اضطراب ما بعد الصدمة هو أحد أنواع الاضطرابات النفسية الشائعة وذلك وفقاً للنظام العالمي للتصنيف الطبي للأمراض النفسية والمشكلات المتعلقة بها، وعادة ما يحدث اضطراب ما بعد الصدمة بسبب تعرض المصابلحادث أليم أو المرور بتجارب نفسية سيئة كالعنف المنزلي أو الاعتداء البدني أو أن يكون شاهداً على أحداث سياسية مروعة كالحروب، وجدير بالذكر أن اضطراب ما بعد الصدمة لا يحدث للمتعرض لتلك الصدمة فقط بل يمكن أن يمتد أيضاً للشهود على تلك الصدمة، وهذا الاضطراب النفسي لا يقتصر على فئة دون الأخرى؛ فمن الممكن أن يصيب الأطفال والكبار والرجال والنساء وإن كان شائع الحدوث عند النساء بنسبة أكبر.
استكشف هذه المقالة
أسباب الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة
اضطراب ما بعد الصدمة وفقاً لتعريف الجمعيات الطبية العلمية الاختصاصية في ألمانيا هو “رد فعل محتمل ولاحق من معايشة حدث أليم وذلك من قبيل التعرض للعنف الجنسي أو الجسدي، ومن الممكن أن يتم التعرض لهذا الاضطراب في فترة الطفولة، وهناك أيضاً معايشة الاختطاف والاعتقال السياسي والأسر والحرب والهجمات الإرهابية والتعذيب داخل معسكرات الاعتقال والكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير” وجدير بالذكر أن هذا التعريف قد تم صياغته بشكل مشترك من عدد من الروابط والجمعيات الألمانية ولم يشمل التعريف كافة الأسباب المحتملة لحدوث اضطراب ما بعد الصدمة، إنما وضع فقط الخطوط العريضة والأساسية لحدوث هذا النوع من الاضطراب النفسي، وقد استبعدت الجمعيات الطبية الألمانية – عن عمد- الأزمات النفسية التي تقع عقب وفاة أحد المقربين أو الانفصال أو الطلاق وذلك لأن الأعراض الناجمة عن تلك الأزمات غير كارثية ولا يمكن تصنيفها بأي حال من الأحوال على أنها اضطرابات ما بعد الصدمة ولكنها تقع تحت تصنيف اضطرابات في التكيف.
وتجدر الإشارة إلى أن اضطراب ما بعد الصدمة لا ينشأ بأي حال من الأحوال كنتاج لعدم الاستقرار النفسي ولا يعد مرضاً نفسياً حيث أن الأشخاص الأصحاء نفسيا يمكن أن يُصابوا باضطراب ما بعد الصدمة، ومن أبرز تجليات هذا الاضطراب النفسي “متلازمة الناجين من معسكر اعتقال المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية” و”مرتجفي الحروب” وهي حالة اضطراب ما بعد الصدمة التي تعرض لها الجنود الألمان والأمريكان وجنود الكثير من البلدان الأخرى الذين عادوا لبلادهم عقب المهمات القتالية في أفغانستان والعراق.
مخاطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة
اضطراب ما بعد الصدمة له عواقب نفسية وخيمة أكثر وطأة على المُصاب أو المتعرض للصدمة، وجدير بالذكر أن العنف الذي يتسبب فيه الإنسان كالحرب والاغتصاب والتعذيب والاضطهاد النفسي يكون أكثر رعُباً بكثير من الاضطراب الحاصل جراء كوارث طبيعية كالزلازل والأعاصير والبراكين، فالفظائع التي شهدها بعض البشر أثناء الحروب أو في أقبية السجون
لا تتوافق بأي حال من الأحوال مع نظرتهم المسبقة لهذا العالم ولذلك يحدث لهم رعب مزمن مجهول تجاه النفس البشرية، ويعزفوا تماماً عن تكوين شبكة علاقات اجتماعية جديدة ومتينة.
الخطر الآخر الذي يخلفه اضطراب ما بعد الصدمة هو زيادة احتمالات التعرض لهزيمة نفسية ساحقة تجعل المتعرضين للصدمة في حالة اضطراب نفسي مزمن مع ميل شديد للانتحار وانخفاض الرغبة في التناغم مع العائلة؛ حيث ذكرت دراسة علمية وطبية استهدفت إعادة تأهيل المحاربين القادمين من حرب فيتنام خلال عام 1983 المخاطر النفسية لاضطراب ما بعد الصدمة مثل الاكتئاب المزمن، عدم القدرة على المضي قدماً في طريق الحياة وعدم الرغبة في التواصل مع العائلة، حيث أن نسبة كبيرة من المحاربين والمحاربات تعرضوا للطلاق أو هجروا عائلتهم بشكل كامل بعد العودة من الحرب، والبعض الآخر قام بعمليات عنف جسدي ومنزلي لأفراد أسرته تحت تأثير الصدمة وهناك من أحب عملية القتل بشكل مرضي، وقد تم إيداع بعض هؤلاء المحاربين والمحاربات في دور رعاية نفسية لكون بعضهم يشكل خطراً على المجتمع.
تاريخ تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة
تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة له تاريخ طويل؛ حيث تذكر الروايات الطبية التاريخية أنه وخلال عام 1666م شهدت مدينة لندن حريقاً هائلاً وكتب الطبيب المعالج للمصابين وقتها “صموئيل بيبس” أن المصابين كانوا لا يستطيعون النوم خلال الليل دون أن ينتابهم خوف كبير وكوابيس مرعبة من النار، وخلال نهاية القرن التاسع عشر قام العالم النفسي الألماني “إميل كريبلن” بصياغة المصطلح الطبي “عصاب الخوف” وكان يقصد به ضحايا الحوادث الخطيرة والإصابات الناجمة عن الحرائق والكوارث، هذا وقد تم وصف أعراض اضطراب ما بعد الصدمة في وقت مبكر من قبل الطبيب النفسي “أبرام كاردينر” وهو أحد تلامذة العالم النفسي الكبير “سيجموند فرويد” ولم يجد اضطراب ما بعد الصدمة مدخلاً إلى التشخيص والدراسة إلا خلال عام 1980 وكان ذلك من قبل الرابطة الأمريكية للطب النفسي APA حيث تم سرد هذا الاضطراب النفسي كشكل من أشكال الخوف.
معايير تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة
اضطراب ما بعد الصدمة يتم تشخيصه عادة وفقاً لمعايير التصنيف الدولي للأمراض، هذه المعايير هي:
- يجب أن يكون المُصاب قد تعرض لحادث كارثي أو استثنائي على مدى مدة طويلة أو قصيرة، ويجب أن يكون هذا الحدث قوياً وصادماً ومن شأنه التسبب في حالة من الانهزام واليأس العميق.
- إذا تذكر المُصاب هذا الحدث الكارثي والاستثنائي بانتظام وبشكل مستمر ، وأن تتولد لديه حالة من الصدمة بسبب ذكريات هذا الحدث وتراوده دوماً الكوابيس المزعجة.
- إذا رفض المصاب أو تجنب الظروف التي تشبه ظروف الصدمة التي تعرض لها.
- العجز الكلي أو الجزئي عن تذكر الجوانب المهمة من تجربة الصدمة؛ حيث غالباً ما يتذكر المُصاب باضطراب ما بعد الصدمة الأثر الذي خلفته الصدمة دون تذكر التفاصيل الدقيقة الخاصة بها.
- الهيجان المستمر ونوبات الغضب المتكررة.
- تظهر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة غالباً في غضون ستة أشهر من وقوع الصدمة.
جدير بالذكر أن تلك المعايير يصاحبها دوماً الانعزال النفسي والانسحاب من الواقع وتواجد شعور من البلادة العاطفية والخدر واللامبالاة، كما تتواجد صعوبات أخرى تتجسد في صعوبة الانغمار في الحياة مرة أخرى حيث ذكرت إحصائيات أمريكية أن هناك ما يقرب من 200 ألف جندي من المحاربين القدامى في فيتنام والعراق عاطلين عن العمل حتى الآن ولا يوجد لديهم مسكن ثابت والكثيرون منهم تركوا حياتهم القديمة بلا رجعة وتركوا عائلاتهم.
علاج اضطراب ما بعد الصدمة
اضطراب ما بعد الصدمة لكي يتم التعافي التام منه هناك شرط أساسي وهو أن تكون الصدمة المتسببة في الألم قد حدثت في الماضي البعيد وليس في الحاضر؛ إذ ليس هناك علاج من اضطرابات ما بعد الصدمة الحالية، ولكن في حال كانت الصدمة في عداد الماضي القديم يمكن حينها البدء في العلاج النفسي لهؤلاء عبر الصدمات النفسية ومجموعات الدعم، ويُنصح باللجوء للعلاج السريري الكامل في حال المُصابين بردود أفعال قوية من الذعر أو الخوف، وهناك وسائل تطبيقية أخرى للعلاج النفسي مثل الاستعانة بالعلاج النفسي التخيلي والذي تم تطويره في ألمانيا على يد الطبيب “لويز ردمان” هذا بالإضافة إلى الاستعانة بالعلاج النفسي الديناميكي.
ختاما، فاضطراب ما بعد الصدمة يؤثر بشكل بالغ على الحياة اليومية للمصابين به؛ فيجعلهم دائمي الشعور بالذنب لأنهم نجوا من الحادث الاستثنائي التي تسبب لهم بحدوث الصدمة، كما أنهم يعيشون دوماً في كابوس مزعج ومقيت ويجترون الذكريات المريرة مراراً وتكراراً ولكل تلك الأسباب يجب على عائلة المُصاب ألا تتخلى عنه أبداً حتى لو قرر المُصاب هجرهم تحت وطئ الصدمة عليهم دوماً توفير درع الحماية والأمان له وهذا سيتم بمساعدة الطبيب النفسي المتخصص، وفي النهاية يجب التأكيد على أن مريض اضطراب ما بعد الصدمة لا يتخطى الحدث بسهولة أبداً وربما لا يتخطاه طوال حياته ولكن يجب عليه المحاولة ويجب على المحيطين عدم الكف عن تقديم يد الدعم والمساندة.
ملحوظة: هذا المقال يحتوي على نصائح طبية، برغم من أن هذه النصائح كتبت بواسطة أخصائيين وهي آمنة ولا ضرر من استخدامها بالنسبة لمعظم الأشخاص العاديين، إلا أنها لا تعتبر بديلاً عن نصائح طبيبك الشخصي. استخدمها على مسئوليتك الخاصة.
أضف تعليق