برز من الفرس أبطالهم لمبارزات فردية-كما كانت العادة حينها- وخرج من العرب أبطالهم أيضًا، وكان النصر للعرب، وكان لذلك أثر كبير على معنويات الجيشين، فقد رفع من معنويات العرب وأخفض معنويات الفرس، والتحم الصفان، وكان القتال في أشده في اليوم الأول، وكان حنظلة قد أمر جزء من فرسانه بقيادة يزيد بن حمار أن يناوروا خلف صفوف الفرس ويداهموهم من وراءهم، وعندما بدأ الفرسان بالهجوم على الفرس من الخلف بدأت القبائل العربية التي كانت بالخلف بترك الفرس وحدهم والفرار كما وعدوا، وحدث بالجيش الفارسي مقتلة عظيمة في اليوم الأول.
ولما أشرقت شمس ثاني صباح من يوم ذي قار كان الفرس قد تعبوا جسديًا نتيجة العطش ومعنويًا نتيجة هجر القبائل العربية الموالية لهم وفرارها ونتيجة الخسائر التي تكبدوها في اليوم الأول، فأصبحوا يقاتلون بيأس وكان القتال في اليوم الثاني من طرف واحد، واستمر العرب من قبائل بكر بن وائل بمطاردة الفرس واصطيادهم حتي المساء، حينها بدأت الأمور بالاستقرار وبدؤوا بتقسيم الغنائم بينهم.
قصيدة الأعشى في ذي قار
الأعشى أو أعشى قيس، كان شاعرًا فحلًا من شعراء المعلقات، وكان يلقب بالأعشى لضعف بصره، وكان كثير الزيارة لملوك العرب والفرس وتأثر شعره كثيرًا باللغة الفارسية، ويعود نسبه إلى قبيلة بكر بن وائل، وقال قصيدة في يوم ذي قار من أروع قصائده على الإطلاق، فقد امتلئت ألفاظها ومعانيها بالمروءة والأخلاق الكريمة والفخر بمحاسن الأخلاق، وتحدث فيها عن وصية أسلافه بإكرام الضيف ويقصد به ما فعله بنو شيبان البكريين مع النعمان حين جاءهم، ووصيتهم بإكرام الجار، وتكلم أيضًا عن وصية أسلافه بالقتال إن كانوا أصحاب حق، فموتهم على الحق واحتفاظهم بمروءتهم خير لهم من العيش كأشباه رجال، وذكر أيضًا كيف أن جنود كسرى وما لهم من هيبة وجاه وكيف أنهم بعدما كانوا يزدرون العرب قد ادبروا وفروا من رجال بكر، وكيف أن رماتهم ونشابهم لم ينفعوهم ولم يكونوا ندًا لفرسان بكر، واختتمها بقوله أن من فاته قتال الفرس مع بكر في يوم ذي قار قد فاته شرف عظيم.
نتائج يوم ذي قار
كان من عادة كسرى إذا جاءه أحد بأخبار هزيمة جيشه أن يقوم بخلع كتفاه، فلما جاءه إياس بن قبيصة حاكمه على الحيرة وقائد العرب في المعركة، أخبره بانتصار جيشه على بكر بن وائل ففرح كسرى بالخبر وكافئ إياس، ولكن أسرع إياس بالاعتذار بأن أخيه مريض وأنه بحاجة للذهاب إليه، فسمح له كسرى بذلك وولى إياس هاربًا، وحينما علم كسرى بحقيقة ما حدث ولى على الحيرة حاكمًا فارسيًا بدلًا من إياس، ولكن العرب المقيمين هناك لم يقبلوا حكمه وبدؤوا بالثورات، واستقلت بكر بن وائل بإقليم البحرين الذي كان يشمل مناطق من دولة العراق وقطر والكويت والبحرين والسعودية، وحاول كسرى أن يعيد الأوضاع لاستقرارها في الحيرة والأقاليم العربية من الإمبراطورية الفارسية بتولية أحد أبناء النعمان، وكان يلقب بالمنذر المغرور، ولكن الأوان كان قد فات، فقد تولى أبو بكر صاحب رسول الله الخلافة، وبدأت حروب الردة، وحارب المنذر المسلمين وقُتل بالبحرين بعد حصاره لبلدة تحصن بها المسلمين.
ولكن أبناء المنذر المغرور دخلوا الإسلام وحاربوا الروم مع المسلمين وشهدوا فتح الشام معهم، وترتب على يوم ذي قار أثر معنوي ضخم، فالعرب لم يعودا يخشون الفرس كما كانوا، واستمرت الفتوحات الإسلامية بفارس في عهد أبو بكر الصديق بقيادة خالد بن الوليد حتى تم فتح العراق، وتحول خالد بن الوليد إلى الجبهة الشامية لمحاربة الروم، ولكن استمرت غارات الفرس على العراق حتى استردوا أكثرها، فعاد المسلمون لمحاربة الفرس بقيادة سعد بن أبي وقّاص، وكسرت هيبة الفرس في معركة القادسية وخسر الفرس الجزء الغربي من إمبراطوريتهم، ولكن الغارات الفارسية لم تتوقف، فقرر الخليفة عمر بن الخطاب تركيز الجهود العسكرية الإسلامية على الفرس بعد معركة القادسية حتى تم إخضاع بلاد فارس بالكامل في أقل من عشر سنوات، وبذلك انتهت الأسطورة الساسانية الفارسية التي استمرت في إرهاب العالم القديم من روم ويونانيين وعرب وغيرهم ممن جاورهم.
حديث الرسول عن معركة ذي قار
ذكر أحد رواة الأدب المشاهير فيما يخص سيرة النبي حديث عن يوم ذي قار، وذكر أنه كان بعد غزوة بدر بأشهر قليلة، ولكن هذا مستبعد، فموقعة يوم ذي قار كان عام 609 ميلاديًا وغزوة بدر كانت عام 624 ميلاديًا، وقد نص الحديث على أنه زار قوم من بكر بن وائل المدينة فأرسل الرسول عليه الصلاة والسلام أبي بكر إليهم ليدعوهم للإسلام، فذكروا هذا الأمر عندما عادوا لقومهم قبيل يوم ذي قار فقاتلوا باسم النبي وقال الرسول أنهم به نُصروا، وقد ضعف علماء الحديث سند هذا الحديث وقالوا أنه حديث موضوع ولا يصح عن رسول الله.
أغلب ما ورد ما أخبار عن يوم ذي قار كان من مصادر عربية، ولم تذكر المصادر الفارسية حينها شيئًا عن المعركة، وهذا منطقي نظرًا لقلة عدد الجنود المشتركة في الحرب وهزيمة الفرس على أيدي بدو أقل منهم سلاحًا وخبرة، ولكن بدون شك كان ليوم ذي قار فاتحة خير على المسلمين فقد أثر على معنويات من شارك في فتوحات بلاد فارس من العرب في عهد الخلافة الراشدة.
أضف تعليق