أدب السجن ، ربما للوهلة الأولى تصاب بالاندهاش من العنوان، وربما تستعجب كيف تتأتى الكتابة داخل السجن حيث الإنسان فاقدا لحريته وحبيس الجدران يتملكه الإحساس بالمرارة والأسى لكونه في هذا المكان، ولكن لا عجب في الأمر، فالأدباء والشعراء والمفكرون جديرون بتحويل مآسيهم على الورق ليحمل كلماتهم ويخفف عنهم ما يعانونه، فهم أحق القوم بالحرية. ولا أحد ينكر الرابط المشترك بين الحرية والإبداع، ولكن ماذا عساه أن يفعل إلا أن يخرج ما بداخله على هيئة كلمات داخل قصص وروايات وشعر. أبدع الكثيرون في كتابة أدب السجن من خلال تدوين يومياته والأحداث التي يتعرض لها بشكل يومي أو تصوير العالم الخارجي كيف يراه من خلف قضبان السجن أو وصف ما قام به والظلم الذي تعرض له ليدخل إلى هذا المكان. والبعض رأوا أنها تجربة فريدة في الاختلاء بالنفس والانعزال عن العالم. وفيما يلي سوف نحاول عرض وتقديم بعض النماذج من الأدباء وبعض الأعمال الأدبية التي كتبت داخل السجون.
أدب السجن : الملامح والمميزات العامة
فكرة السجن
ربما نتساءل في بداية الأمر من الذي اخترع السجن؟ من صاحب الفكرة؟ من يعلم جيدا أن عذاب الإنسان الأكيد هو في حبسه وتقييده وسلب حريته؟ هذه تساؤلات كثيرة تدور في عقولنا من الحين للآخر، فهي فكرة شيطانية حقا. فلن تجد من بني البشر من يحب أن يسجن، وترى أيضا أن الجميع يفضل الحرية، والسجن يعني لهم الموت. وإن كان هذا للأفراد العاديين فما بال الشعراء والأدباء وهم أدقهم إحساسا وأوسعهم رؤية وأشدهم حبا للحرية؟ والمثير كيف حول هؤلاء الأدباء هذه المحنة إلى اتجاه في الأدب سمي أدب السجن.
سياسة خانقة
تجد في كل عصر من العصور وكذلك في كل بلد من البلدان سياسيات خانقة للفكر والمفكرين مع أنهم لا يشكلون خطرا بالشكل الذي تحاربه السلطة. فهم لا يقومون بالمظاهرات ولا بأعمال التخريب والقتل، هم فقط يكتبون ويدونون الأفكار التي تنبت في عقولهم. تتفنن الكثير من الحكومات بوضع العراقيل أمام الكتاب والمبدعين حتى تحكم السيطرة عليهم وعلى أفكارهم حتى أمست الكتابة بحرية حلم يصعب تدريجيا تحقيقه مع الوقت. فكم من الأدباء تم سجنهم لبعض كتابتهم التي لا تروق للسلطة أيا يكن نوعها سواء سلطة دينية أو سلطة سياسية، مع أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحتوي في بعض مواده على ما يؤكد حرية الفكر والتعبير، ولكن لا أحد من الحكومات الاستبدادية يلتزم بالقوانين إلا ما يراه مناسبا لميوله هو وسياساته هو وليس ما ينبغي أن يكون. ولكن النقطة الوحيدة الإيجابية لهذا الموضوع هو أدب السجن والأعمال الأدبية التي خرجت لنا من السجون.
يولد الإبداع من رحم المعاناة
تتردد هذه المقولة كثيرا على مسامعنا والتي توضح أن تعرض الإنسان للمعاناة والألم يخرج أفضل ما عنده وربما يبرر لنا كيف في مكان يفقد الإنسان به الحرية وفي أوقات كثيرة تمتهن كرامته ويتعرض للظلم والضرب والتعذيب فتكون النتيجة كتابة رواية رائعة. ولكن الوضع ليس آمن تماما، فكما يمكنها أن تخرج أفضل ما عند الإنسان من الممكن أيضا أن تخرج أسوء ما فيه وتكون المحصلة النهائية على العكس تماما، ولكن في الرويات الأدبية التي كتبت في السجون والتي تعد لونا جديدا من ألوان الأدب وهو أدب السجن حازت على إعجاب كبير وحصدت الكثير من الجوائز..فربما تنطبق عليها هذه المقولة.
تجارب رائعة
يوجد العديد من التجارب الأدبية التي تجسد فيها أدب السجن والتي توضح لنا كيف نما وكيف تطور وكيف تم تصنيفه كنوع من أنواع الأدب :
مذكراتي في سجن النساء للكاتبة والطبيبة والمفكرة نوال السعداوي
تم سجنها في عهد الرئيس المصري أنور السادات لأنها تنتقد سياسته والذي اعتبارها من المشاغبين في فترة حكمة وكان لابد من ردعها، فكانت النتيجة: مذكراتي في سجن النساء؛ لتعبر من خلالها عن يومياتها في السجن وترصد وتسجل ما تمر به من خبرات وتجارب السجن بالقلم، فأخرجت لنا رواية رائعة تحمل لنا خبرات متعددة.
قصة حي بن يقظان للشيخ الرئيس ابن سينا
جميعنا يعلم قصة حي بن يقظان ومدى روعتها، فهي قصة رمزيه مليئة بالفلسفة والعبر والحكم وتحتوي على رؤية فلسفية ثاقبة لعلاقة الإنسان المعرفية بخالقه، كان أول من كتبها هو ابن سينا، ودارت أفكارها في خياله وهو سجين فقام بتأليف قصة حي بن يقظان التي كان ومازال لها عظيم الأثر في التراث العربي والإسلامي.
الأديب المغربي محمد شكري
قضى حياته متشردا في حواري وأزقة مدينة طنجة المغربية ولقب بمحطم رمزية السلطة، وتم سجنه لعدة سنوات أثمرت عن عمل أدبي فريد يضم سيرته الذاتية تحت عنوان “الخبز الحافي” وكان قد كتبها باللغة الفرنسية وتمت ترجمتها إلى أكثر من ثمانية وثلاثين لغة لتسجل لنا سيرته الذاتية ويومياته بشكل فريد.
أحمد فؤاد نجم
شاعر مصري مشهور، قضى سنوات كثيرة في السجن وتعرض للتعذيب، ذاع صيته وانتشر من خلال ديوان كتبه وهو سجين ودخل به مسابقة من وزارة الثقافة تحت عنوان “صور من الحياة في السجن” وفاز ديوانه بالجائزة الألى، واشتهر نجم من خلال أعمال السجن التي كتبها.
مارينا نعمت
وهي كاتبة كندية من أصل إيراني عاشت في طهران، وبسب كتاباتها تعرضت للسجن والتعذيب واتهمت بمعاداة الحكومة، ولكنها استطاعت الهرب والعيش في كندا ثم خرجت لنا برواية أكثر من رائعة تصف فيها أيامها في السجن والتعذيب الذي تعرضت له.
سميح القاسم
شاعر فلسطيني تم سجنه وتحديد إقامته وهدد بالقتل بسبب شعره السياسي، فقد كان الشعر أداته للقتال والاستمرار. يعد أحد أشهر شعراء العرب المعاصرين، كما يعد أيضا من رجال الثورة والمقاومة.
يوسف فاخوري
قد تم سجنه، ومن خلال هذا السجن اكتشف أنه أديبا ينسج القصص، وكانت تجربة السجن دافع قوي للإنتاج الأدبي لديه وشجعه على ذلك رفقاء أدباء في السجن مثل محمد المخزنجي ومحمود الورداني، فجسد لنا الإبداع من المعاناة والسجن.
ولكم تغنى الشعراء وهم في السجون بشعرهم فكان السجن هو أحد الطرق التي يخرج منها الشعر والأدب، ويتضح لنا ذلك من شعراء العرب قديما حين يغضب عليهم الحاكم ويتم سجنهم فينشدون الشعر من داخل محبسهم، ولنا أمثلة كثيرة أخرى ندّت عن الحصر في هذا المقال، مثل أبو فراس الحمداني والحلاج والشاعر بن عمار.
وما زالت السجون تمتليء بالأدباء، ومازال سيل أدب السجن يسيل لنا بالجديد، وما زالت القوانين هي هي والسياسات هي هي ونسمع عن الأزمات التي يمر بها الأدباء والمفكرون كل يوم. ولدينا مثال بارز هذه الأيام، فقد كان موسم حصاد الأدباء والمفكرين، فقد تعرض الكثيرون منهم للسجن ومنهم من يهدد به. وعلى سبيل المثال نجد الكاتبة فاطمة ناعوت وأحمد ناجي الذي تم سجنه بسبب رواية كتبها رأى البعض أنها تخدش الحياء العام، وإسلام البحيري الذي اتهم بازدراء الأديان، وقبلهم الكثير. فلا أحد ينسى أزمة نصر حامد أبو زيد الذي تعرض للظلم والاضطهاد بسبب آرائه وكتاباته ورفعت عليه قضية حسبة للتفريق بينه وبين زوجته لأنه يعد كافر ويكتب الكفر،مع أنه لم يفعل شيئا سوى التفكير وتحليل القضايا بشكل جديد يلائم ظروف عصره. ولعله من المضحك أن نسمع جميعنا أن أديب دخل السجن لأنه كتب رواية!
أضف تعليق