فلسفة ابن رشد هي عصارة علوم الطبيب والقاضي والفلكي والفيزيائي والفقيه العربي المسلم “ابن رشد” تلك الصفات ليست مبالغات في وصفه، بل هي علوم ومهن تحصل عليها وعمل بها، الفلسفة هي خلاصة الحكمة، ودائماً لا يوجد فيلسوف ليس بعالم بمختلف العلوم، وتفتح عقله على القضايا الإنسانية المختلفة، فبين العلوم الطبيعية من حساب وفيزياء وكيمياء، والعلوم الإنسانية من دين وتاريخ وآداب، وصلة ترشد صاحب العقل اللامع نحو الفلسفة والحكمة، نتعرف معاً على الفلسفة الخاصة بابن رشد وخلافه مع الغزالي العالم الجليل، ثم نطوف حول شخص ابن رشد وأصوله وأهم مراحل حياته العملية، التي بلا شك كان لها عظيم الأثر في نمو أفكاره وتوجهاته، وتكوين آراءه التربوية والفلسفية التي سنعرفها أيضا معا، وبالطبع نعرف معاً رحلة ابن رشد في الثقافة الإسلامية فله باع طويل من الجهاد الفكري، والمعارك القيمة، ونرى ابن رشد الأندلسي المسلم في عيون الغرب، ونختم مقالنا عنه بأهم إنجازاته الفكرية وكتبه ليبحر من يريد الإفادة في علمه بشكل أعمق.
استكشف هذه المقالة
فلسفة ابن رشد والغزالي
فلسفة ابن رشد تعارضت مع فلسفة الغزالي، فبالرغم من علم كلاهما إلا أن وجهات نظرهم تعارضت في بعض النقاط، وكان “تهافت الفلاسفة” و”تهافت التهافت” هما الكتابين اللذين سجلا هذا السجال الفكري بين كلا العالمين، كتب الغزالي كتاب “تهافت الفلاسفة” ردا على فلاسفة اليونان، ويعتبر الغزالي أول الفلاسفة المسلمين الذين عقدوا صلح مع الفلسفة اليونانية وقرروا خوض أفكارها لو بالرفض كما فعل في كتابه، ويقول الغزالي في مطلع كتابه أنه كتبه للرد على الأفكار الخاصة بالألوهية التي تركها فلاسفة اليونان، ولم يقف عند فلاسفة اليونان في نقده ولكنه هاجم من اتبعهم من فلاسفة مسلمين مثل ابن سينا والفارابي، كان الغزالي غرضه باختصار دحض كافة أفكار الفلاسفة القدام من سقراط وأفلاطون ومن تبعهم حديثا من حيث النظر للأفكار الخاصة بالوجودية، أما ابن رشد فقد كتب كتاب “تهافت التهافت” للرد على الغزالي بشكل واضح، لكنه في الوقت نفسه كتبه بفلسفته الخاصة.
فنجد ابن رشد في كتابه أحيانا يتوافق مع الغزالي وأحيانا يتوافق مع ابن سينا والفلاسفة اليونانيين القدام، لذا نجد في كتاب تهافت التهافت منظور أوسع لكلا الوجهتين، واستطاع أن يعيد طرح مسألة تكفير الفلاسفة ووجهات نظرهم، والمسائل الخلافية الشائكة طرحها الغزالي من باب هدمها، ببعد أكثر حكمة ومنطقية في بعض الوجهات في كتابه، ويعتبر بشكل عام كلا الكتابين من علامات الفلسفة الإسلامية وربما يفضل أن يتم قراءتهما بالتسلسل نفسه، فيقرأ للغزالي وللرد عليه من ابن رشد.
من هو ابن رشد
ابن رشد عاش في عصر دولة الموحدين، وهو من أسرة أندلسية ذات مكانة بارزة في الزعامة والفتاوى الفقهية، فله جد شهير بابن رشد الجد كان قاضي وفقهية للمذهب المالكي، كما كان إمام جامع وكبير مستشاري الأمير، وكان والد ابن رشد هو الآخر فقيه، ويدرس في جامع قرطبة، وله تفسير للقرآن وشروح للسنن، ولما وصل ابن رشد لعمر الثانية عشر ترك أبوه الفقه والقضاء وتفرغ للكتابة والتدريس، فترك مؤلفات عن الفقه والحديث والقرآن، ومات عام 563 وابن رشد في عنفوان فلسفته، فكان ابن رشد الحفيد حاضر لفترة سلطة الفقهاء على المجتمع ككل والسياسة في أواخر عصر المرابطين، كان الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق هو المعلم لابن رشد الحفيد، فحفظ كتاب الموطأ كاملا للأمام مالك، وكذلك كان أبو جعفر الترجالي معلمه، كما تتلمذ على يد أبيه والفقيه أبي مروان عبد الملك، وكوكبة من فقهاء هذا العصر في مختلف العلوم، وأخذ صغيرا إجازة أن يفتي في الفقه مع الفقيه أبي عبد الله المازري.
أهم مراحل حياة ابن رشد
فلسفة ابن رشد كانت نتيجة حياة صاخبة في دهاليز الفقه والسلطة والعلوم المختلفة، فكما وضحنا في النقطة السابقة نسبه وعائلته ودراسته صغيراً، نوضح أيضاً أهم المراحل في حياته الفكرية:
- عام 1169م تولى القضاء في إشبيلية ثم قرطبة، ثم استقال منها، وتم دعوته ليكون الطبيب الخاص بالخليفة الموحدي أبو يعقوب في مراكش، وأستمر هناك لمدة عشرة أعوام.
- كان خلال فترة عمله كطبيب يستعين به الخليفة بشكل خاص للقيام بالعديد من المهام الرسمية، وعلى أثر تلك المهام طاف بلدان كثيرة، وزاده الترحال حكمة وعلم.
- بعد وفاة الخليفة الموحدي، خلفه ابنه المنصور الموحدي، وبالرغم من قرب ابن رشد له والذي كان يعتبر بمثابة أستاذه، إلا أنه خاف من سلطته وعلمه، وكاد له من في البلاط حتى غضب عليه المنصور ونفاه من المغرب هو وتلامذته.
- انقلب الحال بعد تلك الفترة، وأعتبر ابن رشد وأفكاره منبوذة ومرفوضة من المسلمين، وبدأت فلسفة ابن رشد تواجه نيران الجهل والحقد السياسي:
- تم نفي ابن رشد في عهد المنصور إلى قرية اليسانة وحرق كتبه ومنع اسمه وتعاليمه، ومنع كتب الفلسفة ومنع التفكير أو الحديث عنها، وكان الظاهر ادعاءات بكفر ابن رشد، لكن الحقيقة أن خلف كل هذا خوف من تأثير ابن رشد على العامة، وخوف سياسي من التآمر على المنصور!
- استمر ابن رشد منفي هو وتلامذته وأستمر أهل المغرب ممنوعين من الفلسفة والعلوم لمدة سنتين من الظلام، حتى فاق المنصور وعرف أنها كانت محض مكيدة لا علاقة لها بالواقع، وأنه ظلم ابن رشد.
- فعفا عنه واستدعاه مرة أخرى، فعاد ابن رشد لمراكش، وجعله المنصور واحد من كبار البلاط ومستشار للدولة، وبدأ المنصور نفسه يدرس الفلسفة، ويهتم بها ويكرمها.
- لكن ابن رشد أصابه المرض بعد عودته بعام واحد، وتوفى عام 1198، ودفن في مراكش، لاحقاً تم نقل رفاته لمسقط رأسه قرطبة.
فلسفة ابن رشد التربوية
من أهم ما ميز فلسفة ابن رشد هو النواحي التربوية فيها، حيث أنه رأى أن التعليم والعلم هما السبيل الوحيد للتخلص من المشاكل السياسية والاجتماعية التي كانت تواجه الفترة التي عاش فيها، وأهم مؤلفاته التربوية هي الآتي:
- كتابه تهافت التهافت، وضح فيه أهمية الفلسفة في الإصلاح السياسي والمجتمعي، وكمصلح تربوي للنفس.
- جوامع سياسة أفلاطون، وهو شرح وترجمة وتلخيص لكتاب “جمهورية أفلاطون” ووضح فيه بشكل مفصل المقصود بالمدينة الفاضلة وسبل بنائها ووقايتها من الألاعيب، ودور أبنائها.
- كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وفيه فصل هام بين القضايا الفلسفية التربوية ووجوب العقل وتعرض فيه لأحكام الفلسفة وفكرة تعارضها مع الإسلام.
- والعديد من الكتب الأخرى التي تناول فيها التربية الإسلامية وملامح التفكير التربوي، وأسس بناء نظام تعليمي.
فلسفة ابن رشد الإسلامية
الفلسفة الإسلامية مصطلح يمكن تعريفه بأكثر من صورة، فهناك فلاسفة مسلمين نظروا للفلسفة كعلم ولم يربطوها بشكل مباشر بالدين، وهناك علماء مسلمين نظروا للفلسفة ليحكموا على علومها وأفكارها من وازع ديني ليحرموا بعضها، ويسمحوا ببعضها، هناك مدارس مختلفة للنظر إلى الفلسفة من الناحية الدينية، ويمكننا اعتمادهم في المدرستين الأساسيتين في فهم الدين الإسلامي” مدرسة النقل/ ومدرسة العقل”، فلسفة ابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم ممن تبعهم مثل ابن خلدون، تتبع بلا شك مدرسة العقل في شرح الأمور الدينية والنظر بشكل أوسع للنصوص والطقوس الإسلامية، ابن رشد حالة خاصة إذ أنه ينظر له بمناظير مختلفة بين العلماء المعاصرين له وما أشيع عنه خاصة في فترة الهجوم عليه ونفيه، وبين نظرة الغرب له التي سنتناولها لاحقاً بشيء من التفصيل، لكن ابن رشد بلا شك حاول سد الفجوة المُدعاة بين الفلسفة والدين، ومن أفكاره في هذا الشأن، استعمال العقل المنطقي في فهم الكون والخلق والتحليل الفلسفي أمر مكمل لفهم الدين وليس متناقض معه.
ابن رشد في عيون وثقافة الغرب
الغرب يعتبر ابن رشد أهم فيلسوف إسلامي حتى اليوم، وتم ترجمة كافة أعماله إلى اللغة اللاتينية وتأثر بأفكاره الكثير من علماء الغرب، ويعتبروا تابعين له، ومنهم “ميمونيديس” أو موسى بن ميمون، وهو فيلسوف وطبيب وعالم يهودي أستقر في مصر في نهاية حياته، وتأثر بأفكار ابن رشد تأثر واضح، كذلك الفيلسوف ألبرت الكبير، والعالم الغربي توماس أكويناس، وكذلك أثرت أفكار ابن رشد في الكاتب والمؤرخ الفرنسي آرنست رينو، المشهور بمعارضته للكنيسة الكاثوليكية بعد نقده للمصادر الدينية المسيحية بشكل علمي وتاريخي ودعوته لقبول هذا النقد، وحتى اليوم فإن لابن رشد حضور في ذهن وثقافة الغرب ويعرفوه باسم Averroes وهو موجود في لوحاتهم الفنية وتاريخهم، وكافة أعماله الفكرية مترجمة في مكتباتهم، في حين أن العلماء الذين حضروا عهده في الشرق كانوا أكثر ميلا نحو أفكار ابن سينا عنه، وربما لهذا دوافع سياسة أو ما شابه/ مثلا مثل مؤيد العربي، ويحي السهرودي.
أهم إنجازات ابن رشد الفكرية
يمكننا تتبع أهم إنجازات ابن رشد الفكرية عن طريق تتبع جوزيف كيني لها في تسلسلها الزمني كالتالي:
في سن ال 31 كانت أول مؤلفاته، وفترة الثلاثينات من عمره كانت كلها عبارة عن مؤلفات معتمدة على أفكار من سبقوه من فلاسفة ومنهم أرسطو معلمه الأول، وأيضا الفارابي في علم المنطق، والإسكندر وبطليموس في الطبيعة، وابن سينا في الفلسفة، وفي الطب لجالينوس، لذلك تلك الفترة كانت كتاباته تعد تأريخا لما لم نستطع الوصول له من أفكار هؤلاء وغيرهم.
- كتاب المختصر في المنطق.
- مختصر المستصفى وهو الضروري من أصول الفقه.
- الجوامع الطبيعية.
- المختصر في النفس “عن علوم النفس”.
- جوامع ما بعد الطبيعة.
- كتاب الكليات.
- ويلي تلك الفترة الثانية لابن رشد الشهير كمعلم وفيلسوف وطبيب، وتأتي أشهر أعماله في تلك الفترة كالتالي:
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
- كتب التلاخيص “العبارة/ القياس/ الجدل/ البرهان/ كتاب الحيوانات/ المجسطي”
- كتب الشروح الكبرى ومنها “البرهان/ ما بعد الطبيعة/ علم النفس”
- كتب ومقالات عديدة في مجال الطب.
- مئات المقالات الفلسفية والمراجعات الفكرية لشتى المجالات.
- الكتب التي ذكرناها أثناء المقالة مثل “تهافت التهافت”.
فلسفة ابن رشد واحدة من أهم ركائز العلوم الفلسفية عالميا، ويتميز عن باقي العلماء أنه كان أكثر مرونة مع الأفكار، ويحاول أن يجد وصلات بين الأفكار القيمة المختلفة أكثر من خلق فجوات، ومن المهم أن نطلع على ما قدمه أئمة العلوم من المسلمين، ونعيد إحياء تلك الفترة الذهبية من الحضارة والعلوم والفلسفة، لننظر بشكل أفضل نحو جذورنا ونتعرف على كيفية تحسين مستقبلنا، عن طريق استقراء لحاضرنا بمقدمات الماضي التي غابت عن وعينا، ابن رشد وابن سينا والفارابي وابن عربي وبعدهم ابن خلدون، أسماء تركت علامات في الحضارة الإنسانية ككل، وفي الحضارة الإسلامية والشرقية خاصة، ولقد ذكرنا نبذة تعريفية سريعة بحياته وطرق تحصيله للعلم والفلسفة ثم أهم ما ترك في مجالات التربية والتعليم الإسلامي والفقهي، وكان هدفنا من المقال هو التعريف بفكره بشكل مبسط، وخلق علامات للباحث ليتبحر، فإنه من الهام أن نذكر دائماً علمائنا وعلومهم وندرسها ونعرفها بشكل مستفيض.
الكاتب: شيماء سامي
أضف تعليق