للإنسان في المطلق مقاييس مهمة في حياته للنمو، ولكن أهم المقاييس هي مقاييس التفكير بطريقة صحيحة وسليمة، وعندما يصل الشخص إلى هذه المرحلة من التفكير يكون الشخص وصل لمرحلة تدعى مرحلة النضج العقلي . وهذا النضج قد يزعمه ناس كثيرون، ولكن كيف تعرف أنك قد وصلت إلى مرحلة النضج العقلي ؟ ببساطة من خلال دلائل النضج العقلي، وهي مجموعة دلائل عادية جداً، ليست خيالية ولكن الكثير منا لا يجتمع فيه هذه الصفات بصورة كاملة ببساطة لأنه ليس هناك إنسان كامل. ولكن ما سنتكلم عنه هنا، أن أكبر كمية من الصفات التي سنتكلم عنها هنا في هذا المقال إذا تجمعت فيك فأنت ناضج بصورة كبيرة. ولو اختبرت نفسك أو بمعنى أخر فحصت نفسك من الداخل بأمانة ودون تزيف، ووجدت أن ينقصك الكثير من هذه الصفات فاعلم أن هذا في حد ذاته أول دليل من دلائل النضوج وأنت الآن على الطريق السليم. لأن الأمر ليس صعب أو شاق بل هو مجرد رغبة داخلية نحو أنك تريد أن تصبح شخص أفضل وناضج بصورة أكبر.
النضج العقلي : كيف تعرف أنك تفكر بشكلٍ سليم ؟
الاعتراف بالخطأ من دلائل النضج العقلي
وهو من أول دلائل النضج العقلي للإنسان، فالإنسان الذي لا يعترف بخطئه من المستحيل أن يعرف سلبياته. ومن هنا سيكون طول الوقت أعمى عن هذه السلبيات، مما سيسبب أنه سيستمر طوال عمره في فعل ما هو سيء له. ولكن الشخص الذي يعترف بخطئه يكون أكثر بصيرة، على نفسه ويعرف ما يمتلك من سيئات وهذا في حد ذاته يعد بداية قوية للإنسان نحو النضج العقلي. فببساطة لو حللت مسألة حسابية بطريقة خطأ والنتيجة خطأ وأنت لا تعترف بأن حلك هذا خطأ فهل ستعرف الإجابة الصحيحة أبداً؟ من المؤكد لا، لأنك تعتقد أن حلك صحيح. نفس الفكرة عندما لا تعترف بأخطائك فتظل حبيس أخطائك ولن تصل للمرحلة تالية في حياتك. وغالباً ستفشل في كل ما تفعل لأنك لن ترى أخطائك وسترمي دائماً اللوم على الآخرين، وستدين الآخرين وسترى عيوب الآخرين وتبرزها. ليس لشيء سوى أنك تريد أن تقول لنفسك أن الآخرين يخطئون مثلي ومن ثم لن تتعلم من أخطائك أبداً.
التعلم من الأخطاء
هي المرحلة الثانية من دلائل النضج العقلي، فلو أنت لاحظت الآن أنك تعاند في الاعتراف بأخطائك، فهذا في حد ذاته اعتراف بأخطائك وأنت الآن في موقف رائع. الخطوة التالية هي التعلم من الأخطاء حتى لا تقع فيها مرة أخرى، وهذا سيحدث عن طريق أنك تواجه نفسك بصراحة، ولا تخجل من أن تقول لنفسك أنك على خطأ في هذا. فأنت تحاسب نفسك، خير من أن يحاسبك أحد أخر، ومن بعد المحاسبة ستجد أنك تحكم على نفسك. بمعنى أنك لو كنت تشرب سجائر بشراهة، ستصارح نفسك بأن هذا يفقدك حياتك. ومن ثم ستحاول أن تتخلص من شرب السجائر. وهكذا في كل حالات الإدمان، حيث أن العمل الأكبر للطبيب النفسي لعلاج المدمنين هو أن يكشف لهم قيمة الخطأ الذي يفعلونه في حق أنفسهم والآخرين بسبب الإدمان وعندما يدرك المريض الخطأ يبدأ علاجه. فالقاعدة بسيطة في إن عُرف السبب بُطل العجب.
التطور
الخطوة التي تلي التعلم من الأخطاء وتزيدك تأكيداً كدليل من دلائل النضج العقلي هي التطور. حيث أنك حينما تجد في نفسك تطور في حياتك عموماً، يجب أن تفهم أنك هكذا اعترفت بأخطائك، ستتلافاها، ومن ثم ستجد نفسك في الأخير تطورت إذا تتعلم من كل شيء تفعله، وتتلافى تكرار الأخطاء. وهذه من الأساس فكرة التدريب، حيث أنك في التدريب على أي شيء، تختبر مهاراتك أو قدراتك، ومن ثم الاختبار سيعلن لك عن قدرتك وأخطائك. ومن بعد التدريب ستتلافى الأخطاء في المرة التالية وربما لن تقدر، وستجد الأمر صعب في أن تصحح أخطائك، ولكنك في النهاية مع كثرة التدريب ستجد نفسك تتطور، وتعرف أمور وطاقات داخلك لم تكن تتخيلها أبداً.
البحث الدائم ومواصلة المعرفة
دعني أقول لك، أن ليس هناك تفوق ونضج دون الرغبة الدائمة في المعرفة. ببساطة الشخص عندما يعرف أكثر يصير أحكم، والحكمة التي سيمتلكها هذه ستجعل عقله يعمل بطريقة أكثر إفادة من المعتاد. ببساطة سأعطيك مثال، ما الفرق بين الباحث ودكتور الجامعة؟ الفارق هنا هو أن الباحث لا يهمه شيء في العالم سوى البحث عن أشياء جديدة فيما يحبه. بمعنى أخر فلنفترض أن هناك دكتور جامعي يدرس الفيزياء، وهناك عالم يبحث في علم الفيزياء. دكتور الجامعة يدرك النظريات التي يصل إليها باحث الفيزياء. ولكن من الأشهر؟ بالطبع الدكتور الجامعي الذي يتعامل مع الطلبة، ولكن من أصل الدراسة؟ الباحث، هذا المثال أردت أن أعرفك منه قيمة البحث، ولذلك بحثك فيما تريد أن تتفوق فيه يجعلك ناضج فيه. ويجعل معرفتك ليست مجرد معرفة سطحية، بمعنى أنك تحب الرسم، فالحقيقة أنك كلما بحثت وتثقفت عن الرسم كلما صارت موهبتك أكثر نضجاً وثقلاً. ولذلك إن كنت من محبين البحث وحب المعرفة فهذا دليل كبير من دلائل النضج العقلي الذي سيضمن لك النجاح في حياتك.
دلائل النضج العقلي الخاصة بالتعامل مع الآخرين
في الأربع دلائل الماضية تكلمنا عن دلائل النضج العقلي التي تخص الإنسان نفسه. ولكن هناك نوع أخر من دلائل النضج العقلي وهو التعامل مع الآخرين. حيث نسمع كثيراً الناس يتكلمون على أحد الأشخاص ويقولون عليه أنه ناضج جداً في حديثة. كلمة ناضج هذه خلفها الكثير من الدلائل التي يجب أن تعرفها وتتحلى بها، حتى تكون ناضج في تعاملاتك مع الآخرين لتصير محبوب ومقبول على الدوام.
التفاهم في الحديث
دعنا نقول إن هذا هو من أفضل وأقوى دلائل النضج العقلي، لأن التفاهم في الحديث يُعد عملة نادرة في هذه الأيام، والجميع صاخب. وهذا ناتج أن الحياة أصبحت زحمة وصاخبة، نحن في أخر 50 عام زدنا بمعدل ضعف سكان الأرض. معدل تكاثر الإنسان سريع جداً، ولذلك عموماً، وخصوصاً في المناطق التي يوجد فيها سكان كثيرين، غالباً تجد الأشخاص لا يتفاهمون في الحديث مع بعضهم، وتجد سوء الفهم هو السائد، والصراخ والصخب وسرعة الحكم على الكلام. وأحياناً تأويل الجمل العادية إلى جمل جارحة، وفي النهاية يصل الإنسان لمرحلة من عدم التفاهم مع الناس. ولكن إذا كنت من هؤلاء الذين يعطون فرصة للآخرين في التعبير عن الرأي، ولو كنت تحترم الرأي الآخر حتى لو كان مغاير، ولو كنت تتكلم بصوت هادئ وطبقة ثابتة طوال الوقت، فهذا دليل على نضجك العقلي مع الآخرين. وغالباً هذا سيكون من ضمن أفضل الصفات فيك التي تجعل الجميع يحترمك ويقدرك على الدوام.
عدم التكبر
الاتضاع ليس مجرد صفة جميلة يتحلى بها الإنسان، بل هو دليل على النضج العقلي أيضاً. حيث أن الشخص المتكبر بالفعل يكون غير ناضج، وغير واعي لحقيقة نفسه والآخرين. والشخص المتكبر أو النرجسي هو الشخص الذي يرى أنه أحلى وأفضل وأذكى وأجمل المخلوقات، وأن كل الآخرين أقل منه. في حين أن الإنسان المتضع والغير متكبر يعرف فقط أنه إنسان ولديه نواقص ولديه احتياجات، ويوجد من هم أفضل منه ويعرف هذا. فيكون غير جارح للآخرين، وغير متصلف ومتعجرف، ولا يقل للناس كلمات مفادها أنهم حقيرين وأنهم أقل منه في كل شيء. بالعكس الإنسان المتضع يساعد الآخرين، وأفضل ميزة فيه أن الاتضاع يجعله دائماً لا يحابي نفسه فيعترف بخطئه فيتجنبه فيتطور فيصل إلى مرحلة النضج العقلي بسرعة جداً. ودعني أقول لك أن التواضع هو العامل الحافز لعمليات النضوج عموماً. حيث أنك ترى حقيقة نفسك ومنها ترى حقيقة الأمور، وبعد وقت تجد نفسك على القمة ومع ذلك وأنت على القمة تكون متضع ولا تتفاخر بمجدك بل تساعد الآخرين أن يصلوا لما وصلت له.
محبة الجميع
الإنسان الناضج يحب الجميع، لأنه من داخله يقدر على استيعاب الطبيعة البشرية. وغالباً الإنسان الناضج يقدر الناس ويلتمس لهم الأعذار دائماً، حتى لو أخطئوا في حقه. وربما ترى أن هذه الصفة هي نوع من المثالية، ولكن الحقيقة أن هذا هو الطبيعي. ببساطة عندما تكون أنت عصبي ومشدود وتعصبت على أحد تحبه، ماذا ستشعر لو وجدت هذا الشخص يرد عليك ويقول “أنا مقدر أنك متوتر وأفهم أن هذه ليست طبيعتك”. فرد فعلك حينها أنك سترى هذا الرجل فعلاً حكيم وناضج، فقط لأنه رأى داخلك ولم يلتفت لما فعلته من سوء ويحكم عليك كأنك قاتل. ومن هنا نستطيع أن نقول إن كل الناضجين يفهمون قيمة محبة الآخرين والإنسانية. حيث أن الحب والخير والسلام هم ثالوث تفكير الشخص الناضج. أيضاً الشخص الذي يحب الجميع غالباً سيكون على علم أن الجميع لن يحبونه، وفي المقابل هو أيضاً سيفهم ذلك أنه من الطبيعي ألا يقبلنا بعض الأشخاص لسبب أنه يشعر بالغيرة، أو أن لديه نقص في ثقته في ذاته. هذا الحب سيجعلك تشفق على من يكرهك وسيحميك تماماً من أن تصير أنت كاره لأن الكراهية تشوه الروح.
عدم الغيرة
جيدة هي الغيرة في الشيء الجيد، ولكن ليست جيدة في كل شيء. ومن ضمن دلائل النضج العقلي وخصوصاً لدى السيدات هو عدم الغيرة، بسبب شهرة أن النساء غيورات جداً. وفي الحقيقة هذا واقع لا أحد يستطيع أن ينكره، ولكن كمالة الحقيقة هي أن الرجال أيضاً غيورين، بل أن غيرة الرجال أصعب من حيث العلاج من غيرة المرأة. ولكن في وسط كل هذا تجد شخص واثق من نفسه سواء رجل أو امرأة، لا يعير للآخرين اهتماماً، بل يركز على عمله وشغله فقط. وحتى إن وجد شيء جيد في أحد أخر وليس فيه، تكون غيرته جيده ويتعلم كيف يكون مثله وأفضل. وليست مجرد غيرة تجعله يضع نفسه في مقارنة مع الآخرين. لأن الشخص الذي يضع نفسه أو غيره في مقارنات غالباً يكون شخص غير ناضج ومشتت وليس له هدف واضح.
الهدوء والصمت
هل رأيت شخص ناضج يتكلم ويثور كل الوقت من قبل؟! على ما أعتقد لا، الحقيقة أن الهدوء هو أحد دلائل النضج العقلي الظاهرية لأي أحد، لدرجة أن الناس دائماً تخلط ما بين الهادئ والحكيم. وأنا أقول إن كل حكيم هادئ ولكن ليس كل هادئ حكيم. بمعنى أنه ليس شرط أن يكون شخص طبعه هادئ لكنه حكيم، فمن الممكن أن يكون ليس بحكيم وليس بناضج وهدوءه هذا ليس سوى هروب من الآخرين. في حين أن الشخص ذو العقل الناضج هو غالباً شخص هادئ لا يتكلم كثيراً بل ويصمت كثيراً أثناء الحوارات. ليس بغرض شيء إلا ليأخذ أكبر كمية من الانطباعات الكلامية، فالشخص الناضج دائماً يكون أخر من يتكلم هذا إذا كلم من الأساس لأنه غالباً يعيش بمبدأ التعلم. وفي ذهنه دائماً فكرة واحدة هي أن يقرأ أفكار الآخرين من خلال كلامهم، حتى يعرف طريقة أفكارهم ومن خلالها يعرف كيف يتعامل معهم. وهو لا يفعل هذا من قبيل الخبث، بل من قبيل المحبة حتى يصل لكل شخص بطريقته هو. وفي الحقيقة لو كل البشر لديهم هذه الصفة لكانت الكثير من المشاكل محلولة الآن في هذا العالم.
معرفة أخذ القرار
بالطبع الشخص الناضج هو الأقدر على أخذ القرارات الصائبة، وحتى لو كانت خاطئة هو غالباً يكون على قدر المسئولية ويتحمل الخطأ، ولا ينكره. بل يعترف به ويتعلم منه، ولذلك إن كنت من الذين يأخذون قرارات صائبة ودون مشكلة عويصة، ومعناة من التردد فيجب عليك أن تعلم أنك من ضمن هؤلاء الناضجين عقلياً. وعلاقة النضوج بأخذ القرارات تكمن في شيء واحد وهو الثقة بالنفس، حيث أن الشخص الناضج غالباً يكون واثق في نفسه. وهذه الثقة ناتجة عن معرفته لقدرات نفسه. ولذلك عندما يأخذ الشخص الواثق من نفسه قرار فهو يعرف أن هذا هو الأفضل له، بمعنى أن لو إنسان غير ناضج وقرر أن يخوض منافسة في شيء ما هو يعلم أنه لا يقدر على الفوز فيها فهل هذا قرار صائب؟ بالطبع لا، لأن قدراته لا تؤهله، وهنا هو مربط الفرس. معرفتك لنفسك ستجعلك تعرف ما تقدر أن تفعل وما لا تقدر أن تفعل، ومن هنا ستجد أن قراراتك أصبحت شيء سهل وليس معضلة مثل معظم الناس.
تحمل المسئولية
دلائل النضج العقلي كثيرة كما رأينا ولكن تحمل المسئولية دليل كبير على نضج الشخص عقلياً. لأن الإنسان الغير متحمل للمسئولية هو إنسان تافه، وأناني، وهما صفتين يزينان الأشخاص الغير ناضجين. ولذلك عندما يكون شخص صغير السن مثلاً ومتحملاً للمسئولية، تجد أقاربه يقولون عنه أنه أكبر من عمره، أو ولد ناضج، وهكذا أيضاً الفتيات. والعلاقة هنا هي أن تحملك للمسئولية يُشعر الآخرين بقربك بالأمان، فستصير حينها بطل الآخرين. الشخص الذي يتحمل مسئولية أسرته، ويتحمل مسئولية نفسه، بل ويستطيع تعليم الآخرين كيف يتحملون مسئولية أنفسهم بأنفسهم. كل هذا نوع من النضج العقلي الذي يصل له الإنسان بصعوبة من خلال خبرات الحياة ومعرفة الحلول التي تجعلك قادر على التصدي ضد المشاكل التي تواجهك في حياتك.
النضج العاطفي
غالباً هناك صراع بين العاطفة والعقل على الدوام. وفي كل يوم نجد كاريكاتير جديد يوضح أن القلب يمشي في اتجاه والعقل يمشي في اتجاه أخر. ولكن عندما يحدث التوازن بين العاطفة والعقل فهذا ما نسميه بالنضج العاطفي، والذي هو مبني أساساً على النضج العقلي. حيث أن خبراتك وتفكيرك وتحليلك للأمور يحدث في عقلك وليس في مشاعرك، ولذلك عندما تتحكم في أفكارك فحينها ستعرف كيف تتحكم في مشاعرك بسهولة.
أخيراً عزيزي القارئ دلائل النضج العقلي كثيرة، وواضحة ولكن ما يجب عليك فعله هو ألا تعرفها فقط بل أن تمتلكها أيضاً. فلو رأيت أنك لا تملك دليل من الدلائل التي ذكرناها حاول جاهداً أن تذهب نحوه حتى تمتلك صفة تزيدك نضجاً وورعاً. وحاول قدر الإمكان أن تبتعد عن أي محيط سلبي، سواء أصدقاء أو حتى أسرة، لأن البيئة المحيطة لها دور هام جداً في عملية نضوجك العقلي. فتخيل أنك نبتة ومحيطك هو التربة، فلا تختار تربة رديئة تميت شخصيتك بل اختار تربة ناضجة تجعلك تنموا على الدوام.
أضف تعليق