مع سقوط أخر الحكام المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية تأسست الإمبراطورية الإسبانية الكبيرة التي نمت بشكل كبير للغاية حتى صارت في فترة من الزمن الإمبراطورية الأكثر اتساعًا على وجه الأرض، وقد تعاقب على حكم تلك الإمبراطورية مجموعة من الأسرات مثل الهابسبورغ الذين وصلت الدولة في عهدهم إلى كونهم أكبر قوة اقتصادية عسكرية وسياسية في العالم، وبعدهم أسرة آل بوربون وفي عهدهم وصلت الإمبراطورية الإسبانية إلى أقصى اتساع لها، وفي تلك الفترة حملت لقب الإمبراطورية التي لا تغطيها الشمس أو التي لا تغيب عنها الشمس، ولكن لم يدم هذا اللقب للإسبان طويلًا حيث تمكنت بريطانيا بعدها من أخذ ذلك اللقب، وهذا بعدما أتسعت بشكل كبير للغاية جعلها الأكبر على مدار التاريخ بأسره، وفي مقارنة قد خرجت منذ فترة توضح كم الدول التي وقعت تحت الاستعمار وجد أن بريطانيا العظمى قد استعمرت عدد يفوق استعمار فرنسا وإسبانيا وألمانيا مجتمعين، عامة كان للإمبراطورية الإسبانية مكان كبير بين الدول الاستعمارية العظمى، وهذا ما سوف نتعرف عليه في مقالنا هذا، فتابعوا معنا.
استكشف هذه المقالة
الإمبراطورية الإسبانية الاستعمارية
نشأت الإمبراطورية الإسبانية في نهاية القرن الخامس عشر تحديدًا عام 1492 وهو نفس العام الذي سقطت فيه الأندلس الإسلامية، فكما نعرف قد تم فتح إسبانيا من قبل المسلمين عام سبعمائة واثنين وعشرين وحولوا اسمها إلى بلاد الأندلس، واستمروا فيها حتى العام الثاني والتسعين من القرن الخامس عشر وهو كما قلنا عام تأسيس الإمبراطورية الإسبانية ، ومن الجدير بالذكر أن الإمبراطورية الإسبانية قد استمرت حتى عام 1975، ولكنها ضعفت كثيرًا في نهايتها حتى صارت تمتلك بضعة دول فقط، وذلك لظهور إمبراطوريات استعمارية كبرى مثل بريطانيا وفرنسا، عامة بالنظر إلى تاريخ تأسيس الإمبراطورية الإسبانية نعرف أنها أولى الإمبراطوريات الأوروبية العالمية، وقد وصلت تلك الإمبراطورية إلى أقصى قوة لها من ناحية الاقتصاد والجيش والسياسة في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي، وهي الفترة التي كانت تحكم فيها الإمبراطورية أسرة الهابسبورغ.
أما عن أقصى اتساع جغرافي وصلت له الإمبراطورية فقد كان ذلك في القرن الثامن عشر حينما كان يحكمها أسرة آل بوريون، فيذكر أن الإمبراطورية الإسبانية في تلك الفترة كانت الأضخم في العالم أجمع حتى أنها أول من أخذت لقب الإمبراطورية التي لا تغطيها الشمس أو التي لا تغيب عنها الشمس، ولكن بعدها بفترة سحبت بريطانيا العظمى البساط من تحته وصارت حاملة ذلك اللقب، حيث تمكنت بريطانيا من هزيمة الإسبان في عدة معارك بحرية وبرية حتى أتيح لها السيطرة على بعض البلدان التي كانت تحت يد الإسبان.
الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية
كانت شبه الجزيرة الإيبيرية كاملة تحت حكم المسلمين إلى أن سقطوا وسقط حكمهم فيها وبدأ يتشكل على إثرها الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية، وبعد هذا التأسيس كان يوجد صلح وتوافق بين الإمبراطوريتين ولكنه لم يستمر طويلًا نظرًا لاكتشافات العالم الجديد وما إلى ذلك، فأخذت كل إمبراطورية منهم شق خاص بها واستمروا في انعزالهم إلى أن جاء عام 1580، حيث حدث في ذلك العام ما يسمى بالاتحاد الأيبيري الذي أستمر حتى عام 1663، وقد تم هذا الاتحاد حينما قتل ملك البرتغال المسمى بسيباستيان في القصر الكبير المغربي، وهي الحادثة التي عرفت بالهجوم الكبير على القصر الكبير أو معركة وادي المخازن، حيث مات في تلك المعركة ملك البرتغال وانهارت هذه الإمبراطورية الكبيرة مما أتاح الطريق للإسبان كي يتدخلوا في البرتغال ويضموها إليهم.
ففي اليوم التالي من المعركة قام فيليب الثاني ملك الإمبراطورية الإسبانية بالتوجه مباشرة صوب البرتغال والسيطرة عليها بحجة حماية الدولة من الغزو المغربي المحدق، فقام فيليب الثاني بتنصيب نفسه ملك للبرتغال تحت مسمى فيليب الأول البرتغال عم 1581، وأصبحت هناك واحدة وترابط بين الدولتين ولكن للبرتغال حكم ذاتي، حيث يقوم بإدارة شئونها الداخلية البرتغاليين مع تواجد بعض نواب فيليب الثاني داخل لشبونة لمتابعة الأحداث الجارية، فوافقت على تلك الوحدة جميع المناطق التابعة للإمبراطورية البرتغالية ما عدا جزر الأزور التي تمنعت عن الاعتراف بذلك، فقام الإسبان بتجريد حملة عسكرية تمكنت فيها من إخضاع تلك الجزر لها وبذلك تستقر الأوضاع في كافة أنحاء البرتغال.
وبناء على تلك الوحدة الكبيرة جنى البرتغاليين الكثير من الأرباح مثل ضخ الرقيق في إسبانيا مقابل مبالغ مالية كبيرة، والتوسع تجاه البرازيل بشكل عميق للغاية يظهر أثره الآن في تحدث البرازيل اللغة البرتغالية كلغة رسمية لهم، ولكن كل هذا لم يكن بشيء أمام السلبيات والخسائر التي جناها البرتغاليون من وراء هذا الاتحاد، وكان على رأسها دخول البرتغاليين في حروب من أجل الإسبان لكونهم تابعين لهم، منها على سبيل المثال حربهم ضد هولندا وضد بريطانيا وضد فرنسا، ومع مرور الوقت انهارت الإمبراطورية الإسبانية وهذا ما أدى إلى انفصال البرتغاليين عنهم واستعادة حكمهم وإمبراطورتيهم مرة أخرى.
الدول التي استعمرتها إسبانيا
قبل أن تظهر إمبراطوريات بريطانيا العظمى وفرنسا وهولندا كانت الإمبراطورية الإسبانية هي الأكبر في العالم أجمع، حتى أنها تعد أول من حملت لقب الإمبراطورية التي لا تغطيها الشمس، وقد وصل عدد المستعمرات الإسبانية إلى حوالي أربعة وأربعين مستعمرة حول العالم بعضها في الأميركيتين والعالم الجديد، وأخرى في إفريقيا، وأخرى في آسيا، وأخرى في قارة أوروبا، وهذه الدول هي غينيا الإسبانية ثم تحولت إلى غينيا الاستوائية وظلت تحت الحكم الإسباني لفترة أيضًا، وفي نفس قارة إفريقيا قامت الإمبراطورية الإسبانية باستعمار الجزائر، والمغرب، والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وطرابلس في ليبيا، وفي قارة آسيا قام الإسبان باحتلال دولة الفلبين وهي عبارة عن أرخبيل من الجزر يصل غلى سبعة آلاف ونصف جزيرة تقريبًا.
وقامت أيضًا بالسيطرة على بعض الأجزاء الشرقية من شبه القارة الهندية وهي ما أطلق عليها الهند الشرقية الإسبانية، وأيضًا تمكنوا من السيطرة على جزر الهند الغربية الإسبانية، فكما نعلم كان للهولنديين نصيب في شبه القارة الهندية، وكان للبريطانيين نصيب كبير في الهند حتى تمكنت في النهاية عن طريق شركتها من فرض سيطرتها على كافة أجزاء الهند وذلك بعد ضعف الإسبان وطردهم منها، أما عن قارة أوروبا فقد تمكنت الإمبراطورية الإسبانية من فرض سيطرتها على هولندا التي كانت تنافسها بقوة، حيث قامت بإخضاعها بعد عدة معارك كان هولندا فيها ضعيفة للغاية، أيضًا قامت باستعمار وجمهورية الدومينيكان الصغيرة، هذا بجانب بعض الدول في قارة أوقيانوسيا مثل ولايات ميكرونيسيا المتحدة، أما عن الاستعمار الإسباني في الأمريكيتين فهذا ما سنتعرف عليه في الفقرة التالية.
الاستعمار الإسباني للأمريكيتين
تعتبر الإمبراطورية الإسبانية هي أول من اكتشفت الأميركيتين عن طريق مبعوثها كولومبوس ولذلك كان لها نصيب الأسد في مناطق العالم الجديد، وبغض النظر عن كون هذا لا يعد اكتشاف ولا يعد كولومبوس أول من يصل إلى الأميركيتين إلا أن إسبانيا تمكنت من السيطرة على عدة مناطق أمريكية، فعلى سبيل المثال سيطرت الإمبراطورية الإسبانية في العالم الجديد على كوبا، وجامايكا، ورأس لا فيلا، ورأس غراسياس أديوس، وبورتوريكو، وكاستيلا دي أورور، وهيسبانيولا، وفيراغو، وفلوريدا، وفنزويلا، وأريزونا، والأباما، وبعض من مناطق أوروغواي، والأرجنتين، والبرازيل، والإكوادور، والسلفادور، والمكسيك، وكولومبيا، والعديد من ولايات دولة الولايات المتحدة الأمريكية، وبيرو، وبوليفيا، وغيرها من الدول والمناطق الموجودة في قارتي أمريكا الجنوبية والشمالية وما بينهم وهي المنطقة التي تسمى بأمريكا الوسطى، وكل هذه السيطرة كانت بسبب المكتشف كريستوفر كولومبوس الذي كان في رحلة ترعاها الإمبراطورية الإسبانية ، فكان للإسبان السبق في تلك القارة وهذا ما جعلها تأخذ نصيب الأسد منها كما قلنا.
سقوط الإمبراطورية الإسبانية
بدأت الإمبراطورية الإسبانية في السقوط تدريجيًا منذ بداية القرن التاسع عشر حيث كان هذا القرن بمثابة الطامة الكبرى بالنسبة للإسبان، فقد خسروا جميع مستعمراتهم الخارجية وما بنوه خلال قرون وعادوا إلى دولة صغيرة ليس لها مكان تحت الشمس، وقد بدأت عملية السقوط وخسارة المستعمرات الخارجية بسقوط إقليم لويزيانا عام 1800، حيث تمكن نابليون من هزيمة الحامية الإسبانية المرابطة بذلك الإقليم ثم بعدها ببضعة أعوم باع الإقليم للولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعدها بخمسة أعوم فقط هزيمة الأسطول البحري الإسباني في معركة الطرف الأغر وهو ما كان بمثابة الضربة القاضية للإسبان، فقد غزا نابليون الفرنسي إسبانيا وأجبر ملكه على التنازل عن لعر لأخيه، ثم بعدها مباشرة استقلت أمريكا الإسبانية عن الحكم الإسباني، فحدثت بعض الحروب داخل العالم الجديد وخسرت في جميعها الإمبراطورية الإسبانية الهشة في تلك الفترة، وعلى إثر تلك الحروب استقلت فنزويلا ثم الأرجنتين ثم أوروغواي ثم باراغواي ثم شيلي.
كل هذا خرج من تحت سيادة إسبانيا عليهم وصاروا دول مستقلة، ثم بعدها بعشرة أعوام فقط استقلت دولة المكسيك ثم بنما ثم كولومبيا ثم ولاية سانتو دومينغو، وبذلك ومع حلول عام 1865 لم يبقى مع الإمبراطورية الإسبانية في منطقة العالم الجديد سوى غوام وكوبا وبورتوريكو، وفي آسيا كانت توجد دولة الفلبين فقط تحت سلطة الإمبراطورية الإسبانية ، أما عن قارة إفريقيا فقد ظلت الإمبراطورية الإٍسبانية حتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين مسيطرة على ما قد سيطرت عليه منذ عدة أعوام، شأنها شأن الدول العظمي في تلك الفترة بريطانيا العظمى وفرنسا، فقد ظلوا مسيطرين على دول قارتي إفريقيا وآسيا حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعدها بدأت الدول التي كانت محتلة في تحرير نفسها وإعادة سيادتها كاملة.
آثار الإمبراطورية الإسبانية حتى الآن
لم تختفي الإمبراطورية الإسبانية بعد سقوطها بشكل تام بل لا تزال آثارها موجودة حتى يومنا هذا، فعلى سبيل المثال تعد اللغة الإسبانية هي خامس اللغات انتشارًا في العالم بعد الصينية والإنجليزية والفرنسية والعربية، وفي إحصائية قد أجريت عام 2010 تبين فيها أن اللغة الإسبانية هي ثاني أكثر اللغات الرسمية الأولى في دول العالم، حيث تعتبرها الأرجنتين والمكسيك والإكوادور وغينيا وأوروغواي وفنزويلا وهندوراس والدومينيكان وبيرو وبنما لغات أولى لهم، وعلى جانب أخر فقد أصبح الدولار الإسباني هو أول عملة عالمية متداولة في العالم، وتعد إسبانيا بالتعاون مع البرتغال هما واضعي أساس التجارة العالمية في العالم، وبعيدًا عن ذلك فالتراث الثقافي الإسباني هو الأكثر جاذبية وتأثيرًا في العالم حتى الآن، فالموسيقى والأدب والشعر والفن والمعمار والطعام وغيرهم هم الأجمل في العالم، حتى أن وطننا العربي يسميهم بالتراث الأندلسي ويحاول مزج بعضهم في مجتمعنا.
أضف تعليق