كيف تصبح رجل دولة
إنّ الكثير من الناس بحكم قلّة اهتمامهم الحياة السياسيّة وقلّة متابعتهم للقضايا المتعلّقة برعاية الشّؤون يحصرون تعريف رجل الدّولة في الحاكم وبالنّسبة لهم رجل الدولة هو السياسي التابع للسلطة لا غير أي الحاكم والوزير والوالي… ولكن في الحقيقة من يتمتّع بوصف رجل الدولة قد يكون لحاكما أو واليا أو وزير وقد يكون فلاحا أو عاملا في صنع أو تاجرا فليس رجل الدّولة وصفا مرتبطا بالسّلطة مباشرة، بل قد لا يكون الحاكم والوزير والوالي رجال دولة إن لم تتتوفّر فيهم الميزات التّي تجعلهم كذلك.
من هو رجل الدولة
إنّ رجل الدّولة هو السياسي المبدع القادر على رعاية شؤون النّاس مباشرة عندما يكون في الحكم أو بصفة غير مباشرة عندما لا يكون في السلطة وهو الرّجل الذّي يتمتّع بعقليّة الحكم ومتمكّن من فنون الادارة. وهو الرّجل الذّي يتمتّع بعقليّة حلّ المشاكل والقدرة على التّأثير في سير العلاقات الخاصّة والعامّة في المجتمع. هذه حقيقة رجل الدولة وهذه الصّفات قد تكون في شخص موجود بين عامّة الناس ولا يكون في الحكم.
التّربة الملائمة لايجاد رجل الدولة
إنّ التّربة الملائمة لإيجاد رجل الدولة هي تلك الأرضيّة التّي تكون مليئة بالأحداث السياسيّة وتكثر فيها التطوّرات بحيث لا مكان فيها للركون والهدوء فيكثر الكفاح السياسيّ بين الأطرف السياسيّة والحاكم ويكثر الصّراع الفكريّ واختلاف وجهات النّظر في الحياة واختلاف العقليّات. هذه الأرضيّة تحدث هزّات عنيفة في ذهن الفرد الذّي يسلك طريق بناء شخصيّته القياديّة التّي تجعل منه رجل دولة فتكون دافعا للتفكير في الواقع ودافعا للبحث والتّدقيق في الأفكار والمفاهيم السّائدة في المجتمع وتبني فيه عقليّة التبنّي الفكريّ على أساس قطعيّ مطابق للواقع عن دليل فلا يجترّ الأفكار الموجودة اجترار نظرا لرواجها أو ترددها على لسان أناس مرموقين مثلا. كما تبعث هذه الأرضيّة في سالك الطريق نحو التحوّل إلى رجل دولة روح التّضحية وروح المنافسة والبذل من أجل الوصول إلى الغايات وتحقيق الأهداف فلا يأبه للتعرّض للاعتقال أو الأذى أو حتى الموت في سبيل قناعاته وسبيل التأثير في علاقات المجتمع بناءا على تلك القناعات التّي يحملها.
بناء رجل دولة
وحتّى تتمكّن من بناء رجل الدّولة فيك وتتمتّع بهذا الوصف لابدّ بداية من أن تمعن النّظر في حياة الانسان في هذا الكون بعمق واستنارة وتخلص إلى قاعدة فكريّة قطعيّة ثابتة تكون أساسا ومرجعا لكلّ حكم على واقع أو موقف تتّخذه وتكون قيادة فكريّة لك تدلّك على ما يجب أن تقوم به وما يجب أن تقبل به وما يجب أن تعارضه لأنّها الاجابة الصّحيحة على السّؤال المصيريّ: كيف يجب على الانسان أن يحي في هذا الكون؟ فإن توصّلت إلى اجابة قطعيّة لهذا السّؤال فكلّ ما تقوم به يكون مأمون العاقبة وفي الطّريق الصّحيح وتكون هذه الاجابة على السّؤال المصيريّ الدّافع نحو الحركة والمكيّف للسلوك والمقياس.
لابدّ أيضا من بناء مخزون فكريّ يخوّل سرعة الرّبط لأنّ من سمات رجل الدّولة سرعة البديهة وسرعة الرّبط ولا يكون ذلك بالتّعلّم فكثيرا ما تجد رجال دولة لم يدرسوا في الجامعات ولم يكونوا أصحاب شهادات عليا، بل يكون بالتّفاعل مع الوقائع والاستزادة بما يكفي لتفهمها وتفسيرها واتّخاذ الموقف تجاهها. فمثلا لو أراد رجل الدّولة تحريض النّاس على عدوان دولة مستعمرة لأرضه فلا ينكبّ ليدرس تاريخ الدّولة التّي تحتلّه ويدرس سياستها الاقتصادية ونظام حكمها… بل يتوجّه إلى فهم نقاط ضعفها وتحويلها إلى أهداف لضربها كأن يحرّض الناس على المستمعر بالتّركيز على جبن جنودها وعدم استعدادهم للتضحية والموت وزرع روح الاندفاع لدى أهل بلدك وتذكيرهم بما يجب أن يكونوا عليه مثلا.
كيف تؤثّر في السياسة العالمية ؟
قد يستغرب الكثير حين يقال لهم أنّه بامكان الفرد أن يؤثّر في السياسة العالمية فيكون الردّ كيف لشخص بمفرده أن يؤثّر في الدّول وهيكل العلاقات بين الدول؟ وكيف لفرد أن يؤثّر في الموقف الدّوليّ؟ وقبل الاجابة على السّؤال لا بدّ من توضيح حول العقليّة التّي يجب أن يتحلى بها السياسيّ الذّي يعمل على التّاثير في السياسة العالميّة. وهو أنّ المتتبع للأعمال السياسيّة والعلاقات الدوليّة والسّياسة العالميّة لايصحّ له أن يتتبعها قصد التّرف الفكريّ وزيادة المعلومات والمتعة العقليّة بل لابدّ أن يؤمن بأنّ تتبّعه للسياسة العالميّة إنّما هو من أجل رعاية شؤون العالم وصد التّأثير فيه وفق وجهة النّظر التّي يحملها. ولا يمكن للسياسيّ مهما بلغت قدرته على التّحليل ومهما بلغ عمقه في التّفكير أن يؤثّر في السياسة العالميّة لو اكتفى بالمتابعة والفهم فقط. كما أنّه على السّياسيّ أن يعمل على التّأثير في السياسة العالميّة دون اعتبار فرديّته وسيأتي التّفصيل في ذلك.
العمل على التأثير في السياسة العالميّة دون اعتبار الفرديّة
إنّ السياسيّ المؤثّر المدرك لحقيقة التّغيير والذّي يعمل على التّاثير الفعليّ في السياسة العالميّة هو السياسيّ الذّي يتجاوز فرديّته بالعمل على مستوى أكبر شيئا فشيئا إلى أن يصل إلى التّاثير في السياسة العالميّة ويكون ذلك أوّلا بالعمل على بناء الكتلة التّي تحمل رأيه وتتبناه فإن نجح في ذلك ينتقل بهذه الكتلة إلى المجتمع ويطرق بابه ويعمل على ايجاد الرّاي العام على فكرته مما يضمن له التّأثير في الدّولة التّي يعيش فيها من ناحية سياستها الخارجيّة، وهذا التّأثير يترتّب عليه تغيير وتنقيح في العلاقات مع الدّول الأخرى فيمكن أن تنشأ بهذا التّاثير معاملات جديدة وتوجد مصالح مشتركة مع دول وتفتر علاقات أخرى. وكلّما زاد التأثير في المجتمع زاد قدرتك على تغيير السياسة الخارجيّة للدولة فإن قوي رأيك في المجتمع مما يمكّنك من استلام الحكم فيها فيصبح من التّأثير في العلاقات بين الدول تأثيرا مباشرا.
صفات السياسي التّي يتمكّن من التّأثير في السياسة العالميّة
إنّ من صفات السياسي الذّي يتمتّع بالقدرة على التأثير في السياسة العالميّة هي العمق والاستنارة في التّفكير أي القدرة على البحث في أصل الأحداث وأصل نشوء العلاقات وأسس المصالح وربطها بمتعلّقاتها أي بما قبلها وما بعدها. كما أنّ من صفاته سرعة البديهة أي أنّه يتمتع بقوة فائقة وقدرات ذهنية عالية تمكّنه من سرعة الرّبط بين الوقائع والأحداث وبين المعلومات. ومن أهمّ الأوصاف التي يمتاز بها هي الاحساس المرهف الذي يمكّنه من تحسّس المشاكل وتوقّع مجريات الأحداث قبل وقوعها وذلك من خلال التّفطّن لمؤشّرات ودوافع نشوء المشاكل وهو الأمر الذي يفتقده أغلب السياسيّين الموجودين.
بناء العقليّة الواعية التّي تمكّن من التأثير في السياسة العالميّة
تبنى العقلية السياسية الواعيّة على أمرين هما: أوّلا المعلومات الكافية التّي تمكّن من تفسير الواقع والقيام بعمليّة الرّبط وثانيا الاحاطة بالواقع احاطة تامّة. أمّا الأول فيكون من خلال الاستزادة بالمعلومات قدر الامكان (تاريخ، الجغرافيا، الأحداث البارزة، الشخصيات المؤثّرة، طبيعة الشّعوب…) وهي اللبنة الأولى في بناء العقليّة السياسيّة الواعية فكلّما كانت المعلومات أكثر وأدقّ كلّما كانت هناك قابليّة فهم الواقع بشكل أعمّ وأشمل. أمّا الأمر الثاني فيكون من خلال دراسة الأحداث وربطها بما هو محليّ وما هو اقليميّ وعالميّ وتتبّع ما هو صراع حزبي وفئويّ في الوسط السياسيّ وتتبّع التحرّكات السياسيّة الفرديّة والجماعيّة. بعد ذلك يأتي الرّبط بين الأمر الأوّل والثاني للوصول إلى الحكم الأرجح على الواقع واتّخاذ الموقف الغالب على الظنّ تجاه الأمر الذّي يبحث فيه.
أضف تعليق