الوصول إلى المناخ الصناعي الذي يُمكن التحكم فيه بشكلٍ كامل يُعد حالمًا للكثيرين،فعلى مر العصور والإنسان يخاف من المناخ ويحاول تلافي أضراره. فيقدم التضحيات والتي كانت تصل إلى التضحيات البشرية، ويقيم الصلوات والدعاء حتى لا تغضب الآلهة وترسل برقها وفيضاناتها، أو تمنعهم تماماً فيسود الجفاف. حتى عام 2008 كان البرلمان البولوني نفسه يقيم الصلوات حتى يتم رفع الجفاف عن بولونيا، في 2010 انقلبت بولونيا لتصلي لتتخلص من الفيضانات. وحتى هذا الوقت يتم قرع أجراس الكنائس في المناطق الزراعية ليحتمي الناس من خطر الثلج الذي يقضي على المحاصيل والفاكهة. قد يحاول العلم التنبؤ بالطقس ولكن هل يستطيع صنع مناخ صناعي؟ أسيتحكم الإنسان يوماً بالمناخ من حوله، ويبني حوله مدنه غطاء شامل يتحكم من خلاله بصنع مناخ صناعي بداخل المدينة؟ أم أنه خيال علمي لبعض الأفلام والأدباء! تعرف على الإجابة في هذا المقال.
المناخ الصناعي : متى يستطيع العلماء التحكم بشكلٍ كامل في المناخ ؟
المناخ الصناعي حقيقة أن خيال؟
هل هناك ما يثبت أن العلم قادر على صنع مناخ صناعي والتحكم به، على سبيل المثال التحكم وخلق في هطول الأمطار؟ الإجابة جاءت عام 1946 على يد العالم الأمريكي “Vincent Schaefer”. كان فنسنت يحاول تجربة خلق سحابة صناعية، ومن أجل ذلك كان عليه صنعها في مكان بارد مثل الثلاجة، ليماثل طبقات الجو العليا في درجات البرودة. في يوم حار جداً كان على فنست إبقاء درجة الحرارة حول السحابة باردة حتى يحافظ على سحابته، فنثر عليها ذرات تسمى “ذرات التوريس”، وهي عبارة عن غاز مجمد من أول أكسيد الكربون. فاندهش العالم حين رأي أن الرطوبة الموجدة داخل سحابته الصناعية تحولت تكتلت وتحولت إلى بلورات من الثلج، أي أن بإمكانه تحويل السحب إلى أمطار وثلوج باستخدام بعض المواد الكيميائية.
حتى اليوم لم يتمكن العلماء من التحكم بتكوين وخلق سحب جديدة إلا إنهم بالفعل قادرين على تحويل السحب إلى أمطار أو ثلوج فيتحكمون بخلق مناخ صناعي غير طبيعي. إذ إن الرطوبة المجودة بالسحب لن تتحول إلى مطر إلا عندما توجد ذرات قادرة على تكثيف البخار إلى قطرات مياه. وعندما يتمكن العلم من وضع أو نثر تلك الذرات على السحب المتكونة في السماء بطريقة واعية ومحسوبة، سيتكثف البخار وسمى مطراً صناعياً. في السابق كانت الفكرة منحصرة فقط في استخدام ذرات التوريس، ولكن اليوم اكتشف العلم ذرات “يود الفضة” وهي أرخص بكثير وتعطي نفس النتائج المرغوبة.
أنواع أخرى كثيرة تم استخدامها مؤخراً، مثل الإسمنت والبروبان والبكتريا والملح، ولكن الأفضل كان يود الفضة. بسبب قربه من بنية الذرات التي تكثف البخار في الحقيقة طبيعياً وتحوله إلى مطر. وقد تسأل كيف للبكتريا أن تتسبب في هطول المطر؟ بالفعل يا صديقي، توجد بكتريا من نوع “Pseudomonas syringae” هذه البكتريا موجودة بشكل طبيعي على أوراق النباتات وفي طبقات الجو العليا، وتعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها الذرات (سوف نتحدث عن ذلك لاحقاً) لتشارك في عملية نزول المطر بشكل طبيعي، فيمكن استخدامها لخلق مناخ صناعي.
كيف يتم نثر المواد الكيميائية لخلق المطر أو المناخ الصناعي
يحتاج المطر الصناعي إلى بضعة كيلو غرام من المادة المستخدمة، ولذلك فنحن لن نلوث البيئة والسماء بقدر كبير، لأنه الذرات نحتاجها فقط كمحفز كيميائي لتسريع عملية تكثيف البخار وهطول المطر. يتم توصيل هذه الذرات إلى السحب بطرق عديدة، منها استخدام صاروخ أو مدفع موجه نحو السحب بإتقان. أو نثر المواد باستخدام طائرات خاصة تطير تحت السحب مباشرة أو من خلالها. تحت الغيوم تصبح تيارات الهواء قوية جداً لذلك يسهل معها امتصاص الذرات وتشبع السحب بها. إن كانت رطوبة السحابة كافية، ستتجمع قطرات صغيرة جداً من المياه حول كل ذرة منثورة. ومن ثم يكبر حجمها وكتلتها حتى لا تستطيع السحابة تحمل الوزن فيسقط المطر أو الثلج إذا كانت كبيرة جداً ومجمدة، في خلال ربع إلى نصف ساعة تقريباً.
عكس عملية خلق المطر الصناعي
حتى يكون العلماء حقاً قادرين على التحكم بالمناخ الصناعي يجب أن تتوفر لديهم القدرة على عكس ما فعلوه. والطريقة في الحقيقة هي نفسها، بحيث يتم نثر ذرات من نفس النوع مجدداً على السحب. الفرق هذه المرة أن تكون الجرعة أكثر من اللازم بحيث تكون الذرات المشبعة داخل السحب أكثر بكثير من المرة الأولى. فتتجمع القطرات الدقيقة أيضاً حول كل ذرة، ولأن العدد كبير فستتجمع أعداد قليلة حول كل ذرة. فلا يكون وزنها كافي حتى يسبب ثقل على السحابة ويدفعها إلى السقوط. وحينها سيتوقف المطر الصناعي وتبقى الذرات الصغيرة معلقة وغير قادرة على الهطول.
مجالات أخرى في التحكم بالمناخ الصناعي
ليس للمطر وحده النصيب في قدرة الإنسان العلمية لتحكم به، بل أصبح الإنسان قادراً على تفادي خطر الصواعق والبرق والرعد وسقوط كرات الثلج المدمرة لمحاصيل الفلاحين في مناطق كثيرة بالعالم. الفكرة كلها تعتمد على أن السحب التي تسبب البرق والرعد أو سقوط الثلج مختلفة عن أي واحدة أخرى. فتتميز باحتوائها على جرعات كبيرة من الشحنات الكهربائية سواء السالبة أو الموجبة. وتتميز أيضاً بوجود تيارات هوائية قوية جداً فوقها وتحتها، مما تسبب في احتكاك هذه الشحنات وتكوين الصعقة الكهربائية مع الصوت الرهيب في البرق والرعد. وكذلك تكوين الكرات الثلجية الضخمة المتجمعة في أشكالها البلورية الكبيرة لتضرب الأرض بقوة وتدمر كل ما هو أمامها.
يقوم العلماء بتوجيه نوع من الليزر القوي، فيسيطرون على تلك الشحنات الكهربائية ويتم تفريغها خارج السحب. بذلك يوقفوا عملية تكوين البرق والرعد والثلوج. فيتحكمون بمناخ صناعي حسب رغبتهم واحتياج كل منطقة، وكبح الخطر المتجه نحو السكان.
التجربة الصينية مع المناخ الصناعي
في عام 2008 أجريت الألعاب الأولمبية في بكين في الصين. وكان هذا الوقت يتزامن مع وقت الأمطار الموسمية هناك مما كان ليؤثر على مجرى الألعاب وترتيب أحداثها التي تجرى خارج الصالات. فعمل الصينيون بمجهود كبير جداً وبتكاتف 35 ألف شخص على التحكم بهذه الأمطار ومنع هطولها إلا عندما يسمحون هم لها. اليوم تتربع الصين على رأس الدول التي تحكمت بالمناخ الصناعي حسب رغبتها، وتأمل في الوصول إلى التحكم في هطول مطراً صناعياً يقدر ب50 مليار متر مكعب بكل عام، حتى يعالجوا الجفاف المتزايد ببعض المناطق الصينية الجافة.
أبحاث أخرى تؤكد قدرة الإنسان في خلق المناخ الصناعي
حتى ولو لم يدرك الإنسان ماذا يفعل فهو بالتأكيد يؤثر على مناخ كوكب الأرض، ولا يتوقف تأثيره على ارتفاع الحرارة فقط. بعض الأبحاث التي أجريت على أفعال الإنسان اليومية حول العالم تؤكد تلك الفكرة. أول بحث أقيم على مصنع كبير يرسل يومياً خاصة في فترة النهار كميات من الأبخرة من مداخنه. مما تسبب في هطول المطر بشكل نمطي كل أسبوع في منطقة هذا المصنع، بسبب احتواء الأبخرة المتصاعدة الذرات اللازمة لهطول مطراً صناعياً دون دراية من أصحاب المصنع أو العاملين فيه.
البحث الثاني كان في أستراليا، عندما لاحظ العلماء تأخر الأمطار الموسمية كل عام بفارق أسبوع أو اثنين بسبب قطع الأشجار بكمية كبيرة جداً من منطقة الغابات. أما البحث الثالث فأثبت أن المناخ أصبح ممطراً على غير عادته عند 633 سد صناعي حول العالم، مقارنة بالحال قبل بناء تلك السدود.
أخيراً عزيزي القارئ، يقف الجانب الأخلاقي في حيرة من أمره في مسألة المناخ الصناعي. فلو امتلك الإنسان القدرة على تفريغ السحب متى شاء من المطر، إذاً من يحق له امتلاك السحاب؟ هطول المطر في منطقة ما، تعني عدم هطوله في منطقة أخرى مقابلة. ويبقى السؤال أسيتمكن الإنسان يوماً في التحكم التام بالمناخ الصناعي وفرض سيطرته العالمية على الطبيعة بشكل مطلق؟ ما المشاكل البيئة المترتبة على هذا الأمر؟ وهل سنجد أنفسنا يومياً نقيم الحروب من أجل المحافظة على نصيبنا في السحب والغيوم؟
أضف تعليق