تشكيل الإلهام هو أحد العوامل الرئيسية التي تدلنا على كيفية سير العملية الإبداعية، فالإبداع يهتم بشكل عام بتساؤل كيف تأتينا الأفكار الجديدة، وتشكيل الإلهام على الرغم من أهميته القصوى يعد مجرد خطوة على طريق العملية الإبداعية، فتشكيل الإلهام لا يتم إلا حين الاقتران بعمل تحليلي يسبقه، وقبل التحدث عن عملية تشكيل الإلهام حري بنا في البداية تناول مفهوم الإبداع؛ ذلك المفهوم الذي طالما ظل ضبابيا وغير واضح المعالم ومستعصيا في الوقت ذاته على الصياغة الدقيقة، وإذا وضعنا افتراض أن الإبداع هو الإتيان بشيء جديد لهذا العالم فالمبدعين وقتها سيكونون فقط هم العلماء والكتاب والموسيقيون، ولكن الدكتور “جون كونيوس” بروفيسور علم النفس بجامعة “دركسل” قام بدحض هذا الرأي، حيث يرى كونيوس أن الإبداع عملية تتعلق بطريقة التفكير وليس المنتج النهائي. وبالتالي عملية تشكيل الإلهام تتعلق بالكل وليس فقط الندرة القليلة من الخارقين الذين يأتون بالجديد لهذا العالم.
استكشف هذه المقالة
عملية قياس الإلهام
عملية تشكيل الإلهام وفقا ل “مارك بيمان” أستاذ الإدراك العصبي بجامعة نورث ويسترن تعد أقل صعوبة بالنسبة لتعريفها ودراستها – على عكس الإبداع- وذلك لأنها تحدث في لحظات بعينها وبالتالي يمكن عزل تلك اللحظات والقيام بفحصها وتحليل خصائصها.
ويمتلك العلماء مؤشرات محددة تدلهم على أن هناك نشاطا معينا قد حدث في العقل أثناء لحظات الإلهام، وعندما يقوم العلماء بدراسة لحظات الإلهام بالمختبرات فإنهم يهتمون بشكل خاص بمعرفة الظروف المساعدة التي تؤدي إلى لحظات تشكيل الإلهام، فطبقا لدراسة حديثة يعتبر تتبع نظرات الناس أثناء محاولة حل الاختبارات محدد للإمكانيات الإبداعية للإنسان ووفقا لهذه الدراسة يقوم العلماء بعرض سلسلة من الكلمات على المشاركين وعليهم التفكير في كلمة واحدة فحسب يمكنها الاقتران بالكلمات الأخرى بشكل منطقي، على سبيل المثال كيفية إيجاد كلمة تناسب جميع الكلمات التالية؛ “صنوبر” “فاكهة” “مرق” يُذكر أن الباحثين أرادوا من هذا الاختبار معرفة العلاقة بين اتجاهات عيون الأشخاص ومعدل وميضها وبين طريقة التفكير، وقد تبين للباحثين أن الذين يقومون بالتركيز على الاحتمالات المنطقية لكل كلمة يفكرون بطريقة تحليلية على نطاق ضيق، أما الذين ينظرون للكلمات الثلاث دون التركيز على كلمة بعينها فإنهم أكثر ميلا للتفكير بشكل موسع وأرحب وهذا النمط الأخير من التفكير هو الذي يساعد بشكل أكبر على تشكيل الإلهام.
محفزات تشكيل الإلهام
تشكيل الإلهام له محفزات تساعد على شحذ القدرة الإبداعية للأشخاص؛ وربما يكون من المثير معرفة أن الكافيين أو تناول القهوة ليس من ضمن تلك المحفزات وذلك على عكس الشائع مجتمعيا؛ فتناول القهوة باستمرار يساعد على التركيز العقلي ولكنه في الوقت ذاته يعرقل الجزء الإبداعي الخاص بتشكيل الإلهام، فهو يقوي التركيز مقابل تعطيل القدرة على التفكير بشكل رحب وأكثر تجريدا.
أما محفزات تشكيل الإلهام التي تساعد بشكل رئيسي على إيقاظ الأحاسيس الفنية وتوليد المعاني وانهيال المفردات، فتنقسم إلى؛ محفزات داخلية ترتبط بالشخص نفسه بشكل مباشر وتستفز موهبته ومن ضمن المحفزات الداخلية الظروف النفسية والاجتماعية التي يمر بها الشخص مثل الغربة والألم والحب، أو سياقه المجتمعي العام كالوظيفة والأصدقاء والأسرة.
وبالنسبة للمحفزات الخارجية لتشكيل الإلهام فهي الرياضة والقرية والمدينة والسينما والطقس، ولكي يتسنى للشخص المبدع شحذ قدرته على تشكيل الإلهام بشكل أقوى عليه تغيير الروتين اليومي بشكل منتظم؛ كأن يغير من أماكن الأثاث في المنزل أو يغير من اتجاه الطاولة على سبيل المثال، عليه كذلك أن يستيقظ مبكرا فساعات الصباح الأولى لها مفعول السحر فيما يخص الجانب الإبداعي، وهناك أيضا اللجوء لتجربة أطعمة جديدة لم يتم تناولها من قبل ويفضل قيام الشخص بطهي تلك الأطعمة بنفسه في المنزل؛ فخلط مكونات الطعام معا بدون اللجوء للوصفة المعروفة يذهب بالشخص لعوالم مختلفة عن تلك التي يعهدها دائما، ومن الطرق الأخرى لتغيير الروتين الذهاب لمقهى شعبي ومراقبة سلوك المرتادين للمقهى فمن شأن هذه التجربة أن تثري الجانب الأيسر من المخ الذي يقوم برصد السلوكيات وبالتالي ستفتح أبواب الإبداع الموصدة للشخص المبدع، ومن الأنشطة الأخرى التي تساعد على تشكيل الإلهام دون أن ندري؛ ترتيب المكتبة المنزلية باستمرار وتغيير الأماكن المألوفة للكتب، تعلم هواية جديدة أو تطوير هواية موجودة سلفا، تصفح يوتيوب من أجل الإبحار حول العالم ومشاهدة التطور الحاصل في جميع مجالات العلم المختلفة.
يُذكر أن تشكيل الإلهام يحتاج كذلك لبعض الوقت؛ فإذا كان الشعور بالتطور الوظيفي مهم فهو ممل في الوقت ذاته ما لم يصاحبه تنمية الجزء الإبداعي والإحساس بالإنجاز خارج نطاق العمل.
هل ننتظر حتى يتشكل الإلهام حتى نبدع
تشكيل الإلهام على أهميته الكبرى ينبغي ألا يتحول إلى حجة واهية لدى المتأخرين على إنجاز أعمالهم الإبداعية بحجة عدم تواجد الإلهام، أو تعثر تشكيله بشكل مكتمل، فقد أوضحت الدراسات العلمية الحديثة أن الإبداع في مراحله المتقدمة لا يرتبط بوجود الإلهام المحفز في كل الأحيان، فالركون إلى انتظار الإلهام يصح في المراحل الأولى من الإبداع أو بالأحرى في فترة المراهقة الإبداعية حين لا يزال الشخص مشروع مبدع لم يمتلك بعد رؤيته وقدرته التحليلية وأدوات الإبداع، في تلك المراحل الأولى على الشخص التركيز بشدة على تطوير قدرته على تشكيل الإلهام الخاص به وفور عبور تلك المرحلة التي تعد حجر الأساس بالنسبة لكل مبدع، يتم بعدها الاستعانة بأسلوب المثابرة الذي يعد فنا يمكن تعلمه بسهولة في حال توفرت الإرادة القوية والهدف الذي يسعى الشخص لتحقيقه، هذا الهدف الذي يفضل تقسيمه إلى أهداف طويلة الأجل وأخرى قصيرة الأجل؛ فالانتصارات الصغيرة لها مفعول سحري في التحفيز نحو الهدف الأساسي.
وعليه فالتجربة الإبداعية تجربة شديدة الثراء والتعقيد؛ هي رحلة طويلة جدا يلزمها الكثير من المؤن، أول الرحلة يجب أن نستعين بتشكيل الإلهام وفي منتصف الطريق يكتمل هذا التشكيل فتتخطى العملية الإبداعية فكرة تشكيل الإلهام إلى مرحلة الابتكار الذاتي، يصل بعدها المبدع إلى مرحلة النضح الإبداعي التي لا تكتمل بدون تواجد مصدر أصيل يساعد على توهج جذوة الإبداع وديمومتها وإمداد المبدع بكل أحلامه هذا المصدر هو المثابرة وتكرار التجربة؛ فعندما تستند العملية الإبداعية على سعة الحياة وأحلام النفس البشرية وازدهارها وخرابها وعقدها وانحدارها واختلاف نزعاتها يكون المبدع قد وصل بذلك على مشارف انتهاء رحلته الإبداعية.
قالوا عن انتظار تشكيل الإلهام
تشكيل الإلهام هو حلقة المنتصف من سلسلة الإبداع الطويلة وهي ترتبط بسابقتها ولاحقتها حتى لا ينقطع المدد وتتوقف العملية الإبداعية في المنتصف، وقد تحدث عن تشكيل الإلهام الكثير من المبدعين حول العالم؛ فعلى سبيل المثال ذكر “توماس أديسون” أن النجاح يعتمد على تشكيل الإلهام بنسبة 1 في المائة ويعتمد على بذل الجهد بنسبة 99 في المائة، وقال الروائي “جاك لندن” أنك لا تستطيع انتظار الإلهام ولذا عليك مطاردته بالهراوة، كما أضاف الروائي “وليام فوكنر” بأنه لا يكتب إلا عندما يشعر بالإلهام وأنه يشعر بذلك الإلهام تحديدا في التاسعة من كل صباح وينصح كل مبدع مبتدئ أن يستثمر ساعات الصباح الأولى في الاهتمام بمساره الإبداعي.
ختاما فالإبداع ذلك المفهوم الضبابي والجميل في الوقت ذاته يحتاجه كل شخص منا للتخفيف من وطأة الواقع شديد القتامة، ولكي نرعى ذلك الجانب السحري من حياتنا كما يجب علينا التركيز على تشكيل إلهامنا الخاص بنا بطريقة صحيحة، فالتعبير عن دواخلنا وإظهار ذلك التعبير للنور ليس بالأمر الهين على الإطلاق وإنما يحتاج لقوة خفية تنبع من دواخلنا وتشجعنا على المضي قدما؛ تلك القوة هي الإلهام.
أضف تعليق