هل تساءلت يوماً عن أسرار الغيبوبة ؟ عن ماذا يحدث للإنسان لو فقط الوعي؟ هل مازال يستطيع سماع من يحب إذ وقف بجانبه ما يقولون كثيراً في الأفلام؟ أم لا يكون لديه القدرة على السمع كما أنه لا يستطيع التحدث؟ ولكن هل يستطيع على الأقل التفكير؟! كلها أسئلة عن أسرار الغيبوبة العجيبة، والتي سألها العلم مرارًا وتكرارًا، والمشكلة أن المغمى عليه لا يستطيع الإجابة بنفسه. ماذا لو قلت لك أن هذا المقال يتحدث عن أسرار الغيبوبة، من خلال كلام العلماء وأبحاثهم، بالإضافة إلى قصص حقيقة لأشخاص عانوا من غيبوبة لمدة طويلة وتمكنوا من النجاة ليحكوا عن التجربة. ولا أتحدث هنا عن أسرار الغيبوبة القصيرة مثل غيبوبة السكر أو غيرها، بل عن الغيبوبة التي تحدث لأسباب أخطر وتستمر فترة طويلة.
أسرار الغيبوبة : كل ما يخص حالة الغيبوبة طبيًا
معنى الغيبوبة
لنتعرف على أسرار الغيبوبة يجب علينا أن نفهمها بالطريقة العلمية الصحيحة. الغيبوبة لها معاني كثيرة متصلة جدًا بسبب الغيبوبة من الأساس. ولكن العلماء والأطباء في هذه الأيام قسموا الغيبوبة إلى أربعة حالات، لتسهيل فهمها ودراسة كلاً منها بسبب اختلافهم عن بعض. ولا يُقصد بالحالة هنا مستوى الغيبوبة. فهي حالة منفصلة أو قد ينتقل الإنسان من حالة إلى أخرى بغض النظر عن فكرة ترتيب المستوى والخطر.
الحالة الأولى: غيبوبة فقدان الوعي تمامًا
وهي حالة من فقدان المريض الوعي تمامًا بحيث لا تستطيع أن توقظه بأي طريقة معروفة. وهي غيبوبة مؤقتة، بحيث تستمر يوم أو إلى بضعة أسابيع.
الحالة الثاني: غيبوبة الوعي الظاهري
وقد يدخل المريض من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية إذا استمرت الغيبوبة فترة طويلة. وفيها يعطي جسد المريض ردود أفعال انعكاسية لا إرادية. فيمكنك أن ترى أعين المريض مفتوحة أو نصف مغمضة، بحيث تتخيل أنه في حالة ما بين النوم والاستيقاظ، لتصرخ وتنادي الطبيب لأنك ظننت أنه خرج من الغيبوبة الأولى، وأنت لا تعلم أنها مرحلة أخرى لا أكثر، ومن هنا تمت تسميتها. وهي تستمر لفترات طويلة جدًا، قد تتخطى حاجز العام، فإن فعلت أطلق عليها “دائمة”. وإن استيقظ المريض منها قبل العام، إذًا فهي غير دائمة. ولكن حتى مع حالات مرضى الغيبوبة الدائمة فقد يتحسن بعد وقت طويل، سواء شهور أو سنين. ليستيقظ ويجد نفسه قد نام لمدة أعوام، أو يموت في أثناء الغيبوبة. لذلك تظل المستشفيات ترعى هذا النوع من مرضى الغيبوبة فترات طويلة جداً، لأنه حي ولكنه غير واعي، وقد يستيقظ أو قد يموت.
الحالة الثالثة: غيبوبة الحد الأدنى من الوعي
وفيها يكون المريض واعيًا ولكن ليس بدرجة كبيرة. فمثلاً يمكن للبعض أن يبتسم، أو يضغط على يد من بجانبه. ولكنها هنا ليست حركات لا إرادية، بعكس النوع السابق بل إرادية جدًا. ولكن في ذات الوقت لا يمتلك المريض كامل وعيه للتعبير عما يحتاج أو يمارس كل حياته طبيعيًا. وأغلب مرضى هذا النوع يكونون قد عانوا من غيبوبة لفترة طويلة وهم في مرحلة الشفاء. ولكن هناك حوادث أخرى تؤدي إلى تلك النتيجة أيضًا.
الحالة الرابعة: الوعي المشلول
هذه الحالة تعد من أسرار الغيبوبة بمفردها، بسبب قلة وندرة من عانوا منها. وفيها يكون المريض لديه كامل قواه التفكرية والشعورية أو يسمع ويفهم ويشعر، ولكنه مشلول تمامًا. الشلل نتيجة لأضرار بالدماغ بسبب حادثة تعرض لها أو خروجه من غيبوبة طويلة، ليكون غير قادر على التحدث أو التحرك أو حتى عمل أي تعبير بالوجه، مع إن بعض الحالات النادرة جدًا تمكنت من تحريك عيونها. فيكون مثل الروح بلا جسد، لأنه لا يستطيع التحكم فيه بأي طريقة.
مريضة تثير التساؤل حول أسرار الغيبوبة
Kate Bainbridge”” هي واحدة من مرضى الغيبوبة، بالتحديد الحالة الثانية والنوع الدائم منها، إذ فقط فيها الأطباء أي أمل لمحاولة إنقاذها. عام 1997 استيقظت كيت لتجد نفسها محجوزة داخل جسدها، ولا تستطيع التكلم أو حتى الإشارة لأي شخص بأنها استيقظت وعاد وعيها بالكامل لها. في عام 2006 تم نشر بعض الدراسات التي أجريت على مرضى الحالة الثانية، لتكون المفاجأة للعالم كله، بأن مريض الغيبوبة لديه بالفعل نشاط دماغي واضح، عندما صور الأطباء الأدمغة بالتصوير المغناطيسي. أي أنه موجود ويستطيع أن يفكر. فجاء التساؤل الأهم في عالم أسرار الغيبوبة؟ بما إن العقل يمتلك نشاط معين بشكل غير ملحوظ، هل لديه القدرة لفعل ما هو أكثر من ذلك؟!
بداية فهم أسرار الغيوبة بطريقة عملية
كلمة غيبوبة تطلق على مدى واسع جدًا من الحالات. ولكننا لكي نفهم أسرار الغيبوبة يجب أن نحدد عن أي حالة نتحدث. بالتالي يجب أن نصنف الحالات التي يمكن شفاءها والتي لا أمل فيها، ومقدار ما نحتاج حتى يتم شفاء الحالات الأولى. وقد لا يسعنا القيام بهذا التصنيف بشكل عملي سوى بعد تمام الشفاء أو الموت في الحقيقية. في بداية الأمر لم يهتم أياً من العلماء بدراسات وفهم حالات الغيبوبة، فالكل يهتم بعملية الشفاء ولا يهتم بالمغمى عليهم أنفسهم. كانوا الأطباء يصفون مرضى الغيبوبة بأنهم بشر لم يعودوا يتفاعلوا مع العالم الخارجي إلا بردود انعكاسية بسيطة. وهو غير واعي بما يحدث في هذا العالم أبدًا. حينها قام عالم الدماغ أدريان أوين، بتصوير أدمغة المرضى على مدار عشرة أعوام، بوضع خريطة للدماغ وكمية الأوكسجين التي يتم استهلاكها من كل منطقة في مختلف الأوقات. وبالتالي هو يستطيع إثبات حدوث نشاط بالدماغ من عدمه، الناتج عن تفاعل الخلايا العصبية مع العالم الخارجي.
النتائج أظهرت أن 40% من الحالات يُظهرون نشاط دماغي في منطقة الكلام، وكأنهم يفهمون ويدركون ويحللون الكلام المسموع بل ويريدون المشاركة فيه ولا يتمكنون. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل قام هو بمساعدة فريق من المتخصصين بعلم اللغة وطريقة إدراك العقل البشري لمعاني الكلمات باستنتاج ما يلي. عندما قاموا بقول بعض الجمل لمرضى الغيبوبة، والتي تحمل كلمات قد تعني عدة مفاهيم، بحسب لا يمكنك أن تفهم تلك الكلمة إلا من سياق هذه الجملة، وإذا وضعت في جملة أخرى قد تعني مفهوم مختلف تماماً. وفي ذات الوقت قاموا بتصوير أدمغتهم حتى يروا ما إذا كان هناك نشاطًا في المناطق التي تهتم بإدراك هذا الفرق بين معاني الكلمات، وبهذه الطريقة يكون المريض واعي لهذا الفرق أو لا. استطاع أدريان وفريقه تحديد مناطق كثيرة نشيطة كما التي تنشط عند الأصحاء. وبالتالي أمكنهم إثبات التفكير الواعي للمريض أو على الأقل لبعض الأجزاء من دماغ المريض.
الشك يوسع البحث
بعد الاستنتاجات المذهلة التي قدمها أدريان عن أسرار الغيبوبة، بدء الشك يتسلل إلى نفسه. لأن تجارب أخرى أثبتت أن دماغ الإنسان قادر على عملية التعلم حتى والإنسان نائم أو واقع تحت تأثير التخدير الكامل. لذلك يمكن للتجارب الماضية أن تكون نتائج خاطئة ولا تعني أي شيء، لذلك قرر التوسع في طرق البحث. فقام هو وعالمين بلجيكيين معه بالقيام بتجربة لم يتم أحد من تصور نتيجتها المبهرة.
في اليوم الأول قام العلماء بطلب من أشخاص أصحاء جداً التفكير في بعض الأشياء، مثل “تخيل أنك تلعب كرة القدم” أو “غني أكثر أغنية تحبها دون أن تصدر أي صوت” أو “تخيل أنك تتنقل ما بين غرفتك إلى الحمام ثم إلى المطبخ، وتصور المنزل كما لو أنك هناك”. ثم صور العلماء ما يحدث من نشاط في الدماغ عندما يبدأ هؤلاء الأشخاص بالقيام بما طُلب منهم. في اليوم الثاني استخدم العلماء نفس الطريقة بنفس الأدوات ولكن الفرق على مريضة دخلت في غيبوبة من المرحلة الثانية، بعد أن عانت من حادث سيارة مروع. والنتيجة الغريبة كان وجود نشاط دماغي ويظهر بوضوح في نفس المناطق التي حددها الجهاز في اليوم السابق. أي إن المريضة تفكر وواعية وتنفذ الأوامر التي طُلبت منها، وتستطيع القيام بالمهمات الفكرية ذاتها كما يفعل الأصحاء تماماً بإرادة قوية وكاملة منها. الفرق أنها لا تستطيع التعبير عن ذلك والأجهزة وحدها تفهم ما يحدث.
بعض المشككين أصروا أن هذا الأمر محض صدفة أو قد تكون ردود أفعال غير مسيطر عليها أبداً من قبل دماغ المريضة. ولكن أدريان وفريقه قاموا بتحديد متى يظهر هذا النشاط ومتى يختفي ويتوقف. وتزامن ذلك بالضبط مع إلقاء الأوامر للمريضة بالبدء في تنفيذ ما طُلب منها، ومع إلقاء الأوامر لها بالتوقف. فلو كان الأمر صدفة لكان نشاط جاء وتوقف من تلقاء نفسه ولمدة قصيرة متغيرة ومتقلبة، وليست منتظمة وفعالة بهذا الشكل.
أسرار الغيبوبة تقدم حلول جديدة للطب
من هنا فهم العلماء ولأول مرة أن الطريقة التقليدية التي يستخدمها الأطباء في الكشف على مرضى الغيبوبة غير فعالة. لأن العلماء ولأول مرة تمكنوا حقًا من التواصل مع المرضى. وهذا ما ترويه مريضة أخرى كانت قد فاقت من غيبوبتها لتروي أن طبيبها طلب منها أن تضغط على يديه إن كانت تعي كلامه. وفي الحقيقة هي كانت تعي ما يقوله إلا إنها غير قادرة على تنفيذ المطلوب منها. أما التصوير المغناطيسي لنشاط الدماغ يستطيع أن يجعل المريض يتحدث مع الطبيب حتى يساعد هذا في شفاءه. بهذه الطريقة يمكن للعلماء اختراق الحاجز بيننا وبين عالم مرضى الغيبوبة لفهم أعمق لهم واحتياجاتهم، وقد يساعد هذا بطريقة ما سرعة شفائهم. في تجربة أخرى في بكين تم تصوير النشاط بمناطق الدماغ التي تحدث كلما ذُكر اسم المريض أمامه. سبعة أشخاص فقط أظهروا نتائج مؤكدة من كل الذين وضعوا تحت الاختبار. العجيب أنهم هم فقط من تعافوا بعد شهور من التجربة أما الباقين فلم يتمكنوا من الشفاء.
ما الذي يتعمد عليه شفاء مريض الغيبوبة من عدمه؟
هذا هو السؤال الأهم والهدف الأسمى في دراستنا عن أسرار الغيبوبة. يعزي الأطباء قدرة شفاء أو عدمه إلى ثلاثة أسباب رئيسية. الأول عمر المريض، الثاني سرعة شفاء المناطق المتضررة من الدماغ، الثالث المدة التي قضاها المريض في الغيبوبة. بحيث كلما زادت المدة، وبالأخص عن سنة، قلت معها فرص النجاة زادت معها فرصة البقاء في الغيبوبة مدى الحياة، ويسمى مريض الغيبوبة الدائمة.
حالة خاصة تشجع على عدم فقدان الأمل
تيري واليس، هو اسم المريض الذي يعد في حد ذاته سر من أسرار الغيبوبة. لأنه خرج من غيبوبته الطويلة، بعد 19 عام. أتدرك طول هذا العمر عزيزي القارئ؟ التصوير المغناطيسي أكد أن سبب شفاء تيري هو العملية التي قام بها دماغه لشفاء نفسه بنفسه، وذلك بمساعدة من العائلة والأصدقاء والمعالجين الذي رفضوا أن يفقدوا الأمل طوال هذا المدة. فأبقوا دماغه في حالة نشاط مستمر ببرنامج معين وضعوه للتكلم معه وعدم السماح لدماغه بأن تموت. بذلك هم أبقوه حياً في العالم الحاضر رافضين بالتخلي عنه إلى الموت. وكل العلماء الذين درسوا حالة تيري أقروا بأنه حالة خاصة جداً ونادرة للغاية. وفي حالة تيري كانت المعضلة الأخلاقية هي من جذبت الانتباه إليه أكثر. لأن بعد كل تلك السنوات، هل تيري من دخل إلى الغيبوبة هو نفسه تيري الذي خرج منها؟ فيكف سيتعامل مع العالم الجديد، وهو بقدرات عقلية أقل مما ينبغي عليه؟
أسرار الغيبوبة موضوع محير جداً عزيزي القارئ. ولكن ما يجب أن تدركه أنك لو وجدت نفسك في موضع الصديق الذي فقد حبيبًا له وهو مغمى عليه أمامه، فلا يجب عليك أن تفقد الأمل أبدًا. وتذكر أنه قد يكون يسمعك ويفهمك ويشعر باحتياج عاطفي من ناحيتك، ولكنه فقد لا يستطيع أن يقولها لك. فأبقى أنت بجانبه إلى النهاية. لأن مريض الغيبوبة لم يمت بعد وهذه هي الحقيقة الأكيدة.
أضف تعليق