يتضح تأثير السينما جيدا على الأشخاص بل وعلى المجتمعات التي تهوى السينما وتلك التي لا تحب السينما ولو أخذنا الأشخاص كمثال بسيط ستجد هناك فارق كبير بين الشخصيتين، محبة الأفلام رغم أنها تبدو أمورا ترفيهية خفيفة إلا أنها تنعكس على شخصية الفرد فيما بعد بل وتشكل وعيا جمعيا لدى المجتمعات المستهلكة للسينما بشكل كبير والدول التي تنتج السينما بشكل متواصل يتكون لدى مواطنيها ما يشبه الثقافة الشعبية من هذه الأفلام إذا نحن نتحدث عن أفراد تختلف شخصياتهم ومجتمعات تتغير ثقافتها بسبب تأثير السينما عليها لذلك لا يمكننا الحديث عن السينما إلا في سياق أنها منتج ثقافي هام يؤثر على الإنسان كفرد وكجزء من المجتمع الكبير الذي يعيش فيه.
استكشف هذه المقالة
تأثير السينما على المجتمع
كما قلنا أن تأثير السينما على المجتمع ينعكس بالضرورة على أفراد هذا المجتمع بحيث أنه يغير سلوكياتهم ويأخذ عقولهم لمناطق بعيدة بل يغير في شكل تصرفاتهم وحياتهم اليومية، فمثلا كم من الأصدقاء تجدهم مجبرين على الحديث مثل أبطال مسلسل فريندز؟ وفي مقال مثلا لتشاك بولانيك مؤلف فيلم نادي القتال الشهير من بطولة إدوارد نورتون وبراد بيت قال فيه أن الكثير من الأشخاص أرسلوا له لكي يخبروه أنهم أقاموا ناديا للقتال بالفعل في أكثر من مدينة حول العالم، نحن نتحدث عن تأثير عالمي هنا، بمعنى أمور تحدث على أرض الواقع، كما أن فيلم مثل “ليبوسكي الكبير” أدرج كأحد مفردات الثقافة الشعبية الأمريكية بسبب استخدام أفراد المجتمع لغته وطريقة تعامل أبطال الفيلم، وفي مصر على سبيل المثال أخذت جمل مثل “الليلة يا عمدة” مكانة المأثور الشعبي ويقولها الشخص المتعجل على فعل شيء في وقت معين، وبسبب فيلم “كابوريا” للنجم أحمد زكي والذي كان يحلق فيه شعره بإزالة الأجناب سميت هذه القصة على اسم الفيلم فصار الشباب يذهب للحلاقين يقولون له “قص لي شعري كابوريا” أي مثل أبطال الفيلم، أما التأثير المباشر للأفلام فإن أفلام مثل جعلوني مجرما وأريد خلعا قد غيرت قوانين بالفعل.
تأثير السينما على الجمهور
تأثير السينما على الجمهور يجعلهم يتعاملون كما لو كانوا في فيلم كبير، فهناك حالة من التماهي بين الجمهور والأفلام تجعل الجمهور يشعر أن حياته تقدم على الشاشة، حيث يدخل الجمهور إلى الشاشة وكل شخص ينتظر اللقطة التي يرى فيها نفسه، تلك اللقطة التي ستعيش معه طويلا، إن تأثير السينما على الجمهور يختلف من فرد إلى فرد ولكن تستحق الأفلام الكوميديا الجدارة بالطبع في قدرتها على تغيير سلوكيات الناس كما أن الكثير من الناس يتأثرون بشدة بالأفلام فيجد نفسه بشكل لا واعي يتحدث مثل الأفلام ويتعامل مع أصدقائه مثل البطل، وكلما اقتربت الأفلام من واقع الجمهور كلما أصبحت أكثر التصاقا به، فتخيل أنك تعيش حياة عادية روتينية ليس فيها أي شيء جديد وهناك من يأخذها ليصنع منها فيلما ممتعا ويجعلك تشاهد نفسك؟ لدرجة أنني أرى بنفسي من يستشهد بجمل وردت على ألسنة أبطال الأفلام واستخدامها كقاعدة أو تقديم البرهان على نظرية ما، لا ريب أن تأثير السينما كبيرا على الجمهور بالفعل ربما أكثر مما يتخيل كاتب المقال نفسه.
تأثير السينما على شخصياتنا
حتى نتفهم جيدا مسألة تأثير السينما على شخصياتنا كأفراد حتى ولو بشكل غير واعي سأتحدث عن صديق لي كان على وشك الانفصال عن فتاة ما وبينما هم ينفصلون قالت له عدة جمل أشبه بجمل للممثلة المصرية حلا شيحة في فيلم السلم والثعبان وخصوصًا وهي تخبره بأن نهايته ستكون إما أن يحيا وحيدا تماما ليس معه أحد وإما أن يتزوج امرأة لا يطيق النظر في وجهها، وعندما حكي لي صديقي هذه القصة وهو يقول أن لهجتها تغيرت قليلا عندما قالت هذه الكلمات ونظرت للأفق كأنها تتحدث إلى كاميرا وقتها أدركت، بشكل غير واعي تماما أثر هذا الفيلم عميقا في هذه الفتاة والتصق بوجدانها وظل حبيسا حتى وجد الفرصة المناسبة للتحرر، أي أنه ظل يراود ذهنها لفترة طويلة حتى أتى السياق المناسب لخروجه وقد كان، أعتقد أنني كشخص مثلا تأثرت جدا بشخصية الصحفي عادل في فيلم الغول حتى أنني اخترت بعض الاختيارات من حياتي بناء على شخصية عادل، أن تشاهد الفيلم ويحدث لك موقف مشابها للفيلم فتختار الخيار الذي اختاره بطلك الذي أثر فيك، وهكذا دواليك، حتى في العلاقات العاطفية نجد أنفسنا نقول الأشياء التي وردت في الأفلام ونحب مثل الأفلام، نأكل مثل الأفلام ونسافر إلى المناطق التي وردت في الأفلام، قالت لي صديقة من دولة عربية من قبل أنها تريد إذا أتت إلى مصر أن تذهب للمشرب الذي كان يلتقي فيه أحمد زكي بآثار الحكيم في فيلم “الحب فوق هضبة الهرم” من شدة تأثير الفيلم فيها. بعد كل هذا ونتحدث عن تأثير السينما على الأشخاص؟ إنه حقيقي جدا.
أهداف السينما
لا أعتقد أن هناك أي أهداف للسينما فالسينما بالأساس صناعة هدفها هو الربح والترفيه وعندما نتحدث عن بدايات السينما مثلا لم يكن أحد يفكر في السينما من منظور فلسفي وفكري بل ونفسي أحيانا بل كانت مجرد صناعة استغلها رجال الأعمال والتجار للربح والاستفادة من جمهور المسرح ولم يتخيلوا عموما أن تصبح إحدى الصناعات الأهم في العالم، غير أنه كان يوجد الكثير من الشبان فيما بعد الشغوفين فعلا بهذا الاختراع العظيم والذين أخذوا السينما إلى مناطق أخرى ونذكر منهم السوفييتي آينشتاين صاحب الفيلم الشهير المدمرة بوتمكين والذين اكتشف الفائدة الكبرى لوسيلة المونتاج وكيف يمكن استخدامها لتوصيل رسالة ما أو تثبيت فكرة ما في عقل المشاهد عبر تتابع المشاهد بشكل معين يجعله يتأثر بشكل واعي أو غير واعي بفكرة ما ونستطيع أن نقول أن هذا الفيلم تحديدا “المدمرة بوتمكين” كان إحدى منتجات الدعاية السوفيتية والترويج للثورة البلشفية وتوجيه الاتهام واللوم لروسيا القيصرية ما قبل الثورة، أي أن صناعة السينما قد مرت بمرحلتين، المرحلة الأولى مرحلة الاكتشاف والمتاجرة والمرحلة الثانية مرحلة تأثير السينما على المشاهدين واستخدام ذلك في توجيههم بعد الإقبال الشديد عليها وانتباه الساسة وأصحاب القرار لهذا الأمر واستغلاله لخدمة توجهاتهم وعلى الجانب الآخر أيضًا الشحن ضد أعدائهم.
دور تأثير السينما على المجتمع
تحدثنا عن أهداف السينما وتأثير السينما في البداية ثم استغلالها حين المفاجأة بالإقبال عليها سنتحدث الآن عن دور السينما في التأثير على المجتمع، وهل تأثير السينما على المجتمع يلزم المبدعين بدور أخلاقي ودور مهني يجعلهم يضعون رقابة ذاتية على أنفسهم فيما يقدمون؟ في الحقيقة هناك الكثير من المدارس السينمائية المختلفة وبالتالي هناك من يهتم بهذا الدور ويعي تأثير السينما على المجتمع وهناك من لا يهتم بهذه الأمور طالما سيحقق الربح، فما هي الاتجاهات المختلفة لدور السينما في المجتمع والرؤى المتباينة حول ذلك؟ سنتحدث عن هذا في الفقرات التالية.
الربح أولا
هناك طائفة ممن يقولون الربح أولا ولا صوت يعلو فوق صوت النقود والأموال والحديث عن تأثير السينما يجب أن يكون تأثير اقتصادي بالأساس باعتبارها سلعة وصناعة قبل أي شيء أما الأثر الفكري والفلسفي لها يمكن مناقشته فيما بعد لأنه يتم صياغته حسب متطلبات الصناعة فحسب، والقدير الرائع جيمس كاميرون والذي يعد صاحب أكبر إيرادات في العالم بتخطيه لحاجز المليار دولار مرتين عن فيلميه أفاتار وتايتانيك كان يرى أنه يجب التسويق للأفلام بميزانيات ضخمة وعملاقة وبالحديث عن الاستوديوهات العملاقة في هوليوود مثلا فإنهم هناك يحسبون الميزانية بالنسبة للتسويق وبالنسبة للأرباح المتوقعة تماما كما يتم عمل دراسة الجدوى للمؤسسات والشركات المالية، بالتالي أي حديث هنا عن تأثير فكري وفلسفي على الجماهير ودور السينما في توعية الشعوب ليس له معنى.
التسلية والترفيه فحسب
حين سئل العظيم ألفريد هيتشكوك صاحب الروائع “سايكو” و”الطيور” وغيرها عن الرسائل التي يود إيصالها من أفلامه قياسا بـ تأثير السينما على الجمهور والمضمون الذي يحب أن يقدمه فأجاب بتهكم أنه لا يقوم بإرسال الرسائل فهذه مهمة ساعي البريد، وقال هيتشكوك أن مهمته هي الإمتاع والإثارة فحسب دون أي فلسفة أخرى وعلى الرغم من رأيه هذا والذي يشرح فيه محتوى أفلامه وبساطتها اعتبروه فلاسفة السينما الفرنسية ومخرجوها العظام واحد من أهم من المخرجين في العالم بعد أن كان يلاقي نقدا عظيما من الصحفيين والنقاد، أي أن هناك احتفاء خاص بنظرته تلك للأفلام باعتباره هدف سامي وراقي في ذاته خصوصًا أن مخرجو الموجة الجديدة هؤلاء يكادون يحتقرون الأفلام التي تحتوي على رسائل ويفضلون أن يكون الفيلم ممتعا ومسليا قبل أي شيء.
الإثراء الوجداني والجمالي
على الجانب الآخر من التسلية والمتعة يرى بعض المخرجون وخصوصًا من السوفيات وأوروبا أن تأثير السينما يجب أن يكون جماليا بغض النظر عن الربح وبغض النظر عن المتعة والتسلية، فمخرج مثل السوفييتي الجميل أندريه تاركو فسكي صاحب التحف الفنية “المرآة” و”نوستالجيا” وغيرها تشعر أمام كل مشهد من أفلامه أنك أمام لوحة فنية، ولا أبالغ حين أقول أن أفلامه أشبه بقصائد مجسدة على الشاشة لذلك من يريد الاستزادة من بئر الشاعرية العميق عليه بمشاهدة أفلام أندريه تاركو فسكي وأفلام كيشلوفسكي وغيرها، لذلك فإن التأثير هنا يجب أن يكون وجداني بحت ولو كان يجب أن أقول رأيا فإنني مع هذا الرأي، السينما بالأساس فن وأي فن يجب أن يحفر عميقا في وجدان المتلقي حتى يسمى فنا، ورغم ذلك أقتبس من هيتشكوك أهمية المتعة فلا تجبرني أن أشاهد فيلما مملا لساعتين تحت دعوى الإثراء الوجداني والجمالي، هذا لن يصلني بالمرة.
التعبير الذاتي للمبدع
في أفلام مثل أفلام تارانتينو مثلا نجد أن تارانتينو يعبر عن ذوقه الشخصي في الأفلام والمشاهد التي عاشت في ذاكرته طوال الوقت، لقد عمل تارانتينو في محل لتأجير أشرطة الفيديو في بداية حياته مما مكنه من مشاهدة العديد من الأفلام التي أثرت فيه فشكلت ذائقتها والحقيقة أن كل الأفلام التي شاهدها كانت أفلام رديئة حول العصابات وصفقات المخدرات وغيرها ولكنه عجنها بمخيلته وأعاد تشكيلها من جديد لتعبر عن تلك الذائقة الشخصية ويخرج لنا هذه التحف، وعلى الجانب العربي مثلا نجد أن يوسف شاهين يحكي قصته هو شخصيا في معظم أفلامه، فإن لم يكن بشكل صريح مثل حدوتة مصرية وإسكندرية كمان وكمان فبشكل متواري في معظم أفلامه، بالتالي يعتبر التعبير الذاتي للمبدع عن نفسه طريقة من طرق إنتاج الفن وبالتالي ليس هناك علاقة لهذا الاتجاه بمسألة تأثير السينما ودور المبدع في تأثيره في الجمهور.
الصدام مع المشاهدين
عندما شاهدت فيلم سالو للمخرج الإيطالي بازوليني استغربت، ما الذي يجعل شخص يقدم على صنع فيلم كهذا؟ فيلم كل ما فيه غريب جدا ومقزز جدا ومثير للاشمئزاز، ويقال أن هذا الفيلم كان سبب في مقتله فيما بعد، إلا أنني بعد مشاهدة الفيلم وتخففي من أثره النفسي الذي لا زال يلازمني حتى الآن قلت لنفسي، ماذا لو كان الرجل يريد إبراز مدى سوء العنف ووحشيته، مدى قوة السلطة وذهابها إلى أبشع مما نتصور إن لم تكن بلا ضابط أو رابط، مدى وحشية البشر إن أمنوا العقاب وامتهانهم لبعضهم البعض وساديتهم وتلذذهم، وبالطبع لن يأتي هذا سوى من خلال الصدمة، لن يأتي من خلال فيلم جميل ومشرق وبه موسيقى حالمة، بل من فيلم صادم ومقبض مثل هذا الفيلم، لذلك ربما يرى بازوليني أنه يجب أن يشتبك مع الجمهور بشكل مباشر حتى يستطيع توعيتهم، حسنا الآن نرى دور تأثير السينما لدى بازوليني والوسيلة هي التصادم من أجل التصالح مع تناقضاتهم وإبرازها وفتح الجراح من أجل ترويض النفس البشرية.
الإرشاد والتوجيه
أختلف في الحقيقة كليا مع من يرون الأفلام التي يكون دورها الإرشاد والتوجيه هي أفلام رديئة تماما، فهناك أفلام قد تتخذ هذا الخط ولكن بشكل فني تماما وبعيدا كل البعد عن الوعظ والإرشاد كأننا نجلس في برلمان، فهناك أفلام مثلا توعينا حول تربية الأطفال مثل “نحتاج إلى الحديث عن كيفن” مثلا وهو من أجمل الأفلام التي يمكن أن تشاهدها في حياتك وفيلم مثل “مجتمع الشعراء الأموات” و”ابتسامة الموناليزا” وغيرها، كل هذه الأفلام يمكن اعتبارها أفلام فنية بحتة ويمكن اعتبارها أفلام للتوجيه والإرشاد، وفي الحالتين لا أحد يختلف عن جودتها وعن تأثير السينما بشكل إيجابي من خلال هذه الأفلام في الجمهور.
السينما والواقع
تحصل السينما الواقعية في النهاية على نصيب الأسد من الجمهور و تأثير السينما الواقعية على جمهورها أضعاف أي اتجاه آخر من اتجاهات السينما لسبب هام، وهو أنها أقرب للجمهور جدا لأن المشاهد يدخل إلى السينما بقدميه ليشاهد نفسه، ليشاهد الشخص الذي في الشاشة ويسقطه على ذاته بالتالي يظل السؤال الأزلي: هل السينما انعكاس للواقع؟ أي أنها تتأثر بالواقع أم أنها يجب أن تكون هي المؤثرة فيه؟ الحقيقة لا هذا ولا ذاك، لا يجب أن تكون السينما مصورة ومجسدة للواقع بحذافيره وفي نفس الوقت لا يجب أن تكون السينما عبارة عن كتاب إرشادات للواقع من أجل تغييره، يجب أن تناقش السينما قضايا الواقع وتكشفها، يجب ألا تتهاون في نصرة العدل والحق وانتقاد الظلم والتنديد بالفساد والاستبداد، لكن يجب أن لا يتم السطو أيضًا على الهوية الفنية للسينما، لأن تأثير السينما لن يكون فعالا ما لم يكن هناك فن في الفيلم المعروض، وبناء عليه تظل أي سينما واقعية لا تلتزم بأولوية الفنية غير مؤثرة في الجمهور، لأن هذه هي الوسيلة التي تجذب الجمهور بها.
تأثير السينما في الجمهور واضح وظاهر للعيال كوضوح الشمس في كبد السماء ولكن هل يجب أن يصنع المنتجون أفلاما للتأثير في الجمهور على الدوام بشكل إيجابي؟ حاولنا الإجابة عن هذا السؤال في السطور السابقة محاولين إظهار تأثير السينما في المشاهد العادي وفي المجتمعات وفي العالم أجمع، وعلى أي حال نظل دائما عشاقا ومغرمين بهذا الفن الرائع الأسطوري.
أضف تعليق