لغة الرقص ، هل تبدو كلمة غريبة؟ ولكن لما لا. اللغة هي طريقة للتواصل بين البشر سواء كانت بالكلام أم بالمشاعر أو بتعابير الوجه، بالنسبة للغة الرقص فهي لغة تتكلم من خلال حركات الجسم كلها. كل حركة قد يفعلها الراقص تعبر عن شيء سواء للراقصة أمامه أو للمتفرج عموماً. ولكن فن الرقص يختلف من مجتمع لأخر ومن زمن إلى زمن فكيف يكون لغة موحدة؟ لا تخلط الرقص الفني والإيقاعي بتعريف الرقص في العموم لأن كل حركة تفعلها بجسدك هي رقص. فن الرقص ليس سوى مجموعة من الحركات المرتبة على نظام إيقاعي معين، ولكن الرقص في العموم يستطيع أي إنسان أو حتى حيوان أن يمارسه. إذا ما زالت لا تفهم الأمر جيداً تابع معي أكثر هذا المقال.
لغة الرقص اللغة العالمية لكل البشر
تعريف لغة الرقص بشكل أوضح
هناك ثلاثة أنواع للرقص، الأول الرقص الفني أي حركات مرتبة ومدروسة سواء متفق عليها مسبقاً أو هي رقصة محفوظة ونظام موحد، ومن هنا تتفرع كل أنواع الرقص الحديثة مع خلفية موسيقية مناسبة مثل الفالس والسالسا والرقص الشرقي والبالية والجاز والراب وغيرهم الكثير بحيث يتعدد مع كل ثقافة في العالم. النوع الثاني هو الرقص الترفيهي وهو الرقص لمجرد الرقص في النوادي والحفلات والأعراس ولا يوجد له طريقة متبعة بل فقط كما يحب الشخص أن يفعل مع الأخريين بكل حرية وجنون. النوع الثالث هو الرقص التعبيري وهذا هو اختصاص لغة الرقص، لأنه ببساطة ناتج من عفوية مشاعر معينة داخل الإنسان. على سبيل المثال: لاعبي كرة القدم يحبون أداء رقصة معينة أو اندفاع مميز لكل واحد فيهم عندما يحرزون هدف، وهو بذلك عبر عن فرحته بالرقص أي تكلم من خلال الرقص بدلاً من قوله أنا سعيد، ذلك هو المعنى الحقيقي للغة الرقص. عندما تأخذ من تحبه في حضنك وتلفه في الهواء أليست تلك حركة يفعلها الراقصون وها أنت تفعلها ليكون لسان حالك أنك سعيد برؤية من تحب. عندما تقف فارد صدرك لمن يضايقك ويداك بجانبك على شكل قبضة فأنت بذلك تعلن عن غضبك بحركات جسمك دون كلام، حاول أن ترى تلك الوقفة في رقصة الماتادور الإسباني ستجد أنها تشبهك جداً. إذاً لغة الرقص أكثر لغة يتم فهمها بالعالم وإن كنت من محبي مشاهدة برامج مسابقات الرقص لن تجد أن مشكلة في تحديد هدف الرقصة من خلال المشاعر الواضحة على الراقصين في حركاتهم مع الموسيقى الخاصة بهم رغم عدم فهمك للغتهم الكلامية. وليس عليك أن تكون خبيراً بالرقص حتى تعبر عن مشاعرك من خلاله أو يكون وزنك ورشاقتك مناسبة وإنما فقط عليك امتلاك قلب يفهم ما تعنيه المشاعر الإنسانية وتكون حراً في التعبير عنها، وقتها لن تجد مشكلة في استخدام لغة الرقص ليفهم من أمامك حالك وإحساسك.
هل الرقص وباء معدي
الرقص معدي هذا شيء أكيد، جرب أن تفتح موسيقى بصوت عالي مع بعض الأصدقاء وتبدأ ترقص بحركات عادية جداً وسطهم فقط كنوع من المرح والتعبير عن السعادة، ستجد أن واحداً تلو الأخر انضم إليك وبات الجميع يرقص بسعادة وهم لا يعلمون لماذا. عندما يبدأ الإنسان في سماع نغمات موسيقى يبدأ جسده يترحك لا إرادياً وكأن الجسم نفسه يعرف ما عليه فعله، من أقوال الجنرال اللنبي عن العرب بأنهم يتجمعون عند سماع صوت الطبول، أي كلما كان هناك أصوات طبول وإيقاع يتجمع العرب للرقص فهذا يجري بدمائهم. والعرب لديهم ثقافات رقص كثيرة جداً في كل البلاد العربية. في عام 1518 في إقليم الألزاس بمدينة ستراسبورغ وهي مدينة فرنسية حالياً، وقعت حالة هستيرية بين أكثر من 400 شخص وتم تسميتها بوباء الرقص. بدأت القصة مع امرأة تدعى فراو تروفيا حيث بدأت بالرقص في الشارع بحماس شديد وقد بدا عليها الجنون أولاً ولكنها حين استمرت بالرقص المستمر لمدة ستة أيام بدأ الناس بالانضمام إليها وكأنهم فهموها بلغة الرقص الخفية فيما بينهم فقط، بحلول الشهر التالي انضم لها أكثر من 400 شخص لا يكفون عن الرقص من رجال ونساء. نبلاء المدينة لاحظوا الأمر وسألوا الأطباء عن سبب هذا الرقص المستمر منهم من قال هذا وباء ناتج عن حركة في الأجرام السماوية وأخريين قالوا إن هؤلاء البشر من ذوي الدم الحار وهذا ما يدفعهم للقيام بالرقص بهذه الحماسة المدهشة. وجدوا الحل بالأخير في تركهم ليرقصوا على راحتهم بل بنوا لهم أيضاً قاعات مخصصة للرقص ومنصات خشبية بدلاً من الشوارع، وجلبوا لهم موسيقيين ليمتعوهم بموسيقاهم الجميلة. انتهى الوباء بعد شهر بموت البعض من الراقصين بسبب التعب والإرهاق أو ضربات الشمس لذلك تم تسميته بالرقص حتى الموت وبدون وجه سبب لأنه لم يكن إضراباً مثلاً بل كان لغة من نوعاً ما قد لا نفهمه لأننا لم نكن هناك. وتلك الحالة موثقة من قبل الكثير من الأطباء بذلك الوقت مع قسس الكنائس ومؤرخين مثل جون والر الذي قال بأن عداء ماراثون محترف لن يجاري هؤلاء الراقصين في حماستهم وتحركهم السريع.
علاقة لغة الرقص بتطور الإنسان
لغة الرقص قديمة قدم الإنسان نفسه ولدى بعض العلماء أراء في كونها ساعدت على تطور الإنسان خاصة في تطور اللغة. عندما تتعرف على بعض القبائل البعيدة عن الحضر والتي تعيش على عاداتها القديمة ستعرف أن الرقص جزء لا يتجزأ من الثقافة والتاريخ أيضاً يثبت ذلك الأمر. في قرية بجنوب أفريقيا يتم إقامة حفلة رقص كل فترة بقرع الطبول وصوت الإيقاع العالي والالتفاف حول النيران بلهبها الأحمر، والرقص بتعابير مخيفة وضرب الأرض بالأقدام بخفة وكأنهم يطيرون وأرجلهم على الأرض وهم يلحون بالمشاعل ويلبسون ملابس تقليدية من الريش والألوان المبهرة. لو زرت مثل تلك الحفلات يوماً ما ستشعر أن تلك هي الطريقة التي تواصل بها الإنسان حقاً قبل أن يتعلم الكلام، البدائية والغوغائية والحركات العجيبة هي السر تلك اللغة وهذا ما عرفه الإنسان القديم.
البروفيسور لورانس باريسونس قال بأن التاريخ يثبت أن لكل شعب نوع رقص معين ومميز وكأنها لغة تعبر عن شخصيته، وأن الرقص هو غريزة مزروعة بداخل أنفسنا مثل غريزة الأكل أو الجنس وإننا نحتاج للرقص. وهذا هو التفسير المنطقي لتحرك الأقدام عند سماع نغمة معينة حتى بدون أن ندري أو نتحكم بها. لورانس ومعه العالم ستيفن بروان تمكنوا من وضع نظرية عن كيفية ظهور لغة الرقص وكيف لها أن تترافق مع عملية تطور الإنسان. هذه النظرية تم استنتاجها من دراسة الرقص الاذيتي القديم بحيث يلبس الراقص نوع من العظام مغطاة بالزينة والريش وعندما يحرك جسمه يصدر من تلك العظام أصوات معينة، تماماً مثل الخلاخل أو الرقص النقري بالقدم اليوم. فلو تتبعنا أصل تلك الفكرة سنجدها قادمة من حمالات الصيد التي كان يقوم بها ذلك الشعب، وقبل كل حملة يجتمعون ليتأثروا سوياً كأخوة ويتعهدون لحماية بعض في حفلة الرقص، واختاروا العظام بسبب ما كانوا يسمعوه عندما يرتدونها وهي تتحرك عندما يجرون فتحولت من صوت رتيب يصدر منهم مع الجري في الصيد إلى لغة يتكلمون بها عن الأخوية في الاحتفال قبل أو بعد الصيد.
نفس ذلك الأمر تلاحظه عند تتبع النغم الشعري العربي عند شعراء الجاهلية لأن مصدر هو صوت أرجل الجمال الرتيبة مما دفعهم لا إرادياً إلى تنسيق الشعر ليعطي نفس النغمة المتكررة في نهاية الأبيات الشعرية.
مع الزمن تطورت لغة الرقص وتطور معه الإنسان كذلك فتحولت إلى شعائر دينية واجب تقديمها إلى الآلهة لهطول المطر، أو رقص أفراد القبيلة بطريقة تدل على مشاعر الغضب والقوة أمام الأعداء من القبيلة الأخرى حتى يخافوهم. ثم تطور ليكون لغة للدلع والإغراء عندما ترقص الزوجة لزوجها، وحمل معاني مختلفة من الحب والحنان فحتى الحضن هو نوع من الرقص. وليس مع الإنسان فقط فالطيور ترقص مع بعضها في الهواء في موسم التزاوج والقرود تقفز من شجرة لأخرى مع بعض، ويقف الشمبانزي يضرب بقبضته على صدره وهو يصيح ليدل على سيطرته على منطقته. حتى الإنسان يتفاعل مع الحيوان بلغة الرقص لأنها اللغة الوحيدة التي قد يفهمها الاثنان، تشاهد ذلك في السيرك عندما يلعب المدرب مع كلابه أو الفيل أو القرد والحيوان يقلد مدربه، وكذلك يسيطر الحاوي على الثعابين من خلال النظر إلى أعينها والرقص معها. إذاً لغة الرقص ارتبطت أشد الارتباط مع تطور الإنسان للتعبير عن نفسه.
الرقص يجري في الجينات
دليلاً أخر لتتطور لغة الرقص مع الإنسان كان في الدراسة التي أجرها البروفيسور رتشارد إبستين. قام بتحليل الحامض النووي ل85 راقص وراقصة من ثقافات مختلفة بالإضافة إلى ورقة اختبار أسئلة تختبر قدرتهم على التعايش والاندماج الاجتماعي، وتمت مقارنة النتائج مع غيرهم من غير الراقصين. النتيجة هي تشابه الراقصين في خصائص نفسية وقدرة على الاندماج بالمجتمع أكثر من غيرهم وكأنهم أسهل في التعبير عن شخصيتهم عن الباقيين. وذلك الأمر ناتج بالحقيقية إلى تشارك جينين بالحامض النووي يختلف عن أي شخص أخر. هذه الجينات مسئولة عن تشفير مستقبلات هرمون السيروتونين والفازوبريسين وهما المسئولان عن زيادة قدرتنا في الانتباه والتواصل الاجتماعي، وهؤلاء الراقصين لديهم بالفطرة قدرة أعلى في التواصل الاجتماعي موروثة في الجينات.
الدراسة الأحدث أشارت إلى نتيجة غير متوقعة ومفاجأة جداً، وفيها تم اختيار أفضل الراقصين ووضعهم تحت جهاز PET الذي يراقب تفاعل أدمغتهم. وسُمح لهم بالسماع إلى الموسيقى والرقص أو الرقص فقط أو السماع للموسيقى فقط وفي كل الأوضاع كانت النتيجة زيادة كبيرة في نشاط الدماغ تحديداً في منطقة صغيرة بالفص الأيمن. هذه المنطقة تقابل منطقة أخرى بالفص الأيسر تسمى برومكاس، وهي المسيطرة على اللغة وتتواصل عصبياً مع الفص الأيمن بالطبع. هذه الدراسة تدعم فكرة واحدة أن الإنسان بالأصل كان يتكلم بلغة الرقص والحركة ثم تحول إلى لغة ناطقة بدليل التقابل بين المنطقتين التي تتأثر بالرقص والأخرى التي تتأثر بالكلام المنطوق.
لغة الرقص في العلاج
من أغرب العلاجات التي توصل إليها البروفيسور كامون إيثيرات في جامعة واشنطن في مجال بحثه عن علاج لمعالجة مرضى باركينسون أن رقص التانغو قد يكون الحل. لو أن لغة الرقص بالفعل تطورت مع تطور الإنسان بما في ذلك التأثير الجيني والعصبي على الدماغ فإنها قد تساعد الإنسان المريض أيضاً إلى الرجوع إلى العمل العصبي السليم لدماغه. وهذا بالضبط ما يحتاجه مرضى باركينسون لأنهم فقدوا التحكم بالحركة بسبب خلل في إنتاج مادة الدوبامين، ومن خلال تعلمهم للرقص مثل التانغو فإن أدمغهم تعود وتتكيف بشكل طبيعي مرة أخرى. هذا العلاج لم يتم انتشاره بعد لكنه أعطى نتائج مرضية في الاختبارات.
أخيراً عزيزي القارئ لو كنت متشكك أن لغة الرقص هي لغة الإنسان الأولى بالفعل فانظر إلى الصم والبكم، فهم يستعملون الحركات لتتكلم فيما بينهم والتواصل مع البشر، وإن وضعوا أيديهم على الطبول فإن الإيقاع الذي يشعروا باهتزازه كافي لتحريك مشاعرهم، بدون قدرهم على السمع فقط الإحساس والنظر هذا كافي لمشاركة مشاعر الأخريين.
أضف تعليق