في البدايةِ فقط تخيّل معي كيف تكونُ مظاهرُ مجاعات العالم ؟! عظامٌ بارزة، وجوهٌ بائسة، وأعينٌ بارزةٌ تحكي تفاصيل مأساةٍ لا يشعرُ بها إلا من اختارتهم الأقدارُ ليكونوا محلَّ ابتلائها القاسي واختبارها المؤلم؛ فهل هناك ما هو أشدُّ إيلاماً من بطنٍ باتت تعدُّ الساعات التي تفصلها عن الرحيل؟. هل جرّبتَ يوماً أن تمتنعَ عن الأكلِ لمُدّة يومٍ كامل؟ ثمّ بعد صراعٍ مع الجوع لم تجد ما يسدُّه؟ ثم بعد صدمةِ انعدام القوتِ فوجئتَ بأنْ لا مياهَ تُقيم ما تبقَّى من طاقة في الجسدِ، ثم فجأةً استيقظتَ وجسدُك يرتعدُ خوفاً من هول الموقف! وبجوارِك كوبُ مائك وحلوى تفضّلها وعلى بُعد أمتارٍ تكتظ ثلاجةُ بيتِك بكلّ ما لذَّ وطاب، وتتسابقُ إلى أنفِكَ روائح إعدادِ الطعام في مطبخكم!. ببساطة.. كابوسُك لدقائقَ هو واقعُ آخرين لأعوامٍ من المهدِ إلى اللحد!. فهكذا تكون تفاصيلُ دقيقةٍ واحدةٍ لحياةِ أحد الأشخاص بإحدى مجاعات العالم !
مجاعات العالم ودورك في محاربتها
مجاعات العالم .. تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ!
إن أسباب المجاعات التي انتشرت على مَرِّ العصور لا تتفق على شيءٍ واحدٍ تحدثُ لأجله، فتارةً بسبب جفافِ الأرض وانهيارِ الزراعة التي تُمثّل مصدرا أساسياً للغذاء والمعيشةِ للسكان، وتارةً أُخرى تكون بسبب كوارثَ طبيعية كالزلازل والبراكين والتي تؤدي بدوْرها إلى إتلاف البنَى التحتيّة في مناطق واسعة مما ينتج عنهُ انهيارٌ كاملٌ للحياة وأبسط تفاصيلها ومتطلباتها. لكن يبقى السبب الأهمُ والذي يكادُ يتفّق عليه الجميعُ بأنه الأشدُّ فتكاً والأبشعُ أثراً والأكثرُ حدوثاً، هو ذلك الحُكم السياسيًّ للبلادِ بالقمعِ وحرمان أهلها من اختيار مصائرهم إما عن طريق احتلالٍ مباشرٍ يقيّد رغباتهم ويستولي على مستحقاتهم وأرزاقهم، وإما عن طريق نظامٍ حاكمٍ لا يرقُبُ في المواطنين إلَّاً ولا ذِمّة، فيفرضُ عليهم ما يراهُ فقط مناسباً لمصالحِه الشخصيةِ وإن كانت على حساب شعبٍ بأكمله، لتشبعَ قلّةٌ في عرشِ الدولةِ ولا بأسَ إن جاعَت أُمّةٌ تُقدّرُ بالملايين. فينشأ ذلك بسبب انعدام العدالة في توزيع الثرواتِ وانفرادِ مجموعةٍ معيّنة بالانتفاعِ من مواردِ الدولة. وإما أن تكونَ حرباً ويتبعَ المحتلُّ سياسة الأرض المحروقة.
أشهرُ مجاعات العالم في التاريخ
سبعون مليون شخصٍ؛ ليسَ عدد مواطني دولةٍ بعيْنها ولا عدد العاملين بإحدى القطاعات في دولةٍ مكتظة بالسكان. وإنما هو عدد الذين فارقوا الحياةَ متأثرين بجوعهم في مجاعات العالم بالقرن العشرين!.
بمجرد بحثك في التاريخ وتحديداً في القرن العشرين عن أقسى المجاعات التي شهدها العالَمُ على الإطلاق، فسوفَ تُخبركُ كل الدلالات وتشير كتبُ التاريخِ وفصولُ المعاناة إلى شرق آسيا وتحديداً إلى “الصِّين” ما بين عامي 1958 و1961م. حيثُ هي الأبشعُ على مدار التاريخ.
ونتجت هذه المجاعة المُهلِكةُ بسبب اعتزام الحزب الشيوعي الصيني تحويل البلاد من دولة زراعية إلى دولةٍ صناعية رغم أنف كثرتها المزارِعة! ولا أحدَ يملكُ القرارَ ولا يجرؤ حتى على مناقشة عناصرِه إلا النخبَة الحاكمةُ وصاحبة الانتفاعِ الوحيدة. كانت السلطاتُ حينها تستولي على الأراضي وتُجبر الأهالي على الاتجاه إلى العمل بالصناعة والاشتغال بها بدلا مما نشئوا عليه من طبيعةِ البلاد والعبادِ في تلك البقعة الكبيرة.
من الطريف أن الحزب الشيوعي حينها أطلق على هذه الحملة ” القفزة الكبرى إلى الأمام”! فلم تكن القفزةُ إلا سكراتُ الموت بعد مجاعةٍ بطول البلادِ وعرضها، ولم يكن الأمامُ الذي يقصدونه غير مقبرةٍ جماعيةٍ نامتْ فيها أرواحُ المساكين بعد طولِ صراعٍ مع الأمعاء الخاوية. فقضت الأقدارُ بهلاكِ أكثر من 43 مليون مواطنٍ صينيٍّ!.
رافقتها كذلك مجاعاتٌ عديدةٌ أخرى كتلك التي حدثت في البنغال بين 1942 و1945م وكذلك التي كانت قبلها في الاتحاد السوفييتي في 1932-1933م وكوريا الشمالية وإيرلندا وفيتنام. وكذلك الأمرُ في العديد من مناطق أفريقيا كمصر في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر ثم في مالاوي والسودان وأثيوبيا ونيجيريا وغيرهم، وأخيراً الصومال.
والجدير بالذكر أنه في عام 2007م نشرت صحيفة “الجارديان” تقريراً ينبئ بأنّ تلك المجاعات من الممكن ألا تكون الأخيرة، حيثُ أن نسبة تآكل التربة حول العالَم بلغت للأسف حوالي 40% من نسبة الأراضي، مما يشير إلى أن القارة السمراء لن تستطيع إطعامَ ربع سكانها بحلول العام 2025م تقريباً.
روايات مروّعة حول مجاعات العالم !
عادُتنا كمتابعين للأزمات أن نرى ظاهرها فقط، فنعتبر المتوفّين أرقاما والجائعين أرقاماً أخرى نتوقع رحيلها عما قريبٍ، دون اعتبارٍ أنّها نفوسٌ بشريّة لكلٍ منها قصة على حدة. كل قصّة منها تحكي آلاما تتجدد وأحلاماً تتبددُ كلما دنت ساعةُ الرحيل.
دعونا نتعرّض لقطرةٍ هيّنة من محيطٍ واسعٍ من فصول المعاناة؛ ولتكن البدايةُ من الصومالِ حيث هذه هي عجوزٌ جاوزت الستين من عمرها تحكي عن مأساة البحث عن الطعامِ الذي قطع أوصالها بأولادها وأهلها حيثُ كان كل همّها أن تجدَ في الأرضِ ما يزور جوفَها، فظلّت تسير على أقدامها لسبعة أيام بحثاً عن لقمةٍ واحدة!.
وها هي امرأةٌ أخرى يروي على لسانها أحدُ الذين زاروا مخيّمات الإغاثة حينها بأنها ذهبت بأبنائها إلى إحدى الجمعيّاتِ تاركةً إياهم فيها؛ معللة فعلَها بأنها على وشَك الموتِ جوعاً وهي لا تريد أن يرى أبناؤها ذلك ولا أن تراهم كذلك وهم يموتون جوعاً أمام عينيها!.
هناك في السودان في عام 1993م حيثُ الصورةُ التي التقطها المصوّر “كيفين كارتر” لطفلةٍ سودانيّة تبرزُ عظام جسدها النحيل جدّا وتنكبّ عليه رأسُها الكبيرةُ ومن خلفها ينتظرُ أحد النسورِ الجارحةِ وفاتَها ليتمكنَّ من التهامها وجبةً له هذا اليوم!.
وهنالكَ شهاداتٌ أخرى على مجاعات أخرى أكلَ فيها البشرُ لحومَ القطط والكلابِ هروباً من الموتِ أو إن شئتَ فقُل تعجيلاً به!.
واجبنا نحو مجاعات العالم والمنكوبين فيها
وبعد أن عرفنا غيْضاً من فيضٍ في هذا الشأن المؤلمِ الذي يؤرق الإنسانية ويكتب صفحاتٍ من العار في تاريخِ البشرية، ما واجبنا كي لا نكون سطراً متفرّجاً بين طيّاتِ العصور؟
- إنّ أول ما يدفعُنا إلى أن نتحرّك عن قناعةٍ تامّة بترك الخذلان جانباً هو المنطلق الإنساني والذي نصّت عليه كل الشرائعُ الدينية دون تفريطٍ منها في حقوق هؤلاء.
- فيجبُ أن ننشر عنهم، ونسعى حثيثاً أن يعرفَ كلُّ العالم مأساتهم، وأن ينالوا تعاطفهم وأن يعلمَ الجميعُ أن هناكَ عالَماً آخرا يكادُ لا يجدُ لُقمةً واحدةً يطعمها في يومٍ كامل.
- كذلك الدعمُ الماديّ يُعتبر أهم تلك الواجبات حيث يكون أثره ملموساً في تحسين حالتهم وإنقاذهم من بين رَحى الموْت والدفنِ بالجوعِ أحياءً.
- مد يد العوْن لهم بالمساعدات الغذائية والعلاجية حكوماتٍ وأفراداً كنوعٍ من التكافل المفروض لا الفضل والمَنِّ عليهم.
- محاولةُ الوقايةِ من تكرار مثل هذه المآسي سعيا للحد من انتشارِ مجاعات العالم طولاً وعرضا، شمالاً وجنوباً.
توعيةُ الأجيالِ الناشئة بالتاريخِ الأسودِ للإنسانيةِ كي يعرفوا أنّ الجوعَ عدوّهم، وعليهم أن يسعوا لقتلهِ وتخليص العالمِ منه.
“إن مجاعات العالم هي بحقٍّ عدوّنا الأولّ، والأوْلى بمحاربته قبل محاربة بعضنا البعض.”.
أضف تعليق