ربما سمع البعض عن صناعة الجلود من الحيوانات، ولكن لا يعرف الكثيرون عن دباغة الجلود . من فضل الله علينا أن وهب لنا الأنعام، لتكون لنا عونًا في هذا الحياة، طعامًا، وشرابًا، وأيضًا ملبسًا، ومن الجميل أن يمنح الله الإنسان عقلًا كي يمكِّنه من استغلال تلك النعم بالشكل الصحيح، فلم يقف أمام الحيوانات فقط لينال من لحومها، ولبنها، ولكن استطاع أيضًا أن يستغل جلودها، وصوفها، ليكون متاعًا، ودخلًا وصناعة، فوجدت دباغة الجلود ، والتي أصبحت صناعة تُدر الكثير من المال، والتي لا يمكن الاستغناء عنها قديمًا أو حديثًا، لذا فنحن هنا سنتعرف أكثر على دباغة الجلود .
استكشف هذه المقالة
الجلد
الجلد في اللغة يعني “المسك” وذلك لأنه يمسك اللحم، والعظم، والجلد المدبوغ، هو عبارة عن الجلد المعالج كيماويًا وفيزيائيًا عن طريق الدباغة، حتى يُحفظ من التلف، ويصبح صالحًا للاستخدام فيما بعد، من فراء الحيوانات.
ما دباغة الجلود ؟
هي عملية تحويل جلود الحيوانات إلى منتج يتم الاستفادة منها، واستخدامها في الكثير من الصناعات، وتتم تلك العملية بعد سلخ الحيوان، وعملية الدباغة تقوم بحفظ الجلود من التعفن، وتجعله متينًا ومرنًا، وصالحًا للاستخدام، لذا فإن الجلد المدبوغ هو مادة مرنة ومتينة، والماشية من أهم المصادر التي يُؤخذ منها جلود الحيوانات، كما يؤخذ أيضًا من الماعز، والغنم، والغزال، وأيضًا من جلود التماسيح، وأسماك القرش، والثعابين، والطيور.
ما الذي يصنع من الجلد المدبوغ؟
يُستخدم الجلد المدبوغ في صناعات كثيرة، فيستخدم في صناعة الملابس من قمصان، وقبعات، ومعاطف، وحقائب، وأحذية، وأحزمة، وبنطلونات جلدية، ومحافظ، كما يدخل في صناعة كرات اليد، وكرات السلة، والكريكت حيث يُصنع منه الجسم الخارجي لها، كما أن الجلد يدخل في صناعة السيارات والعربات في بعض الأجزاء. ويرجع استخدام الجلد المدبوغ إلى قدرته العالية على التحمل، ومقاومته العالية، وصلاحية استعماله لمدة طويلة، يوفر درجة من الحماية فيعمل على تخفيف الصدمات، يحافظ على شكله، وملمسه الناعم مدة طويلة، ملائم لجميع الفصول، كما أنه يقي من أشعة الشمس والحر، والمطر، والبرد، والرياح، ويعمل على امتصاص العرق، فيحافظ على جفاف الأقدام، لا رائحة له، والرائحة المميزة للجلد ناتجة من مواد الدباغة، كما أنه يمكن التحكم في طريقة صناعته ليناسب ما صُنع من أجله، فمن الممكن أن يُصبح مرنًا مثل القماش، أو صلبًا مثل الخشب، وبهذا فإن أنواع الجلود تتراوح بين الصلب، والرقيق، لذا فإن دباغة الجلود وصناعتها علم كامل يحتاج إلى الكثير من المعرفة، والبحث والتنقيب.
الجلد المدبوغ في صناعة الأحذية
يدخل حوالي 80% من صناعات دباغة الجلود في صناعة الأحذية، وفي تلك الصناعة يوجد نوعان من الجلود المدبوغة، جلد الطبقة العلوية من الحذاء، وجلد نعل الحذاء، وجلد الشمواه، والجلد الناعم. فالطبقة العلوية من الحذاء تصنع من شق الجلود السميكة، أو من الجلود الرقيقة من العجول الصغيرة، أو الماعز، بينما تصنع جلود النعل من الجلود السميكة للماشية، أو الحيوانات الكبيرة. أما جلد الشمواه فهو جلد يتميز بنعومته، واحتفاظه بالماء مثله مثل أنواع القماش، ويصنع جلد الشمواه أساسًا من حيوان الشمواه أو حيوان الظبي، وهو حيوان يعيش في آسيا، وأوروبا، ولكن في الوقت الحالي يُصنع الشمواه من شرائح من جلود الأغنام. أما الجلود الناعمة فتتميز بنعومتها، ومقاومتها للماء، وتستخدم في صناعة الفساتين، والبنطلونات، والمعاطف، وغيرها. وتصنع الجلود الناعمة غالبًا من فراء البقر من الطبقة الداخلية بعد الكشط، أو من جلود الماعز والأغنام قديمًا.
استخدام الجلود قديمًا
استخدم الإنسان القديم جلود الحيوانات ليغطي بها جسده، وبعد اكتشاف أن تلك الجلود كانت قابلة للتفتت، والقطع، فحاول تجفيفها قبل الاستخدام مما ساعده على تقليل تمزقها. وهناك عدة طرق بدائية استطاع الإنسان قديمًا دباغة الجلود أو معالجتها عن طريقها، فاستطاع أن يُعالج الجلود بالزيوت والتدخين، حيث أنه قد تم العثور على بعض الجلود المُعالجة بالزيوت في بعض المقابر الفرعونية. وهناك بعض الطرق الأخرى القديمة لمعالجة الجلود، كانت تتم عن طريق وضع طبقة من لحاء الشجر، أو الفواكه، ثم إضافة الماء إليها، ولكن هذا الأمر كان يستغرق مدة طويلة، ومما يدل على استخدام الإنسان لـ دباغة الجلود ؛ العثور على ألبسة جلدية تمت خياطتها، في المناطق الأوروبية، وآسيا، وهذا دليل على استخدام الإنسان القديم الملابس الجلدية المدبوغة منذ 30 عام. كما أن المصريون القدماء استخدموا أحذية جلدية مدبوغة، وكانت متينة جدًا، واستخدموا الجلود أيضًا للكتابة، لحفظ المخطوطات، وأيضًا وجدت الجلود المدبوغة في بلاد فارس، والمشرق العربي، والصين، ومنغولية القديمة. كما استخدمت الجلود المدبوغة قديمًا في حفظ الماء، والطعام، حيث استغل الإنسان خاصية عدم نفاذ الماء خلال الجلود لذلك. وأيضًا استخدم العرب دباغة الجلود في الكثير من شئون حياتهم، في الأحذية، والأربطة، والأحزمة، والسروج، وبطانة للملابس، وأوعية، والدروع، وحقائب السفر، وتجليد الكتب.
تجهيز الجلد لعملية الدباغة
تبدأ دباغة الجلود بإعداد الفرو، حيث يمر الفرو بعمليات تجهيزٍ معينة تتمثل في: المعالجة، وإزالة طبقة اللحم الملتصقة بالفرو، ونزع الشعر، والضرب. عملية المعالجة تجرى للجلود قبل أن يتم نقلها إلى المدابغ، وتلك المعالجة هامة للحفاظ على الجلود من التعفن، وفي تلك العملية يتم وضع الملح على الجانب اللحمي، أو يتم نقع الجلد في محلول ملحي، أو عن طريق التجفيف أولًا ثم التمليح، أو يكتفى بتجفيفها فقط، وبعد هذه العملية يتم رص الجلود في أسطوانات مائية دوارة، حيث يقوم الماء الذي في الأسطوانات بإزالة الملح، وجعل الجلد رطبًا. ثم تأتي مرحلة إزالة طبقة اللحم، حيث يتم تمرير الجلود عبر آلة لنزع اللحم، وهي مزودة بسكاكين حادة لنزع كل الدهون واللحم، وتتم هذه العملية قبل نقل الجلود إلى المدابغ. ثم تأتي عملية نزع الشعر، حيث يتم وضع الجلد المنزوع منه اللحم في أحواض بها محلول ماء الجير، ونسبة صغيرة من كبريتيد الصوديوم، حيث يعمل المحلول على إضعاف جذور الشعر كيميائيًا، وفي خلال أيام قليلة يُنحت الشعر، وحينها يتم تمرير الجلد على آلة لنزع الشعر، حيث تقوم بإزالة الشعر تمامًا، ثم تُكرر عملية نزع اللحم من الجلد لإزالة القطع المفككة نتيجة إزالة الشعر، ثم ينظف الجلد بالماء، ثم تأتي عملية الضرب، حيث يتم ضرب الجلود عن طريق وضعها في حمام من الحمض متوسط القوة حتى تعادل محلول نزع الشعر من قبل، وتعمل على تفكيك الإنزيمات الذائبة، وهذه الخطوة ضرورية، حيث أنه لو لم تعادل محاليل إزالة الشعر القلوية فستعمل على منع محاليل دباغة الجلود من اختراق الجلد، وبهذا تصبح جاهزة لدباغتها.
طرق دباغة الجلود
تتم دباغة الجلود بأكثر من طريقة، وهناك أربع طرق رئيسية لعملية الدباغة وهي: الدباغة النباتية، والدباغة بالكروم، والدباغة المختلطة، والدباغة بالزيوت.
الدباغة النباتية
حيث تسخدم في الدباغة مادة التانين، وتلك المادة يتم الحصول عليها من بعض النباتات، مثل أشجار البلوط، أو أشجار المانجروف، أوأشجار السنديان، أو أشجار الكيوبراكاو، أو أشجار الشوكران. حيث يتم وضع الجلود في أحواض كبيرة من محلول الدباغة، الذي يتكون من ماء ومادة التانين. ويقوم العمال بزيادة تركيز المحلول حسب الوقت الذي تترك فيه الجلود في المحلول، وتستغرق دباغة الجلود بالطريقة النباتية غالبًا من شهر إلى ثلاثة شهور، كما أن الجلود السميكة قد تستغرق سنة كاملة لتتم دباغتها، والدباغة النباتية تكسب الجلود صلابة، ومقاومة عالية للماء، كما أنها تكون مشبعة بالدهون، والزيوت، فتجعلها طاردة للماء، وتلك الجلود تستخدم في تجليد الكتب، وصناعة الجلود الخاصة.
الدباغة بالكروم
حيث يُستخدم في عملية الدباغة محلول من أملاح الكرومات “مركبات الكروم”، والدباغة بطريقة الكروم من أكثر أنواع الدباغة انتشارًا. قبل أن تتم عملية الدباغة تحفظ الجلود في محلو من حمض الكبريتيك والملح، وتستمر تلك العملية حتى تصل الجلود إلى درجة معينة من التركيز الحمضي، ثم تتم إزالتها وتغسل، ثم بعد ذلك توضع الجلود في أسطوانات بها ماء، وكبريتات الكروم، حيث تكتسب الجلود لونًا أزرقًا بسبب كبريتات الكروم، وتتم الدباغة بطريقة الكروم في ساعات قليلة، عكس الدباغة النباتية، التي تستغرق وقتًا أطول –كما ذكرنا- ويتميز الجلد المدبوغ بالكروم بقدرته على مقاومة الحرارة، والخدش، كما أنه يتسم بالمرونة، وتستخدم الجلود المدبوغة بالكروم في صناعة الأحذية، والقفازات، والمحافظ، والأمتعة، وقد تعاد دباغة الجلود ثانية باستخدام الدباغة الصناعية، هذا لإكسابها خصائص معينة.
الدباغة المختلطة
وتلك الطريقة يتم فيها استخدام دباغة الجلود بالطريقتين النباتية، وبالكروم، حيث تستخدم في إنتاج جلود بخواص معينة، مثل الجلود شديدة النعومة، أو القفازات، أو الأحذية، حيث تتم دباغة الجلود في المصانع إما عن طريق الدباغة بالكروم، أو بالكروم ثم الدباغة النباتية.
الدباغة بالزيوت
وتلك الطريقة تستخدم لصناعة جلد الشمواه، حيث تتم إزالة الصوف من جلد الماشية، ويتم شق الجلد إلى طبقات، ويتم استخدام الطبقات القريبة من اللحم في صناعة الشمواه، ثم يتم كشط الدهون، ثم يتم وضع الجلود بعد عملية الكشط في آلة تحتوي على مطارق تعمل على دفع زيت كبد الحوت داخل الجلد، وبعد أن تخترق الزيوت الجلد يتم إخراج الجلود من الآلة ويتم تجفيفها عن طريق فردها، وهذه الطريقة تستخدم في دباغة جلود السرج، وجلود الآلات، وأحيانًا تتم دباغة الجلود بالكروم قبل دباغتها بالطريقة الزيتية.
المراحل النهائية لـ دباغة الجلود
تبدأ عملية الفصل، حيث يتم إخراج الجلود من محلول الدباغة حتى يجفف، ثم توضع الجلود في آلة، حيث يتم شقها إلى طبقتين، طبقة عليا، وطبقة سفلى، وتقسم الجلود حسب الأعضاء المأخوذة من جلد الحيوان إلى أربعة أقسام، فمثلًا الجلد المأخوذ من البطن يكون رديئًا إذا ما قورن بالجلد المأخوذ من الأرداف، أو الجلد المأخوذ من الرأس، حيث أن الجلد المأخوذ من البطن يكون قابلًا للتمدد، وغير مستوي. ثم تأتي مرحلة الصباغة، حيث يتم صباغة الجلود في أسطوانات كبيرة عن طريق العديد من الصبغات، مثل صبغات الخشب الطبيعية، والصبغات الحمضية، وتتم عملية الصباغة عن طريق مزج الجلد مع خليط من مادة الصباغة، والماء الدافئ، والزيت، ثم يتم تجفيف الجلود عن طريق لصقها في أحواض زجاجية، أو رقائق معدنية، أو تثبيتها على ألواحٍ خشبية، ثم تأتي مرحلة الرص، حيث يعاد ترطيب الجلود مرة أخرى بوضعها في غرفة تحتوي على درجة عالية من الرطوبة، ويتم وضعها بعد ذلك في آلة الرص، وتشد الجلود بأوتاد من الفولاذ، حتى يصبح الجلد طريًا أكثر، ثم تأتي عملية التشطيب النهائية، حيث يتم رش الجلد بمادة التشطيب التي هي عبارة عن البروتين الموجود في الحليب، ومواد أخرى تأخذ من الدم والحليب، والشمع، والزيوت، ثم يتم تمرير أسطوانة من الفولاذ فوق الجلد حتى يصبح ناعمًا أكثر، وأكثر لمعانًا، ويسمى حين ذلك الجلد النموذجي، حيث يتم وضع طبقات من الورنيش فيكسبه لمعانًا شديدًا.
كما رأينا فإن الإنسان قد استطاع أن يدرك أهمية الجلود في الكثير من استعمالاته منذ الأذل، كما استطاع أن يتوصل إلى أمر الدباغة أيضًا، فـ دباغة الجلود ضرورة ملحة، كما أن استخدام الجلود ضرورة ملحة أيضًا لا يمكن الاستغناء عنها.
أضف تعليق