عندما رأيت أشلاء من الرماد في مكان ما ذات يوم، هل تخيلت أن هذا الرماد بإمكانه أن يخبرك قصة كاملة عن شئ ما ؟! التحقيق في جرائم الحرائق يخبرك أن هذه الأشلاء من الرماد، بإمكانها أن تحكي قصة أفضل من كتب الأطفال التي تحكيها لأطفالك قبل النوم ! النيران، هي إحدى هذه الأشياء المخيفة بصفة عامة للنفس البشرية. فتأثيرها يكون في غاية العنف عدما يخرج عن السيطرة، ويكون مؤذيا للبشر والممتلكات وكل ما تمسه هذه النيران. وعندما تندلع هذه الحرائق، سنود أن نظن بأن هناك خللا ما في دائرة كهربية أو لهو أطفال هو ما سببه، ونصلي لكي ينتهي كل شئ بأمان. لكن ماذا لو لم يكن هذا هو السبب ؟ ماذا لو كان هذا الحريق متعمدا .. وأريد به إلحاق الأذي بأحد، أو بشئ ما ؟ كيف نكتشف هذا عندما نجد أن كل شئ استحال إلى رماد في النهاية ؟! التحقيق في جرائم الحرائق يخبرك بأنه يستطيع إخبارك القصة من أكوام الرماد المتبقية هذه. التحقيق في جرائم الحرائق يخبرك بأنه هو الإجابة على كل هذه الأسئلة !
طرق التحقيق في جرائم الحرائق
علم النار !
قد تشعر أن هذا الاسم يبدو غريبا أو جديدا، ولك كامل الحق في ذلك، فكيف يكون للنار علم كامل خاص به ؟! ولكن كما أخبرتك بأن النار هي من أكثر الأشياء المرعبة للنفس البشرية جراء ما تلحقه بأذى لكل شئ، كان من الضروري أن ينشأ علم يهتم بدراسة طبيعة النار وكل ما يتعلق بها. ولكن الاسم الخاص بهذه الأشياء ليس علم النار بالتحديد، وإنما هو علم مقاومة النار، أو الحماية من النار. حيث يتمكن العالم بهذا النوع أن يحارب الأنواع المختلفة من النيران ومحاولة التغلب عليها، ومن أمثلة هؤلاء الأشخاص هم رجال الإطفاء.
الحماية من النار هو فرع يهتم بدراسة وممارسة الأساليب اللازمة لتخفيف الآثار المحتملة غير المرغوب فيها للنيران ذات التأثير المدمر، أو التي خرجت عن السيطرة. يتضمن هذا الفرع دراسة طبيعة النيران وكيفية التحقيق في نشوئها وطريقة إخمادها.
أنواع الحرائق
الحرائق قد تكون ناشئة عن أسباب لاإرادية أو غير مفتعلة، كترك أنبوب غاز مفتوحا في الهواء دون أن يُلاحظ أحد، ثم أشعل أحدهم عود ثقاب. أو كأن يزداد الاستهلاك الكهربائي في مكان ما عما تستحمله الدارة الكهربائية، فيحدث حريق. أو غيرها من أسباب الحرائق التي تكون خارجة عن السيطرة وليس لأحد يد فيها. ويكون التحقيق في جرائم الحرائق هذه، غالبا ما يُسفر عن الانتهاء بأن لا أحد السبب وأن الحريق كان طبيعيا وليس مفتعلا.
ولكن الحرائق قد تكون بسبب إهمال شخص في منظمة كبيرة، أو سوء تصنيع لدارة كهربائية أو حتى حريق مفتعل من أجل إخفاء أدلة جنائية مثلا أو التخلص من أحد أو شئ ما. في هذه الحالة، سنحتاج بشدة إلى التحقيق في جرائم الحرائق لنصل إلى الفاعل والغرض من فعله وتحقيق العدالة المطلوبة. ما الذي يجب أن يفعله المحقق إذا عند التحقيق في جرائم الحرائق ليكتشف حقيقة الحريق، وكيف نشأ ومن المتسبب فيه ؟
التحقيق في جرائم الحرائق
عند نشوء حريق هائل أو مدمر، يتم استدعاء العديد من المنظمات الخاصة كقسم الإطفاء، الإسعافات الطبية، خدمات الحريق والمنظمات القانونية. المنظمات القانونية وقسم خدمات الحريق يكونان الملزمان بمعرفة أسباب نشوء الحريق وإذا ما كان مفتعلا أم مجرد حادث.
الوصول إلى موقع الحدث
أول الجهات المستجيبة لإعلان حريق أو حتى مجرد شخص عادي، يجب عليه التأكد تماما أن كل من في الحريق بخير أو تلقى الإسعافات الطبية المطلوبة. من بعدها تبدأ سلسة من الإجراءات كما يلي:
راقب المشهد جيدا وحاول التقاط الأشياء الغريبة
إذا كنت من أول الواصلين إلى المكان، حاول إلقاء الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة الموجودة في المكان مثل الأماكن التي كانت تشتعل، ومتى بدأ الحريق ومن الذي شاهدته يخرج من المبني أثناء أو بعد الحريق وأشياء أخرى كهذه. الغرض من هذه المراقبة هي أن تخبر الأشخاص القادمين من جهة التحقيق في جرائم الحرائق عن جميع الأخبار التي بإمكانهم أن يستقوا منها دليلا أو بداية حبل لدليل.
محاولة تأمين المكان من أية أضرار زائدة
عند الوصول إلى مكان الحريق، يجب التأكد من أن كل الأشخاص الموجودين بالمكان في مكان آمن أو يتلقون الإسعافات الطبية اللازمة لهم، وبعد هذا تحديد الأماكن ذات الطبيعة الخطرة كالأماكن محتملة الانهيار مثلا، بعد تحديد مواقع الخطر المحتملة، يتم إبلاغ مختصين السلامة بها والعمل على محاولة منع أحد من الاقتراب من هذه الأماكن لتجنب أية خسائر أخرى. فالأمان والسلامة يجب أن يكونان الاهتمام الأول في أي حالة خطرة.
حفظ الأدلة
عند الوصول إلى مسرح الحريق، يتم النظر بعناية والبحث عن أي دليل أو خيط يمكن أن يقود إلى السبب الأساسي لنشوء هذا الحريق. يتم التعامل مع هذه الأدلة بعناية تامة وتحويلها إلى المباحث الجنائية لرفع البصمات عنها أو القيام بالتحاليل اللازمة لها.
تكوين بيئة مؤمنة ومحكمة
في أثناء محاولة الحصول على الأدلة، يتم إحاطة المكان ومحاولة تأمينه ومنع دخول أو خروج أي شخص دون إذن. للتأكد من عدم محاولة أي شخص من تدمير دليل ما أو إخفاء شئ هام. كما يتم أيضا تكوين ملف مكتوب أو صوتي أو مسجل بالصوت والصورة عن حالة المكان العامة وكيف كانت عند وصول أول شخص إلى المكان.
تقييم موقع الحدث
الخطوة السابقة كانت تتعلق بشكل أساسي بأول الواصلين إلى مكان الحريق، بغض النظر عن ماهية هذا الشخص. عند هذه النقطة، سيكون المحقق الخاص بجهة التحقيق في جرائم الحرائق قد وصل وبدأ في عمله. وخطوات تقييم موقع الحدث تتأتّى بالآتي:
الاتصال مع الشخص الأول الذي وصل إلى الحادث
عند وصول المحقق الخاص بجهة التحقيق في جرائم الحرائق ، يتم التواصل مع الشرطي المسئول عن الحدث ومع المستجيب الأول لموقع الحدث والحصول على كافة المعلومات الممكنة التي تمكنوا من الحصول عليها عند وصولهم إلى موقع الحدث. وعلى المحقق الاهتمام بالتفاصيل المختلفة حول حالة الأمان في المكان أثناء اندلاع الحريق أو عند الوصول إلى الموقع، وكذلك الاهتمام بأحوال الطقس في ذلك الوقت والطريقة التي تم التعامل بها مع الحريق.
استجواب الشهود
يجب على المحقق أن يقوم باستجواب الشهود الموجودين أثناء الحادث داخل أو خارج الموقع – مع مراعاة الحالة النفسية للشهود من داخل الموقع – ، والتعرف على وقت ابتداء وانتهاء الحريق، آخر من غادر موقع الحدث قبل اندلاع الحريق، مالك موقع الحريق وغير هذه من المعلومات الممكن الحصول عليها سواءا من الشرطي المسئول، الشهود و الواصلين من الجهات الحكومية أو حتى العامة.
التحقق من فعالية وسائل الأمان
يجب على المحقق التأكد من أن وسائل الأمان بالموقع كانت فعالة أثناء الحدث، وأن صفارات إنذار الحريق قد فتحت في الوقت المناسب وأن الاتصال بمركز الإطفاء والمراكز المختصة كان في الوقت المناسب أيضا. فأي تأخر في أحد هذه التوقيتات قد يكون أول دليل على أن الحادث كان مفتعلا، وكل هذه كانت تأخيرات من أجل غرض ما.
التوصل للمعلومات الهامة لاستمرار التحقيق
على المحقق العمل على الوصول إلى النقطة الأساسية التي بدأ منها الحريق، والطريقة التي بدأ بها سواءا كان مصدر كهربائي أو غازي أو غير ذلك. وكذلك الظروف المحيطة بكل ذلك والتي ساعدت على اشتعال الحريق. في حال لم يستطع المختص بجهة التحقيق في جرائم الحرائق ، الوصول إلى النقطة الأساسية أو السبب في اشتعال الحريق، عليه أن يستدعي مساعدة جهات مختصة أخرى لمساعدته على ذلك. ويجب أن يكون المحقق خبيرا في معرفة متى يحتاج إلى خبير ومتى لا يحتاج.
معرفة كافة جهات التحقيق
إذا أثبتت أي من النقاط السابقة أن الحريق كان متعمدا أو لإخفاء أية أدلة، على المحقق أن يحدد بوضوح الأشخاص المتضررين أو المستفيدين من هذا الحريق. وأيضا معرفة أية أحزاب ثالثة لن تتأذى أو تتضرر، ولكن يمكن أن يكون لها يد في ذلك.
توثيق الحالة
في هذه المرحلة، وبعد انتهاء الدراسة العميقة للموقع والأشياء الموجودة به. يجب على المحقق أن يقوم بتسجيل كل شئ موجود في حادث الحريق بطريقتين:
التصوير أو التسجيل الصوتي والصور
يجب على الباحث أن يسجل تصوير مرئي دقيق لكل أحداث الموقع. فربما كانت هناك بعض الأدلة التي لم ينتبه المحقق لها أثناء التحقيق الميداني وتمكن من تعقبها من خلال التصوير المرئي الدقيق. يجب أثناء التصوير:
- إزالة جميع المستلزمات الشخصية غير الضرورية أثناء التصوير، حتى لا تعيق المشهد العام.
- التصوير الداخلي والخارجي للموقع بأكمله بما في ذلك الأبواب والحوائط والنوافذ.
- الاهتمام بتصوير الأماكن الأولى في اندلاع الحريق والمواد المسببة لذلك.
- توثيق كل هذه التصويرات متضمنة بذلك اسم المصور وكل ما يتعلق بهذا التوثيق.
- وصف المشهد بالإضافة إلى كل التوثيقات السابقة،
- يجب على المحقق أن لا يكتفي بهذا، وأن يقوم بكتابة توثيق خاص به شخصيا، ويضمنه كل ما رآه وسمعه. وللتأكد من مطابقة ما رآه بنفسه وما رآه غيره باختلاف المصادر.
نقل الأدلة
هذه الخطوة ليست بالضرورة متضمنة المحقق المختص بجهة التحقيق في جرائم الحرائق الذي كان بالحادث، من الممكن أن يكون المسئولون عن هذه المرحلة هم جهة مختلفة مختصة في طريقة معاينة الأدلة، ولكنهم سيظلون أيضا تابعين لجهة التحقيق في جرائم الحرائق . الخطوات المتبعة في هذه المرحلة هي:
منع تلوث الأدلة
يجب على مجمع الأدلة أن يحرص على عدم وصول أي تلوث إلى الدليل قبل وأثناء معاينته حتى لا يؤثر هذا على الأدلة أو يتسبب في فسادها مثلا فتصبح غير مفيدة. ويجب استعمال قفازات ذات استعمال واحد للتأكد من عدم وجود مصادر تلوث على هذه القفازات قبل الاستخدام أو بعده، سواءا من المحقق أو معاين الأدلة.
تعبئة وترحيل الأدلة
هذه الخطوة تعتبر مهمة جدا في عملية تجميع الأدلة. يجب على مجمع الأدلة التأكد من عدم حدوث أي تدمير للأدلة سواءا في مرحلة التعبئة، النقل أو التخزين حتى مرحلة فحص الأدلة. من أمثلة هذه الاحتياطات
التأكد من عدم احتمالية تلوث الأدلة:
- تعبئة المواد الهشة بحذر عال.
- التجميد أو النقل الفوري للمواد الزيتية أو القابلة للتبخر إذا تم تركها لفترة أطول من اللازم.
التأكد من خط سير الأدلة
لا تنتهي مهمة جامع الأدلة بإرسالها إلى المعمل، يجب عليه أيضا أن يتأكد من وصول كل دليل إلى النقطة المخصصة لها عن طريق توثيق ورقي لهذه المعاملات. فيجب أن يكون هناك توثيق ورقي عند إيداع الأدلة، وآخر عند النقل والخروج من موقع الحدث، وثالث عند الوصول إلى المعمل، وكذلك عند الدخول إلى معمل الأدلة للتحليل. كل هذه الخطوات يجب معرفة من الذي قام بها وكيف ومتى.
إنهاء التحقيق
هذه الخطوة تكون الختام لسلسة التحقيق الطويلة المرهقة هذه. في هذه المرحلة يعاود المحقق المختص من جهة التحقيق في جرائم الحرائق بالعودة إلى التحقيق والقيام بعملين أخيرين وهما:
تحرير موقع الحدث
عند الانتهاء من جمع الأدلة والحصول على الشهادات المطلوبة والصور والفيديوهات اللازمة، وبذل كل الجهد المطلوب في سبيل إيجاد أفضل الأدلة. يمكن الآن للمحقق أن يزيل الحراسة والعزل عن موقع الحدث والسماح لإعادة سير الحياة فيه بشكلها الطبيعي إذا كان هذا ما يراه المحقق صحيحا. إذا لم يكن هذا الحل الأفضل، أو ظن المحقق أنه يمكن استخدام موقع الحدث لمدة أطول في الأدلة ولديه حجة قوية لذلك، سيكون لديه الحق في إكمال عزل المكان وحمايته كما يتطلب الأمر. ولكي يتمكن المحقق من التأكد أن الموقع في حالة تسمح له بالتحرر، يجب أن يتحقق التالي:
- التأكد أن كل الأدلة قد تم تجميعها وتخزينها في معمل الأدلة.
- مناقشة كل الأدلة والمعلومات المستخرجة من معمل الأدلة والتحليل الجنائي مع فريقه المختص في التحقيق في جرائم الحرائق.
- الانتهاء من تكليف الجهات القانونية المختصة بتحقيقات ما بعد الحادث.
رفع التقرير إلى الجهات المختصة
تعتبر هذه النقطة هي نقطة النهاية في مرحلة التحقيق، حيث يكون المحقق قد استخدم كل الأدلة المتاحة واستنبط كل الأدلة غير المتاحة وتوصل إلى الأدلة الكافية لتقوده إلى الجاني أو أصل المشكلة عموما. فبعد انتهاء كل هذا وتوثيقه، يجب رفع هذه الملفات إلى قاعدة البيانات الخاصة بها. رفع البيانات إلى قاعدة البيانات تلك يساهم في مساعدة المحققين الآخرين في التحقيق في جرائم الحرائق المشابهة أو الحصول على بعض المساعدة منها. وأيضا تساعد على قيام دراسات وبحوثات تتعلق بهذه الجرائم وإمكانية تكرارها أو طريقة تكرارها، وكثير من المعلومات التي يمكن من خلالها أن نتجنب حدوث مثل هذه الحرائق مرة أخرى. قواعد البيانات التي يجب على المحقق رفع بيانات القضية إليها طبقا للمؤسسة القومية للعدل (NIJ) هي كما يلي:
- قاعدة بيانات المستودع القومي للمتفجرات والحرائق المتعمدة.
- قاعدة بيانات المتفجرات.
- قاعدة بيانات النظام القومي لتقارير حوادث الحرائق.
- قواعد بيانات النظم المحلية أو نظم الولايات المفردة لتقارير حوادث الحرائق.
عند هذه النقطة نكون قد وصلنا إلى النهاية أخيرا. فما تخبره لك بقايا الرماد أن حادث أليم حدث في هذا المكان، هي نفس بقايا الرماد التي تخبر المحقق المختص بجهة التحقيق في جرائم الحرائق عن الفاعل وماهيته وعن بدء الحريق وكيفيته وموعده. التحقيق في جرائم الحرائق لن يكون أمرا سهلا أبدا، فالمآسي الكثيرة الموجودة في أماكن الحوادث والآثار النفسية الضارة جدا التي تتركها في نفوس المحققين وجميع من يتعاملون مع هذه المواقف، هي أشياء تجعل من هذا العمل عملا شاقا. وأيضا خطيرا جدا في حالة حدوث مواجهة بين المحقق والمتسبب في الحريق، مع إمكانية حدوث طلق ناري يعرض كل الأطراف للخطر. لكن لحسن حظنا، وفي وجود أشخاص ينتشون بدفعة الأدرينالين التي تسري في أجسادهم عند الشعور بالخطر، هذا هو ما جعل قسما كقسم التحقيق في جرائم الحرائق يخرج إلى الوجود ويساهم في حل القضايا العصيبة ومحاولة تجنب مشاكل قادمة كثيرة.
أضف تعليق