سرقة الحياة ليست تعبيرا مجازيا، بل هي حقيقة قوية غير قابلة للتشكيك، وهناك الكثير من الأشياء التي تسرق حياتنا دون أن ندري، وللأسف لا نفيق من هذا الأمر سوى متأخرا، بعد انقضاء الكثير من السنوات في مطاردة السراب وملاحقة الأوهام، فيمكن للعمل أن يتسبب في سرقة الحياة دون أن نشعر، فنظل نطارد حلما بمنصب رفيع لا نشعر بالسعادة عند الوصول إليه، ثم نلتفت خلفنا لنجد حجم ما فقدناه في تلك الرحلة، فنرى الوقت الذي أهدرناه بعيدا عمن نحبهم من أهل وأبناء وأصدقاء، كما نرى حينها حجم ما فاتنا من المتع، وبالطبع لا نقصد هنا الدعوة للكسل والخمول، فقط ننبه على الأولويات، ونحذر من سرقة الحياة في أشياء ليست ذات قيمة، فكثيرا ما نكتشف سرقة الحياة بإهدارها فيما لا يهم وينفع، وأحيانا تنحرف بوصلتنا وننسى الهدف الرئيسي من كل ما نقوم به، وسنتحدث في هذا المقال عن سرقة الحياة وأنواعها، وسنناقش معا كيف يمكننا تجنب تلك السرقة الخطيرة لنحيا حياة ممتعة.
استكشف هذه المقالة
سرقة الحياة بالأحلام
يمكن للأحلام سرقة الحياة بسهولة، فعندما يداعبك أي حلم يسرقك من عالمك، فقد تكون مهندسا معماريا ويداعبك حلم الغناء، فتغمض عينك وتتخيل التفاف الجمهور حولك أملا في مصافحتك والتقاط صورة معك، وتتخيل شهرتك الكبيرة وملاحقة الكاميرات لك، فتتلذذ بالحلم وتنسى السؤال عن جودة صوتك من الأصل، وربما تترك وظيفتك المضمونة وترحل للدخول إلى عالم الغناء، فتترك ما تجيده بحثا عما تتمناه، وتقضي في هذا الطريق الكثير من الأعوام، ثم ينتهي بك الحال إلى الفشل الذريع، وبالطبع لا أحاول تثبيط عزيمتك، ولا أرجح الأمان على مطاردة الشغف، حاشا لله أن أقوم بهذا وقد تركت دراسة الطب خلف ما هو أقل أمانا لكن أفضله، لكني أتحدث عن قدرة الأحلام على سرقة الحياة بسهولة، وينطبق الأمر على حلم الترقي الوظيفي، ويحضرني هنا ذكر بطل رواية حضرة المحترم للكاتب الكبير نجيب محفوظ، فقد وهب البطل حياته كلها ليصبح المدير العام، ثم اكتشف سرقة الحياة هناك، وأنه لم يستمتع بالقدر الذي تصوره.
يمكن للمال سرقة الحياة
يمكن للمال سرقة الحياة أيضا، فكثيرا ما ننسى الهدف من جمع المال في حياتنا، فيصبح هو الهدف في حد ذاته، وهو تصور شديد البؤس، ولا يؤدي لشيء سوى المزيد من سرقة الحيـاة لأي شخص، فالهدف من المال هو ضمان الحياة الكريمة، ولا نفع للمال حين يتراكم في خزينة مغلقة، وأصبحنا نرى من الأثرياء من يعيشون حياة صعبة، وبالرغم من أموالهم الطائلة يكاد الواحد منهم يفضل تمزيق جلده على إنفاق القليل من المال، ويصبح شغله الشاغل هو مراكمة الأموال فوق بعضها، فترى من لا يجد الوقت لإنفاق ما جمعه، والأمر هنا لا يقتصر على الأغنياء فحسب، بل يمتد ليشمل طريقة الاختيار بين ما يكفيك وما يفوق احتياجك، فلا يعقل أن تعمل في ثلاث وظائف بينما يكفيك دخل وظيفة واحدة منهم، فالقاعدة هنا أننا نجمع من المال ما يكفي لحياة كريمة، دون أن نتعرض إلى سرقة الحياة بهذه الطريقة، فنقضي كل الحياة في جمع المال طوال الوقت.
النجاح المهني ليس كل شيء
من يعمل في وظيفة يحبها يعد محظوظا، ولكن أحيانا ما ينحرف هذا الحب عن مساره، فيؤدي إلى سرقة الحياة دون أن نشعر، فتجد من يحب عمله يقضي فيه كل وقته تقريبا، حتى أنك قد تجد البعض لا يعودون إلى منازلهم سوى للنوم، ولا يكون العمل هنا من أجل المال كما تحدثنا، بل أنهم يعملون بكل طاقتهم نظرا لحبهم وسعادتهم بما يقومون به، وليس أكثر إمتاعا بالنسبة لهم من إنجاز المزيد من العمل، ولا لوم عليهم في بحثهم عن متعتهم، بل أنه لمن الجيد الوصول إلى الشيء الذي تستمتع به، ولكني أهمس في أذن القارئ وأسأل هل هذه هي الحياة؟ فما هي سرقة الحيـاة إذن؟ أرى أنه مهما بلغ حجم الاستمتاع بالعمل تظل هناك واجبات والتزامات أخرى، فللأهل والأبناء والأصدقاء الحق في قضاء الوقت معنا، كما أن الراحة ليست أمرا ثانويا، وحتى الترفيه عن النفس ليس اختياريا، وربما نكتشف بعد التقاعد أن هذه هي سرقة الحيـاة.
الإفراط هو لص الحياة الأكبر
لا تحدث سرقة الحياة سوى من خلال الإفراط في أي شيء، حتى الأشياء النافعة تؤدي إلى سرقـة الحياة عند الإفراط فيها، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد ذكرنا منها الإفراط والمبالغة في السعي خلف المال، كما تحدثنا عن المبالغة في العمل، ويمكننا إضافة الإفراط في قضاء الوقت مع الأصدقاء إلى القائمة، فيمكن أن تكتشف سرقة الحيـاة بعد قضاء الوقت في الاستماع إلى مشاكل جميع من حولك، ولعلك تتذكر صديق واحد على الأقل تضيع حياته بهذه الطريقة، يظل يستمع إلى مشاكل الجميع ويساعد هذا ويعاون ذاك وتتعطل حياته هو، ولهذا تجد الأديان السماوية لا تطالب الإنسان بقضاء حياته في العبادة فقط، بل تحثه على العمل والزواج والاستمتاع بوقته أيضا، فالإفراط لا يؤدي إلى شيء نافع، فقط يؤدي إلى سرقة الحيـاة بسهولة، وما ذكرناه حتى الآن هو الإفراط في الأمور الجيدة، ولكن تصبح الأمور أسوء بالإفراط في الأمور الضارة قليلة النفع، فحينها تكون سرقة الحياة أكثر خطورة وسوءا.
احذر شغفك فقد يسرق حياتك
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الشغف، وتم إساءة استعمال هذا المفهوم بعدة طرق، فبداية تم التقليل من كل الأعمال البسيطة، حتى أضحى البعض يقوم بتشبيه كل الأعمال العادية بالموت، وكأنه ينبغي علينا جميعا أن نصبح كتابا وموسيقيين! وهو حديث ظالم أفسد حياتنا وقلل متعتنا، وأصبحنا نشعر بالسخط على أعمالنا بسببه، وهو ما أدى إلى سرقة الحياة في النهاية، وليس معقولا أن نقامر بحياتنا بحثا عن هذا الشغف الغامض، فالحياة قصيرة ولن نعيشها سوى لمرة واحدة، وليس منطقيا أن نبحر نحو المجهول أملا في شهرة واسعة وإنجاز غير مسبوق، فيجب رؤية معالم الطريق على الأقل، وما أحذر منه هنا ليس السعي خلف ما نحب ونستمتع به، بل أحذر من سرقة الحيـاة تحت هذا الستار، فيمكن أن نمتلك بعض الهوايات دون النجاح فيها تماما، ولن نصبح عظماء في كل ما نستمتع به، فأحيانا يجب علينا الاكتفاء بمشاهدة الأفلام دون التمثيل بها، وكذلك مع الغناء والتصوير وغيرهم.
التخطيط الجيد يجنبك سرقة الحياة
إذا تأملنا سرقة الحياة جيدا سنجدها أكثر حدوثا في الحياة العشوائية، فمن يعيشون اليوم بيومه ويمضون في حياتهم بدون خطط تضيع أعمارهم هباءا، وعلى العكس من ذلك تجد أصحاب الخطط هم الأكثر قدرة على إدارة حياتهم والتحكم فيها، ذلك أنه عندما نخطط لحياتنا جيدا نرى صورة كلية متكاملة لها، فيسهل علينا ملاحظة المشكلات فيها، فيمكننا تحديدا حجم ما ننفقه من وقت ومجهود في كل أمر، فنلاحظ حجم ما نقضيه في النوم وكم من اليوم نقضيه في العمل، وهو ما يؤدي بنا إلى السؤال عن حجم الفائدة من كل ما نسعى إليه، فعندما تقرر السعي خلف موهبة ما والمغامرة بما هو مضمون في حياتنا، سنسأل عن جدوى هذا السعي قبل المضي فيه، كما يمكننا حينها إدراك حجم ما يفوتنا من علاقات وحياة أخرى، فيصعب سرقة الحيـاة عند وجود الخطط، لذا يجب علينا تحديد أهدافنا بدقة، ويجب وضع الخطط الواضحة لكل ما نقوم به، ثم نراعي شمولها.
تنظيم الوقت هو حارسك الشخصي
سرقة الحياة هي قاتل قوي، ونحتاج جميعا لما يحمينا منها، وأفضل من يقوم بهذه المهمة هو تنظيم الوقت، فيمكن لتنظيم الوقت حمايتك من سرقـة الحياة المتكررة، إذ يعمل هذا التنظيم كحارس شخصي يرافقك في كل حياتك، فيجنبك الإفراط في أي شيء تحدثنا عنه، كما يجبرك تنظيم الوقت على التخطيط الجيد لحياتك، فيمكنك أن تعد جدولا لنفسك، وتحدد نصيب كل هدف لديك من الوقت، فتخصص ما تشاء من الوقت للعمل، وتخصص الوقت للأهل والأصدقاء، كما يقوم تنظيم وقتك بتوفير الوقت للتعلم وممارسة الرياضة وأي هواية لديك، فعند تجاوز الحد المخطط له في أي شيء يسهل عليك ملاحظة ذلك، وعندها ستتوقف عن الإفراط وتتدارك الخطأ، فلا تجور على حق أي من أهداف حياتك، وبهذا يصعب حدوث سرقة الحياة معك، فكلما سرقك شيء لدقائق إضافية تنطلق صافرات التنبيه في داخلك، وتجد عقلك يفكر في احتمالات ضياع باقي الهدف، فينتهي بك الحال إلى الالتزام بالمخطط اليومي الذي صنعته لنفسك.
في النهاية لا يوجد حصن منيع يحميك من سرقـة الحياة كليا، ذلك أن سرقة الحيـاة تحدث لنا جميها وفي كل وقت، وتحدث متخفية في الكثير من الأمور، فقد تحدث سرقة الحيـاة في إطار السعي خلف المال، كما قد تحدث خلف الأحلام المهنية الكبرى، وأحيانا ما تحدث سرقة الحياة في مقر عملك الذي تحبه، وتقضي فيه جل وقتك، وتنسى خلاله واجباتك مع الأهل والأبناء والأصدقاء، ويمكن للشغف أن يؤدي إلى سرقة الحياة في الكثير من الأوقات، ومن الضروري لتجنب تلك الخسارة الفادحة أن تدري وجوه سرقة الحيـاة الكثيرة، وأن تعرف أن التوازن هو المفتاح لعدم الوقوع فريسة أمام سرقة الحياة الوحشية، ومن الإفراط ما يسرق الحياة ويضيع العمر، سواء كان هذا الإفراط فيما يفيد وينفع أو فيما يضر ويهدم، وأخيرا يمكنك تجنب إضاعة الحياة بالتخطيط وتنظيم الوقت، بهم يمكنك ملاحظة حجم ما تهدره فتوقفه وتتدارك الأمر بحكمة، وأتمنى لك ولنفسي ألا تضيع حياتنا فيما نندم عليه بعد ذلك عندما نكبر ونهرم.
الكاتب: أحمد ياسر
أضف تعليق