حاجة الإنسان للمأوى هي إحدى حاجاته الأساسية، ونشأة العمارة والهندسة المعمارية حسّنت حياة البشر بل ربما تكون غيرتها، فإن تاريخ البشر تسجله الأعمال الباقية لنا من معمار وآثار وتعطينا معلومات عن حالة البشر حينئذ وطبيعة المجتمع من نواحٍ عدة، النواحي الاقتصادية والفكرية والاجتماعية، وطبيعة العمارة التي تختلف من شعب إلى آخر لا تتأثر فقط بالبشر بل تؤثر بهم أيضا، تؤثر على حالتهم النفسية وطبيعتهم وتصرفاتهم ويصل تأثيرها حتى على حالتهم الفسيولوجية! وهذا ما حث الباحثون على اكتشاف تأثير العمارة على الناس ودراسته، وجاءت نتائجهم مفيدة للمعماريين!
استكشف هذه المقالة
تصميم المباني والتوتر
العديد من الدراسات على سكان المدن أوضحت أن تصميم المباني في المدن يصيب السكان أحيانا بالتوتر والقلق ويزيد من الضغط العصبي، بل إن بعض الدراسات أوضحت أن التغيرات يمكن أن تطال المادة الرمادية ووظائف المخ، على عكس شكل المناطق الريفية وغيرها. وربما يكون السبب هو كون المناظر الطبيعية والمساحات الخضراء تساعد على الاسترخاء والهدوء وتبعث الإحساس بالارتياح، ففي تجربة تمت في مدينة فانكوفر في عام 1975 حيث تم تنظيم المدينة بحيث يتمكن السكان من رؤية ما يحيط بالمدينة من جبال ومناظر طبيعية، ولوحظ تغير حالة السكان النفسية للأفضل.
الانعزال في المدن
ورغم أن وجود عدد أكبر من البشر في تجمع يزيد من فرص التفاعل وتكوين العلاقات إلا أننا نلاحظ أن الناس في المدن الكبيرة أقل ترابطا واتصالا وأكثر انعزالا! ويُرجع بعض العلماء السبب إلى الطبيعة الهندسية المعمارية للمدن والتي لا تساعد على الاتصال بين الناس، فالمعمار يؤثر هنا على طبيعة نسيج المجتمع، بل يكون سببا لانخفاض التعاطف والمودة بين الناس مما يرفع معدل الجريمة! كما أن المدن الأكثر تنظيما والتي يسهل فيها على الشخص معرفة طريقه نحو هدفه مثل مدينة نيويورك مثلا -والتي لها ترتيب موحد واتجاه واحد تتجه فيه العمارة – يشعر فيها الفرد بالراحة أكثر من المدن ذات الطرق المتقاطعة والأحياء المتداخلة التي يصعب فيها على الشخص الوصول لمقصده مثل مدينة لندن، مما يؤثر بالإيجاب -في حالة نيويورك- أو بالسلب -في حالة لندن- على الحالة النفسية للشخص.
إن مقعد على الرصيف قد يحسن من مزاج الفرد! فوجود مقعد في الشارع يزيد من راحة الفرد وهدوؤه. كما يميل الناس للسير في طرق أخرى غير الطرق العامة المحددة، مثل الأراضي المعشوشبة والحدائق العامة، عندما يتجهون إلى أي وجهة في المدينة. كما تؤثر واجهات المباني على الحالة النفسية، فالواجهات الرتيبة الواحدة البسيطة، مثل الواجهات الزجاجية الخارجية لبعض الشركات، تزيد من القلق، بينما يشعر الناس براحة أكبر إذا كانت واجهات المباني مختلفة ومتنوعة.
مساعدة علماء النفس في العمارة
فكما نرى، تؤثر العمارة تأثيرا كبيرا على المجتمع، ويمكن لعلم النفس مساعدة المعماريون لبناء مبانٍ أكثر ملاءمة لمزاج الناس وأكثر راحة وجاذبية، فمن النصائح مثلا أن تكون النوافذ في المكان كبيرة ويسهل فتحها لتسمح بدخول ضوء النهار الطبيعي للمنزل، مما يرفع من مستوى الميلاتونين في الجسم والذي ينظم الساعة البيولوجية ويزيد من كفاءة النوم، ويزيد إفراز السيروتونين وهو الهرمون الباعث لإحساس السعادة، والتصميم المبتكر وذو الطابع الفني هو شيء محبب أيضا ما لم يؤثر بالطبع على سلامة المبنى، ويقترح وجود أماكن راحة واسعة جيدة التهوية ذات إضاءة خفيفة وسط زحام التكنولوجيا في الأماكن العامة، والأسقف المقببة أيضا أفضل من ناحية التأثير النفسي.
لا أحد يختلف على تأثر العمارة بالطبيعة وثقافة المجتمع، فالعمارة المصرية القديمة تختلف عن العمارة اليونانية والتي تختلف عن العمارة الإفريقية مثلا، لأن الثقافة والتراث يختلف من مجتمع إلى مجتمع، كما تختلف طبيعة المناخ -فمثلا الأسقف المنحدرة تنتشر في الأراضي الباردة التي تسقط فيها الثلوج- وتختلف الموارد وطبيعة الأرض التي تؤثر على طبيعة المباني، وينبغي أيضا ألا نختلف على تأثير العمارة على المجتمع، فالآثار ملحوظة وكبيرة.
الكاتب: أسامة سعد
أضف تعليق