تسعة
الرئيسية » مجتمع وعلاقات » الشخصية » الذكريات الكاذبة : كيف تتأكد أن ذكرياتك ليست كاذبة ؟

الذكريات الكاذبة : كيف تتأكد أن ذكرياتك ليست كاذبة ؟

في حياة كل منا الكثير من الذكريات، بعضها نحب أن نتذكره، وبعضها لا، لكن في هذه السطور سوف نتحدث عن نوع معين من الذكريات، وهي الذكريات الكاذبة ، فما هي؟

الذكريات الكاذبة

الكثير منا لديه تلك الذكرى الخالدة عندما كنا بعمر الثالثة أو أقل قليلا: ونحن نحظى ببعض الوقت اللطيف مع والدينا أو إخوتنا: ولكن في الحقيقة هذه الذكريات ما هي إلا مجموعة من الذكريات الكاذبة . أجل عزيزي القارئ، هذه الذكريات التي تغمض عينيك وتتذكرها بكل شجن وحنين ليس لها وجود إلا في مخيلتك. ليس لها وجود في الحقيقة وليس لها وجود في ذكريات أحد غيرك. هذا لأن هذه الذكريات يُطلق عليها اسم الذكريات الكاذبة . لأن هذه الذكريات تكذب عليك وتخبرك أنها حقيقية وهي ليست كذلك! ربما تظن أن هذا الأمر ليس بتلك الأهمية، فمن يهتم بما نتذكره ونحن في عمر الثالثة؟! ولكنني سأخبرك بأمر آخر ربما تشعر بأهميته الآن. الذكريات الكاذبة تلاحقك حتى هذا الوقت، بل حتى هذه اللحظة ربما!

كيف إذا تنشأ هذه الذكريات الكاذبة ؟ ولماذا قد تخدعنا ذاكرتنا بخلق أشياء غير حقيقية؟ وكيف تؤثر تلك الذكريات على حياتنا؟ كل هذه الأشياء سنتطرق إليها في مقالنا هذا، وسنصبح بعدها أكثر قدرة على رصد الذكريات الكاذبة الخاصة بنا ومعرفة حيثياتها وأسبابها.

تعرف على طريقة التفريق بين الذكريات الصادقة و الذكريات الكاذبة

ما هي الذكريات الكاذبة ؟

الذكريات الكاذبة هي عندما تستدعي ذاكرتك حادث ما من داخلها، ولكن في حقيقة الأمر هي أن ذلك الحادث لم يحدث قط! في هذه الحالة يكون ذلك الحادث عبارة عن ذكرى كاذبة أو خاطئة نتاج خطأ من ذاكرتك وعقلك. ولكن لماذا يحدث هذا؟ الحقيقة هي أن عقلك لا يعمل ضدك في جانب الذكريات تحديدا، فهو لا يقصد أن يزرع بداخلك الذكريات الخاطئة من باب إزعاجك فقط. بل يكمن الأمر برمته في عملية الذاكرة عموما، سواءا استعادة ذكريات حياتية أو استعادة معلومات ذاكرتها من قبل أو بعض التفاصيل التي حدثت خلال موقف سابق مثلا.

تخيل معي أنك تسير في الشارع وكان هناك شخص لا تعرفه مار بجانبك. ثم حاولت أن تتذكر (أو سألك أحدهم) عن الحقيبة التي كان يحملها هذا الشخص، أو عن لونها، أو عن أي شيء يخص هذا الشخص الذي لم تلمحه إلا لجزء من الثانية. سيحاول عقلك حينها استعادة تفاصيل ذلك الجزء من الثانية وستبدأ في التشكيك بأجوبتك التي ستطرحها على نفسك. فأنت ستقول مثلا أن هذا الشخص كانت يرتدي قبعة بنية اللون. مهلا، هل كانت القبعة بنية أم المعطف هو البني؟ هل كان يحمل حقيبة؟ هل كان لون بنطاله فاتحا أم غامقا؟ بل ربما تدخل عقلك في محاولة تلييق الألوان على بعضها، فيختار لونين يتناسقان سويا للقميص والبنطال (هذا إن كان مرتديا قميصا وبنطالا حقا!). عقلك لا يحاول خداعك أو مراوغتك، وإنما هو فقط يحاول ملأ فراغات التفاصيل التي لم يتمكن من مشاهدتها لمدة كافية ليتعرف عليها.

لماذا تملأ ذاكرتك التفاصيل؟

الطريقة التي نميل للاعتقاد بها في طريقة عمل ذاكرتنا، هي أنها عبارة عن شريط فيديو يقوم بتصوير الأحداث التي حولنا بدقة وتفصيل شديدين ونميل للوثوق بما تخبرنا ذاكرتنا به بشدة. ولكن الحقيقة التي تغيب عن الكثيرين منا، هي أن عقولنا ليس كاميرا تصويرية أو أداة تصوير فيديو. أجل، عقولنا تقوم بتصوير الأحداث التي تحدث لنا وتقوم بتخزينها في ذاكرتنا، لكن هناك الكثير من العوامل والمؤثرات التي تقوم بالتدخل في تلك الصور والفيديوهات قبل أن تصل إلى مستقرها داخل ذكرياتنا. ليس هذا فقط، بل أيضا تؤثر عوامل وأشياء أخرى على تلك الذكريات أثناء استخراجها ومحاولة تذكرها مرة أخرى! من العوامل التي تقوم بالتدخل في تخزين ذكرياتنا هي مشاعرنا في لحظة حدوث تلك الذكرى. فحقيقة أننا كنا سعيدين أو حزينين في تلك اللحظة، نشعر بالإيجابية أو السلبية، تحيط بنا عوامل جيدة أو سيئة، كل هذه الأشياء ستقوم بالتأثير على مجريات الأحداث وطريقة تفاعلنا معها. وأيضا طريقة تذكرنا لها. بل أيضا العوامل الخارجية الموجودة لحظة استخراج الذكرى ووجود أشخاص آخرين أو استعمال كلمات معينة متصلة بتلك الذكرى، بإمكانها أن تساهم في خلق العديد من الذكريات الكاذبة . وخير من نستقي دليلنا منه على هذه الأشياء هي المتخصصة بعلم النفس والتي اختارت التخصص في مجال الذكريات الكاذبة “إليزابيث لوفتس”.

لوفتس و الذكريات الكاذبة

كان هذا المجال أكثر المجالات التي استهوت إليزابيث للعمل عليها، حيث أنها أمضت معظم أوقات أبحاثها في دراسة تلك الظاهرة وكيفية خلق الذكريات الكاذبة وأسبابها وإلى أي مدى يمكن أن يصل هذا الأمر. قامت لوفتس بالعديد من التجارب النفسية للإجابة على هذه الأسئلة، بل أنها كانت تدفع طلاب الجامعة الذين يدرسون معها للعمل في ذلك المجال أيضا. ولن تصدقوا ما الذي نتج عن هذا الدفع للطلاب!

تجربة لوفتس وبالمر

أجرت لوفتس بالتعاون مع العالم النفسي جون بالمر تجربتين لمعرفة تأثير محاولة استدعاء الذكريات وطريقتها على تغيير الذكريات باستخدام بعض التغييرات الطفيفة في طريقة السؤال فقط!

في التجربة الأولى قام لوفتس وميلر في تكوين عدة مجموعات من الأشخاص وعرض شريط حادث تصادم سيارة أمامهم. وكل شريط مدته تتراوح بين 3 إلى 5 ثوان. بعد الانتهاء من مشاهدة الشرائط، قام الباحثان بسؤال المشاركين وصف الحادث الذي رأوه أمامهم، ولكنهم استخدموا طرق مختلفة لعرض نفس السؤال، فالسؤال كان عبارة عن (ماذا تظن السرعة التي كانت تسير بها السيارتيتن عندما حدث الاصطدام/الارتطام/الاحتطام)؟ كل كلمة من الكلمات الأخيرة تترك وقعا مختلفا في نفس السامع، فالاصطدام أخف من الارتطام الذي هو أخف من الاحتطام. وكانت نتيجة تغير تلك الكلمة الواحدة على المجموعات المختلفة هي مذهلة بحق. فقد كانت السرعة المقدرة لنفس شريط الفيديو ونفس الحادث الذي شاهدته هذه المجموعات، مختلفة باختلاف الكلمة المستخدمة أمامهم! فالذين سئلوا بصيغة الاصطدام قدروا الحادث بسرعة أقل من هؤلاء الذين سئلوا بصيغة الارتطام، وأيضا أقل بكثير من هؤلاء الذين سئلوا بصيغة الاحتطام! إذا، فقد كانت الطريقة التي سئل بها الأشخاص لاستعادة ذاكرة محددة كانت سببا في استخراج ذكرى غير مطابقة للحقيقة!

التجربة الثانية

تلك التجربة كانت مشابهة تماما للتجربة السابقة، لكن الأسئلة هذه المرة كانت مختلفة. فالأسئلة كانت تتعلق حول أشياء شاهدوها في موقع الحادث. كانت مجموعة من المشاركين يتم سؤالها إذا ما شاهدت أو لم تشاهد زجاجا متطايرا نتيجة الحادث؟ بينما مجموعة أخرى تم سؤالها عن حدة تحطم الزجاج وشدة تناثره أثناء الحادث؟ المجموعة الأولى كان بإمكان الإجابات أن تختلف بينهم حول وجود زجاج محطم من عدمه. بينما المجموعة الثانية أجمعت على وجود زجاج محطم واختلفت على شدة تناثره! بل كل مجموعة كانت تختار شدة التناثر وفقا للفعل المستخدم في طرح السؤال! أيمكنهم تخيل الأشياء شديدة البساطة التي تتلاعب في تكوين واستخراج الذكريات بداخلكم!

التجربة الثالثة

ربما كانت التجربة السابقة تتلاعب بالعقول لأن كلمة بأكملها تم تغييرها وهذا كان سببا في لغبطة المشاركين. هذه التجربة الثالثة التي قام بها لوفتس، بالمر و وعالم ثالث يدعى بيرنز، كانت تستكشف تأثير تغير حرف واحد في طريقة استعادة الذكرى السابقة! أيمكنكم تصديق ذلك؟! حرف واحد سيقوم بتغيير ذاكرتكم وزرع أشياء مختلفة فيها! هذا الحرف كان “ال” التعريفية. في تلك التجربة تم إعطاء المشاركين صورا مختلفة لطريق وقطع سيارات متناثرة، ثم قاموا بسؤال مجموعة منهم إذا ما شاهدوا علامة توقف على الطريق؟ بينما سألوا المجموعة الأخرى إذا ما شاهدوا علامة “التوقف” على الطريق؟. لست بحاجة إلى أن أخبركم نتائج التجربة الآن. فأنتم أقدر مني على استنباط النتائج بعد التجربتين السابقين. ولكن ألا يثير موضوع الذكريات الكاذبة هذه بعض الخوف في مخيلتكم؟ ربما ليس الآن. ربما تظنون أن الأمر يقتصر فقط على عدة تفاصيل صغيرة كلون معطف أو علامة توقف أو زجاج متناثر. ولكن ماذا إذا أخبرتكم أن ذاكرتهم بإمكانها اختلاق مشاهد كاملة؟! لا لا أعتذر منكم عن هذا الخطأ. مشاعركم بإمكانها خلق سنوات كاملة من الذكريات! هل تشعرون بالرعب الآن؟ تضحك ضحكة شيطانية مخيفة.

جيمس كون

أتذكرون عندما أخبرتكم أن لوفتس كانت تشجع طلابها على البحث في هذا الموضوع؟ حسنا، “كون” كان أحد طلابها الذين عملوا بنصيحتها. أو ربما كان يحاول حصد بعض الدرجات من أجل مادتها فقط. لكن أيا كان السبب الذي دفعه لذلك، فقد كان طريقه للوصول إلى هذا الاكتشاف الأول الذي لم تكن لوفتس قد توصلت إليه بعد. ربما لأنه كان شديد البعد .. والرعب!

قام “كون” بإجراء تجربة عمل فيها على استخراج بعض الذكريات من حياة عائلة ثم طرحها على تلك العائلة طالبا منهم أن يحكوا أكثر عن تلك الذكرى. ولكن ما فعله كون هو أنه جعل إحدى هذه الذكريات خاطئة تماما. ذكرى مفتعله لم تحدث إلا في خيال كون! هذه العائلة كانت عائلة كون، وهذه الذكرى كانت تخص شقيق كون. كانت الذكرى تحكي واقعة تاه فيها و”والتر” –شقيق كون- من عائلته عندما كان صغيرا في أحد الأسواق التجارية، وكان خائفا جدا ومرعوبا حتى تمكن شخص غريب من مساعدته في إيجاد عائلته. ما حدث عندما أعطى كون كل فرد من عائلته الذكرى الخاصة به، قاموا جميعا بتذكرها وحكاية مشاعرهم والأشياء التي علقت بذاكرتهم نتاج هذه الذكرى. بما فيهم والتر نفسه! لقد حكى عن تلك الحادثة وعن المشاعر التي اعترته وذكر أحداثا أخرى لم يكتبها كون حتى عندما أعطاها له! وكانت تلك بداية لعصر جديد في مجال الذكريات الكاذبة .

فبريكانو

ربما يكون الكثيرون منكم على علم بهذا البرنامج الذي كانت تقدمه الفنانة المصرية “انتصار”، وربما لا تكونون. لكن الحقيقة هي أن ذلك البرنامج سيكون دليلا جيدا على موضوع الذكريات الكاذبة هذه. يمكنكم إبداء دهشتكم الآن أعزائي القراء! ما فعلته “انتصار” في برنامجها هي أنها كانت تحضر مجموعة من الفنانين وتقوم بفبركة بعض الصور التي يكونون فيها برفقة أشخاص آخرين أو أماكن أخرى، ثم تحضر لهم شخصا من هؤلاء الموجودين في الصورة وتحاول إقناعهم بأنهم يعرفون هذا الشخص. كان كثيرا من الفنانين ينكرون معرفتهم لهذا الشخص الذي يحاول إرغامهم على الاعتراف بصداقتهم القديمة. لكن ليس كثير منهم كان قدارا على إنكار الصور التي كانت تحتويهم مع أشخاص آخرين! بل أحيانا كان البعض يندمج في الصورة المعروضة ويحضر ذكريات تخص هذا اليوم. وأتذكر أن هناك فنانا أو اثنين لم ينكروا الشخص نفسه وكانوا يحاولون تذكر الحياة التي جمعتهم سابقا! ربما لم تكن “انتصار” على علم بالمعنى النفسي المصاحب لهذا البرنامج. ولكن هذا البرنامج كان يمكن اعتباره تجربة نفسية جيدة جدا من الممكن نشرها في المجلات العلمية كتأكيد على أهمية الذكريات الكاذبة وطريقة نشأتها.

الذكريات الكاذبة بعد الصدمات

ربما كان ما اكتشفه “جيمس كون” في عام 1997 هو إمكانية خلق مشاهد كاملة غير حقيقة في عقل شخص ما، واقتناع ذلك الشخص بحقيقة تلك الذكرى. ولكن الذكريات الكاذبة هذه كانت موجودة قبل ذلك وكان يتم استخدامها بطرق غير قانونية أو أخلاقية من بعض الأطباء النفسيين. وقادهم هذا الأمر إلى تكلف الملايين من الدولارات بعد مقاضاتهم في المحاكم. ولكن هذه الحالات كانت مختصة بحالات الصدمات النفسية والحالات التي تحتاج إلى علاج نفسي. ما أبرزه كون في تجربته هذه هي أن الأمر لا يستدعي شخصا تعرض لمأساة نفسية أو حادث مؤلم ليكون عرضة لزرع الذكريات بداخله.

متلازمة الذكريات الكاذبة

هذه المتلازمة تحدث عندما تكون الذكريات المختلقة وغير الحقيقية سببا في إتعاس الفرد أو جعله يعيش حياة صعبة. ففي معظم حالات الذكريات الكاذبة كحالة والتر شقيق كون أو جميع المشاركين في تجارب لوفتس أو الفنانين في برنامج انتصار، لم تكن لتلك الذكريات الكاذبة أثر كبير على حياتهم أو سببا في جعلها أسوأ أو أتعس. بل كانت ذكريات مختلقة عادية تملأ الفراغات الموجودة بداخلهم فقط دون الكثير من التعقيدات أو ما إلى ذلك. لكن تعتبر الذكريات الكاذبة أمرا خطيرا عندما تتحول إلى متلازمة، وعندما تقوم بإيذاء الفرد نفسيا وجعل حياته أصعب وأسوأ. كما أن الفرد المصاب بمتلازمة الذكريات الكاذبة تتحكم فيه تلك الذكريات وتؤثر على طريقة تفاعله مع نفسه ومن حوله وتقوم بحمله على اتخاذ قرارات خاطئة وغير صائبة نظرا لأنها بنيت في أساسها على كذبات عقلية. وكما أوضحنا أن هذه المتلازمة تكون أكثر عرضة للحدوث في مرضى الصدمات النفسية، كان هناك عدة وقائع عن الاستخدام الخاطئ للأطباء النفسيين تجاه هذه الظاهرة وسنذكر بعض هذه الوقائع فيما يلي.

نادين كول

“نادين كول” هي ممرضة مساعدة بمستشفى ويسكونسن. ذهبت “كول” لاستشارة طبيب نفسي عندما تعرضت لحادث أليم في فقدان ابنتها الصغيرة. كانت رغبة كول الوحيدة هي مواكبة المشاعر الأليمة التي تجتاحها ومحاولة العيش معها، بينما الطبيب النفسي كان على قناعة بأن كول لديها ذكريات دفينه من طفولتها لا تقوم بالإفصاح عنها في محاولة لحماية نفسها. وأصبح شغل الطبيب النفسي الشاغل هو استخراج تلك الذكريات المدفونة بداخلها لحمايتها من خطرها. ما حدث نتيجة ضغط الطبيب النفسي على كول بالإضافة إلى هشاشتها النفسية الناتجة من الحادث النفسي الأليم المتعلق بابنتها، هي أنها أصبحت على قناعة بأنها كانت من عبدة الشياطين، وكانت تأكل الأطفال الرضع، وأنها تعرضت لتحرش جنسي في طفولتها بل وتم اغتصابها أيضا. وفي النهاية إجبارها على مشاهدة مقتل صديقتها وهي في عمر الثامنة! بل أصبحت أيضا على قناعة بأن لديها 120 شخصية مختلفة تتضمن الأطفال والمراهقين والبالغين بل حتى شخصية بطة أيضا! أيمكنكم تخيل حياة شخص وهو مؤمن بكل تلك الأشياء وأنها حدثت له حقا! كل هذا كان سببه الوحيد هو أن طبيبها النفسي أخبرها أن لديها ذكريات مدفونة وأنها بحاجة إلى إخراجها من ذاكرتها. كل هذا حدث لأن عقلها أخد بعض المعطيات بأن هناك أشياء مخفية، فكان عليه أن يملأ تلك الفراغات ويأتي بذكريات لتسد مكانها. وكان طبيبها النفسي يسعى لتفاصيل معينة فقام بتوجيه عقلها لزرع ذكريات تخص تلك التوجهات. بل أن طبيبها هذا حاول أن يطرد الأرواح الشريرة من جسدها بما يعرف عندنا بجلسة الزار! أيمكنكم تخيل الضغط النفسي العنيف الذي تعرضت له كول بسبب طبيبها الأحمق والذكريات الكاذبة !

كول تقاضي الطبيب

عندما أدركت كول أن كل ما هي على قناعة به كان ذكريات كاذبة تمت زراعتها بسبب طبيبها النفسي. وأدركت كم التحطم النفسي الذي مرت به نتيجة هذا الطبيب. قامت كول بمقاضاة طبيبها وتمكنت في انتزاع مبلغ قيمته 2.4 مليون دولار منه بعد خمسة أسابيع محاكمة له. كان هذا المبلغ عام 1996، أي أنه لم يكن مبلغا كبيرا فقط. بل كبيرا جدا! ولكن كول لم تكن الضحية الوحيدة جراء الذكريات الكاذبة هذه. بل كانت هناك مريضة أخرى تدعى “روث روزرفيلد” تعرضت لزرع ذكريات بداخلها. لكن الحقيقة المؤلمة هي أنها لم تكن على يد طبيب نفسي هذه المرة، بل على يد مستشار الكنيسة! قام هذا المستشار بمساعدة روث على تذكر أشياء حدثت لها وهي في سن السابعة إلى الرابعة عشر تتعلق باغتصاب والدها لها طوال تلك المدة. بل وصل الأمر إلى أن والدتها كانت تساعد والدها على اغتصابها بتثبيتها أرضا! بل أنه أيضا حاول إجهاضها أثناء حملها وأجبرها على إجهاض الطفل أكثر من مرة بنفسها ودون مساعدة أحد. كانت نتيجة هذه الذكريات هي أنها انتشرت إلى العامة وتسببت في ترك والدها عمله والاختباء من الصحافة. فهذه جريمة لا تغتفر لأي والد أو والدة. ولكن ما حدث لاحقا هو أن الفتاة تعرضت لفحص طبي أثبت أنها لا تزال عذراء حتى سن الثانية والعشرين، وأنها لم تتعرض للحمل إطلاقا. فكيف تتعرض للإجهاض أو الاغتصاب؟! هذه الأدلة كانت طريق روث لمقاضاة مستشار الكنيسة وتغريمه مبلغ مليون دولار كتسوية في نفس العام الذي حصلت فيه كول على تسويتها.

كيف نصدق ما نتذكره؟!

هذه الحوادث السابقة أتت مذكورة في مقال لإليزابيث لوفتس نفسها وكانت تستشهد فيها عن حقيقة وجود الذكريات الكاذبة وكيف أنها تؤثر على الشخص والآخرين أيضا. وكانت تتساءل عن الإمكانية التي تجعلنا نصدق في ذكريات أحد عن التحرش الجنسي أو الشهادة العينية في المحاكم أو غير هذه الأشياء رغم وجود الأدلة الدامغة على أن معلومات خاطئة في غاية البساطة بإمكانها إنتاج الكثير من الذكريات الكاذبة التي لن يكون أي أحد على علم بأنها خاطئة؟! نتيجة لهذه الأسئلة التي اجتاحت عقل لوفتس والتي جعلتها تقوم بتجارب كثيرة مختلفة ومتنوعة مع طلابها والعلماء الآخرين. وبإمكانك الاستفادة بكثير من هذه الدراسات والمعلومات إذا شعرت برغبة أكبر في معرفة المزيد عن هذه الذكريات الكاذبة عزيزي القارئ. ولكن الآن دعنا ننهي بعض النقاط الرئيسية الهامة حول متى يمكننا أن نصدق الذكريات التي تستعيدها ذاكرتنا؟

الذكريات المستحيلة

أول شيء سنكون قادرين على الثقة بأنه ليس ذكرى حقيقة وإنما هي مجرد توهمات من وحي خيالنا، هي ذكريات الطفولة تلك التي تكون في سن الميلاد وحتى سن الثلاث سنوات تقريبا. سبب ثقتنا الشديدة في هذا الموضوع هي أن منطقة الحصين الموجودة داخل أدمغتنا والتي تكون مسئولة عن تكون الذكريات والاحتفاظ بها تكون في طور النمو وغير مكتمل. لذلك، تكون الذكريات غير قادرة على الالتصاق بعقولنا والتوطد بها. ولعلك الآن تستنتج عزيزي القارئ أن هذا معناه أننا لا يمكننا تكوين ذكريات عن تلك المرحلة. ويكون الأمر مستحيلا في السنة الأولى في أعمارنا وتقل استحالته كلما نما جزء من الجزء المسئول عن ذاكرتنا في الدماغ وانتهاءا بعمر الثالثة. بعد ذلك العمر بإمكاننا أن نبدأ الثقة في أن هذه الذكريات التي نستدعيها “ربما” تكون ذكريات حقيقية.

المشاعر الإيجابية تمنع الذكريات الكاذبة

من التجارب التي تم إجرائها لمعرفة تأثير المشاعر الإيجابية أو السلبية التي تحيط بنا على قدرتنا الدقيقة في تكوين الذكريات واسترجاعها. هذه التجربة تمت بواسطة عالمين آخرين هذه المرة هما “ستوربك” و “كلور”. كانت التجربة تتلخص في وضع مجموعتين مختلفتين للمرور بذكريات معينة، ولكن تم استعمال الموسيقى لتكون مصاحبة لهذه الأحداث. إحدى هذه المجموعتين كانت تستمع لموسيقى سعيدة والأخرى كانت تستمتع لموسيقى حزينة. كانت نتيجة هذه التجربة هي أن مجموعة الموسيقى السعيدة كانت أكثر قدرة على تذكر الأحداث الصحيحة، بينما مجموعة الموسيقى الحزينة كانت أكثر عرضة لإدراج بعض الذكريات الكاذبة في الحادث الذي تعرضوا له. ربما كان هذا الأمر متعلقا بأنواع موسيقى مختلفة، ولكن بإمكاننا تطبيقه على طريقة سير حياتنا. فكلما كانت الذكريات سعيدة، كلما كنا أكثر قدرة على الثقة بهذه الذكريات. أما إذا كانت الذكريات حزينة، فعلينا أن نشكك في حقيقة هذه الذكريات وقوة سوداويتها التي نراها في مخيلتنا. فربما كانت مشاعرنا السلبية هي السبب في هذه الذكريات الكاذبة . ويظهر هذا الأمر جليا في الأشخاص الذي يتعرضون للاكتئاب حيث تصبح معظم الذكريات التي يتذكرونها هي ذكريات حزينة وتحمل قدرا كبيرا من الحزن الذي ربما لا يكون موجودا في الحقيقة، وإنما هو حزنهم الذي يترك بصمته على ذكرياتهم.

الذكريات الكاذبة وشهود العيان

معظم حديثنا حتى الآن يتعلق بما تفعله الذكريات الكاذبة بنا وفي حياتنا، ولكن هناك مشكلة أخرى كبيرة أثارتها مشكلة الذكريات الكاذبة هذه وهي فيما يتعلق بموضوع شهود العيان عند الحديث عن عملية إجرامية الدليل الوحيد فيها هي ذاكرة أحدهم!

في عام 1984 تم إرسال “كيرك بلادسورث” إلى السجن وقضاء حكم سجني مدته 9 سنوات كعقاب لاعتصابه فتاة صغيرة في التاسعة من عمرها. كان الدليل الوحيد في هذه القضية هو شهادة خمسة أفراد قالوا بأنهم رأوا الحادث وبإمكانهم الشهادة ضده. ولكن المفاجأة كانت من نصيب الجميع بعد قضاء كيرك مدة سجنه، عندما أثبت تحليل المادة الوراثية DNA براءته! لقد كانت شهادة الشهود الخمسة خاطئة. وإذا لم تكون زورا، فهي خطأ الذكريات الكاذبة . بعد ظهور اختبارات المادة الوراثية في التسعينات وإمكانها تبرئة المتهمين بدون حق، قامت مؤسسة أمريكية تدعى “مشروع البريئين” في إجراء فحوصات المادة الوراثية اللازمة لبعض المتهمين الذين بلغ عددهم 239 متهما، والذين دخلوا السجن بشهادة أشخاص فقط دون وجود أدلة أخرى. كانت نتيجة هذه الفحوص هي أن ثلث هؤلاء المتهمين كانوا بريئين من التهم الموجهة لهم، ورغم أن كل متهم من هؤلاء دخل السجن بشهادة اثنين أو ثلاثة ضده، إلا أن كل هؤلاء الأشخاص كانوا مخطئين. فما الذي نفعله إذا عندما يتعلق الأمر بجريمة لا يوجد حكم فيها سوى الشهود؟

حل هذه المشكلة يكمن في ألا يعتمد القضاة تماما في أحكامهم على شهادة الشهود، وأن يحاولوا دائما إيجاد أدلة أخرى بجانب الشهود وعدم الاكتفاء بهم وحدهم نهائيا. وأيضا يجب على الشهود أن يبتعدوا عن الإدلاء بشهادتهم إذا كان لديهم ذرة شك في ما شاهدوه أو كانت هناك بعض الضبابية في ذاكرتهم. فحياة الأشخاص على المحك ليست لعبة يلعبون بها إذا كانوا قادرين على الشك في أنفسهم وفيما رأوه. ولذلك يقولون لنا دائما بألا نصدق شيئا مما نسمعه، بينما نصدق فقط نصف ما نراه! لذلك علينا الانتباه جديا عندما يتعلق الأمر بذكرياتنا، وأن نتحرى الدقة بدلائل مادية أخرى أو علامات مصاحبة لتلك الذكريات عندما يتعلق الأمر بقرار مصيري أو إرسال أحدهم إلى إهدار عمره في سجن في الغالب لن يحترم إنسانيته وقد يخلق منه مجرما دون سبب.

أفنان سلطان

طالبة جامعية، أهوى القراءة واعتدت الكتابة كثيرا منذ صغري. على أعتاب التخرج ولا أدري بعد ماذا سأفعل.

أضف تعليق

تسعة عشر − خمسة =