إلى وقت قريب كان العلماء يعتقدون أن لا وجود للغة القرود. وإنما الأصوات هي مجرد أصوات تعبيرية يحاولون بها التواصل بشكل بدائي، وتحتاج إلى تطور كبير إلى أن تصبح لغة. ولكن هذا الاعتقاد قد تغير تماماً في الأوان الأخيرة، لأنه مبني في الأساس على أفكار خاطئة عن كيفية نشوء اللغة وتطورها. وما اكتشفه العلماء حديثًا أن تلك الأصوات هي لغة القرود بالفعل. لها معاني وتراكيب ومحتوى ثابت، ونحن البشر لا نفهمها لجهلنا بها وكأنها لغة مشفرة ليس إلا. في هذا المقال سنتحدث عن لغة القرود بشكل أكثر تفصيلًا، ونفهم رأى العلماء وكيف عرفوا الأمر.
ما هي لغة القرود ؟ وكيف تستخدمها في التواصل؟
اعتقاد خاطئ
لاحظ العلماء ذلك المشهد مرارًا وتكرارًا ولكنهم لم يفهمه بالطريقة الصحيحة. المشهد هو عثور قرد على شجرة وبها ثمار لذيذة ناضجة، فيبدأ بالصراخ والفرحة. ثم يأتي صوت أخر يرد عليه من طرف بعيد من الغابة، من قرد أخر سمع صوت الفرحة. وأخيرًا تتجمع القرود كلها واحدًا تلو الأخر ليأكلوا سويًا. كان العلماء يفسرون هذا المشهد بطريقة خاطئة، إذ يظنون أنها مجرد أصوات تعبر عن الفرحة بإيجاد الشجرة، والقرود تتجمع لمعرفتها أن تلك الأصوات تعني وجود الطعام. كما إن هناك مشهد أخر متكرر، وهو ما لاحظه العالم Simone Pika، بين الشمبانزي البري. حيث تأتي القرود لتنظف شعر بعضها البعض، وعندها تصدر منهم أصوات معينة، يتحدثون من خلالها مع بعض لتحديد الأماكن التي يريد أن يتم تنظيفها.
باحث من جامعة اندريوس الإسكوتلندية، يدعى Klaus Zuberbühler. قام بدراسة لغة القرود، عن طريق ملاحظتها في المحمية الطبيعية بشمال أوغندا. ويقول بأن هذا التفسير أو الاعتقاد هو خاطئ جدًا. لأن الأصوات الصادرة والتي تسمى “rough grunts”، يستطيع القرد من خلالها تحديد نوعية ومدى نضوج الثمار، ليخبر باقي القطيع بذلك. فأفراد القطيع يعرفون تمامًا أين تنبت الثمار الجيدة، وعندما يسمعون النداء من ذلك القرد فهم سيرغبون في تفاصيل جودة هذه الثمار. حتى يكرروا ما إذا كان الأمر يستحق بالفعل أن يذهبوا إلى هناك أم لا. وعندما يصدر القرد ذلك النوع من الأصوات، سيأتي أفراد القطيع ويتجمعوا للأكل. إنها لغة لها معاني واضحة فيما بينهم، تمامًا كاللغة العربية بيننا نحن العرب، أو الإنجليزية أو غيرها.
عن طريق تحليل الحاسب الآلي، أظهر أن القرد لا يوجه كلامه إلى كل من في المكان. بل هو يوجه كلامهم إلى قرود معنيين، ويراعي مواضع هؤلاء القرود. وقد يختار عن وعي أن يصمت إذا وجد أن كلامه ليس في محله أو غير موجه للمعنيين بالأمر. فهي ليست لغة أو أصوات ميكانيكية غير متحكم فيها، بل هي فعل بسيكولوجية.
مفاجأة غير متوقعة
بالطبع النتائج السابقة عن لغة القرود، كانت نتيجة غير متوقعة أبدًا على أذهان العلماء. لأنها تثبت خطأهم في فهم كيفية ظهور اللغة البدائية ومسار تطورها إلى أن أصبحت عدة لغات كاملة بشكلها الحالي. لأن العلماء منذ الثمانينات يحاولون فك شفرة لغة القرود، حتى يتمكنون من فهم وإعادة تركيبها لتكوين معاني جديدة. وهم بالطبع فشلوا لأنهم يتعاملون هنا مع لغة بدائية، تحتاج إلى أن ننظر لها بمنظور مختلف. ولكنها لغة موجودة وتعبر عن نفسها بشدة.
بالطبع كان الأمر يتطلب الوصول إلى الإمكانيات الهائلة التي يملكها العلم في هذه الأيام. لأن التحليل الآلي هو فقط من أظهر أن أصوات القرود تتألف من عدة أطياف مختلفة. وذلك الأمر لن تميزه الأذن البشرية وحدها. ومن هنا تم إثبات وجود مجموعة كبيرة من التعابير المختلفة والمعقدة، عندما تندمج تلك الأصوات لتكون لغة القرود المفهومة والمعبرة بالنسبة لهم. والتي تظهر أكثر من خلال النزاعات للتعبير عن القوة والغضب، وأيضًا أثناء الطعام واللعب. ففي خلال النزاع على سبيل المثال، يكون هناك من قارب على الفوز وأخر قارب على الخسارة. الخاسر في تلك الحالة يبدأ في إصدار أصوات مختلفة عما كان يصدره قبلًا. في لغة القرود هذه الأصوات تعني الاستنجاد بأصدقائه وعائلته، ليأتوا ويساعدوه. أو طلب الاستغاثة لمن هو أعلى شأنًا ومرتبة في الهرم الاجتماعي من الذي قارب على الفوز. لأن الأعلى لو تدخل ستكون له مهابة وينتهي الصراع. وفي طلب النجدة يكون القرد مبالغ ودرامي جدًا في وصف حالته، لأنه في حالة ذعر من الهزيمة أو لأنه يستعطف القرود الأخرى.
أيضًا يوجد مثال أخر يؤكد أن القرود تعرف معاني لغتها جيدًا وتتحكم بوعي فيما تود أن تقول. والمثال هو إناث الشمبانزي البالغة. لأن إناث القطيع الأصلي تقتل أبناء إناث الشمبانزي التي تهاجر من قطعانها إلى القطيع الخاص بهم. لأن الإناث الأصلية تحاول المحافظة على مناطقها بجعل أبناءها هم الجيل الجديد للقطيع. ذلك الأمر يجعل تلك الإناث تحتاج إلى تلقيح من جديد، ومن المفترض أن هناك أصوات معروفة تطلقها الأنثى الشمبانزي أثناء عملية التلقيح، دليل على الحب والمتعة لجلب الذكور. إلا إن في هذا الظرف الاجتماعي الجديد لا تطلق الإناث تلك الأصوات المميزة. في محاولة منهم لتفادي استفزاز الإناث الأصلية في القطيع فلا يقتلون أبنائهم.
الفرق بين لغة القرود ولغة الإنسان
مما رأيناه سابقًا، نستنتج أن القرود قادرة على تحليل البيئة بعقلها. فتتفاعل معها بطريقة سليمة، بإنتاج أصوات ومعاني مميزة. الفرق بين لغة القرود ولغة الإنسان يكمن في اللسان. لأن بحسب التشريح لكلا الاثنين، فالإنسان قادر على تحريك لسانه أكثر بكثير من القرد. ولذلك لا يتحكم القرد في إصدار حروف مطابقة للحروف البشرية، ويكتفي بالأصوات المميزة والتي تحمل معاني بالنسبة لهم معروفة ومفهومة ولها قواعدها أيضًا، التي نشأت من خلالها تلك اللغة بينهم، تلك هي لغة القرود. فالأمر يعبر عن الخط الفاصل بين تطور الإنسان وبقاء القرد على ما هو عليه. لأن الطفرات الجينية التي مر بها الإنسان هي من سهلت من استخدامه للسانه، وأعطيه مجموعة كبيرة من الميزات الصوتية. ما زال القرد لم يصل إلى هذه المرحلة في التطور.
اختلاف أخر تجده بين لغة القرود ولغة الإنسان، وهذا الاختلاف موجود في الدماغ. المنطقة التي تسمى “Broca” في الدماغ البشرية، هي المسئولة عن التحكم في طريقة إطلاق الصوت وتميزه، حتى تتمكن أنت من إخراج حروف كلمتك. أما نفس تلك المنطقة موجودة في دماغ القرود، إلا إنها مسئولة عن حركة اليد، لا حركة اللسان. ولذلك من ضمن البديهيات التي قد تستنجها من هذه المعلومة، أن اللغة البشرية قد تطورت من لغة الإشارات قبل فترة زمنية بعيدة، وتكيف الدماغ مع هذا التطور فاختلافنا عن لغة القرود.
حركات القرود تتوافق مع لغة القرود
في تجربة للعالمين “Frans de Waal” “Amy Pollick” على مجموعة من شمبانزي القزم، ومجموعة أخرى من الشمبانزي الأقل تطورًا. واحدة منهما في معمل أبحاث بيولوجي، والمجموعة الأخرى في حديقة حيوان عادية. رصد العلماء 31 إشارة يدوية، و18 صوت أو تعبير من الفم، وكلهم مختلفين ومن الواضح أن لها مفاهيم ومعاني مختلفة ومميزة فيما بينهم. إلا إن حركات اليد في المجموعة التي تحتوي على شمبانزي أقل تطوراً، كانت الحركات لا تتوافق بشكل مستمر مع الظروف المحيطة ومع الأصوات. فيكون أمر ترجمتها أصعب ومعقد، لتغير احتمالات الترجمة لكل حركة وكلمة. أما الشمبانزي القزم فكانت يديه ولغته تتوافق معًا، ويندمجان معًا ويبدو أن المتلقي دائمًا يفهم ما يريد القرد الأخر قوله، وهو يرد عليه ويتفاعل معه أيضًا. كأنه حوار كامل بكل وسائل التعبير الممكنة بين شخصين.
ويؤكد العلماء، أن قدرة التواصل التي يمتلكها الشمبانزي القزم، كانت حلقة الوصل التي أوصلت الإنسان إلى قدرته التعبيرية العالية التي يمتلكها اليوم. ومن ثم تمكن من ترجمة أصواته إلى رموز وحروف، فوصلنا إلى فن اللغة والكتابة.
ترجمة لغة القرود
منذ الوقت الذي عرف فيه العلماء بوجود لغة القرود، كانت الخطوة التالية هي محاولة لعملية الترجمة لنفهمها. جاء التنفيذ في ديسمبر 2009، على يد علماء إسكتلنديين ومن منهم البروفيسور Klaus Zuberbuehler. وكانت الأبحاث تختص بفصيلة “الكامبل”، وهو نوع من القرود يعيش في غابات ساحل العاج. فتمكنوا من رصد أصوات تدل على معاني لغوية ثابتة وترجمتها إلى ما تماثلها عند الإنسان. فتأتي كلمة “كراك”، للتحذير من فهد (فهد بالتحديد) دخل المنطقة ويختفي بينهم. وكلمة “بووم” التي يحذر بها القرد أصدقائه من الأغصان المتساقطة. أما كلمة “هوك”، فهي تحذير عن نسر يطير في السماء ويشكل خطرًا على القرود.
ويؤكد العلماء أن الكلمات السابقة يمكن تغيرها، بتغير الحرف الصوتي الأول أو الأخير، لينتج تركيب مختلفة للمعنى. فالقرود تقوم بتغير بنائي على الكلمة الواحدة لينتج أكثر من معنى، على حسب الجملة والظروف البيئة. وهذا ما يفعله الإنسان بالضبط. فتكون تلك اللغة، هي أكثر لغات القرود تطورًا بين الكل. ولذلك كان من السهل وضع أكثر من جدول، للغة القرود ويقابلها في لغة الإنسان.
بعض المعاني الأخرى من لغة القرود
- بووم: انتبه، أغصان متساقطة، ابتعد.
- بووم بووم: تعالى إليَ.
- كراك: انتبه، فهد!
- كراك وو: انتبه (كتحذير بصفة عامة على أي شيء).
- هوك: هناك نسر فوق.
- هوك وو: تحرك إلى فوق (كإشارة لأمر الحركة إلى فوق).
- بووم بووم، كراك وو، كراك وو: انبته، شجرة تسقط.
- بووم بووم، هوك وو، كراك وو، هوك وو: نحن على مقربة من مجموعة أخرى من القرود.
ومن المثير أن نبرة الصوت نفسها قد تعني معاني مختلفة. فلاحظ العلماء أن إناث قرود rhesus، تقوم بتغير نبرة صوتها عندما تتكلم مع الصغار. سواء صغارها هي أو صغار الإناث الأخرى. لذلك يعتقد العلماء أن هذا الاختلاف يعني معاني أخرى في لغة القرود، بحيث تحاول الأنثى بث الطمأنينة في نفوس الصغار.
القرد فصيح الكلام
بعام 2004، تحديدًا في غابات البرازيل، وجد العلماء أفصح قرد والأكثر قدرة على استخدام لغة القرود. وهو القرد العنكبوت ذو الفروة الصوفية. لأنه يمتلك أكبر كم من التعابير التي يستخدمها في المخاطبة ببراعة. هو الأندر بين القرود التي تعيش في أمريكا اللاتينية، كما إنه الأكبر، ولذلك فعملية الدراسة مهمة صعبة جدًا. إلا إن العلماء رصدوا 534 صوت مميز، يستخدمهم القرد في تراكيبه اللغوية. وهذا الرقم هو المكتشف فقط، والتراكيب اللغوية من تلك الأصوات لا نهاية لها، تمامًا كلغة الإنسان الفصيح. ولذلك لم يتوصل العلماء حتى الآن إلى ترجمة كاملة لكل جوانب اللغة ومعانيها. قبل هذا الاكتشاف، كان الرقم القياسي لفصاحة القرود من نصيب القرد من نوع “Markattan”، وبرصيد 100 صوت فقط.
بالنهاية عزيزي القارئ، ليست لغة القرود هي وحدها الموجودة بجانب الإنسان في هذا العالم. إذ هناك دراسات جديدة تؤكد أن نباح الكلاب أيضاً، هو قاموس لغوي كبير ومعقد. ويتحدثون على الفرائس وحجمها وسرعتها وما إلى ذلك. ولديهم أيضًا نباح محدد للأشكال التجريدية مثل المثلث، وهو أمر يدعو للدهشة. أما لغة القرود فتبقى اللغة الأكثر اكتمالًا بالباقيين. ولها معاني وتراكيب، وحتى لهجات تخص كل فصيل عن الأخر.
أضف تعليق