جميلة بوحيرد رمز وليس اسم، لو كان واضعو القواميس يعرفون العدل لجعلونه مرادف للقوة والصبر والنضال وإنكار الذات، فاسم جميلة بوحيرد هو اسم مُخلد في ذاكرة التاريخ، وفي عقل ووجدان كل حامل لجنسية عربية، وهو الاسم الذي تغنى به كبار الشعراء، من أمثال بدر شاكر السياب ونزار قباني والجواهري، ووفقاً لما أحصاه النقاد فقد بلغ مجموع القصائد المتغناه بالاسم حوالي 70 قصيدة.. فمن سر تعظيم هذا الاسم ومن تكون صاحبته وماذا فعلت؟
جميلة بوحيرد .. رمز النضال :
الاحتفاء والتعظيم والتمجيد الذي نالته جميلة بوحيرد لا يمكن القول بأنه حقها، بل إنه مجرد جزء بل هو جزء ضئيل مما تستحقه، ولنتأكد من ذلك علينا أن نلقي نظرة على مسيرتها النضالية.
الوالدين والميلاد :
إن الوالدين هما أول الأشخاص التي يتأثر بهما الابناء، ويلعبان الدور الأبرز في تكوين مفاهيمه وتشكيل شخصيته، لهذا كافة القصص الذاتية للمشاهير والعظماء تبدأ بلحظة ميلادهم، وحتى إن لم يكن هذا الأمر السائد كذلك، فهو يجب أن يكون هكذا على الأقل بالنسبة لبطلتنا اليوم جميلة بوحيرد .. ففي عام 1935م بالعاصمة الجزائرية وعلى وجه التحديد بحي القصبة، ولدت جميلة بوحيرد لأبوين هم أقرب للمثالية، فالأب مواطن جزائري مثقف مهموم بشؤن وطنه، وهمه الأكبر بطبيعة الحال كان ما يعانيه ابناء شعبه من قهر وذل، تمارسه ضدهم قوات الاحتلال الفرنسي المُدنسية لأراضيهم، أما الأم فقد كانت مُندرجة من أصل تونسي، لكنها كانت مُثقلة بهم الجزائر مثل الجزائريين الأصليين وأكثر، وكان للوالدين 7 ابناء من الشباب و جميلة بوحيرد كانت هي ابنتهما الوحيدة.
التعليم والهوايات :
لم يهتم الأبوين بغرس الوطنية في نفوس طفلتهما جميلة بوحيرد فقط، بل اهتما أيضاً بتعليمها، كي تنشأ مثقفة واعية ذات أفق واسع، فألحقا الطفلة بإحدى المدارس الابتدائية التي كانت تهيمن عليها سلطة الاحتلال، وحين أنهت جميلة بوحيرد تعليمها الأساسي، التحقت بإحدى المعاهد المتخصصة في تعليم الفتيات فنون الحياكة، وذلك على الرغم من إن درجات تحصيلها الدراسي كانت تكفل لها الالتحاق بكليات أخرى، مما يصنفون “كليات قمة”، إلا إنها فضلت دراسة ما تحب إذ إن جميلة بوحيرد كانت تهوى تصميم الأزياء، وبجانب التعليم الأكاديمي حرصت جميلة على إثراء هوايات أخرى لها بالتعليم، فتعلمت فنون الرقص الكلاسيكي ومارسته ببراعة، كما تعلمت في وقت مبكر من عمرها ركوب الخيل وكانت فارسة لا يشق لها غبار.
ثائرة منذ الطفولة :
جميلة بوحيرد ليست مناضلة بالصدفة، وإن انضمامها إلى صفوف المجاهدين ضد الاحتلال الفرنسي لم يأت وليد لحظة حماس أو طيش، بل إنه ناتج عن أفكار ترسخت في نفسها وعقلها منذ طفولتها، ويشهد على ذلك موقفها من الهتاف الذي كانت تفرضه إدارة المدرسة الفرنسية على الأطفال الجزائريين، فقد كان الأطفال في كل يوم يجبرون على ترديد عبارة “فرنسا أمنا” بطابور الصباح، ولكن جميلة بوحيرد رأت إن في ترديد هذه العبارة كل الامتهان، ورأت إن الصمت وحده لا يعد رداً كافياً، فقررت استبدالها وفي ذات يوم صاحت بأعلى صوتها “الجزائر أمنا”. وكانت تلك العبارة القصيرة الرنانة سبب في عقاب الصغيرة جميلة بوحيرد ،فما أن سمعها ناظر المدرسة الفرنسي حتى استشاط غضباً، وقرر أن يجعل منها عبرة فأنزل بها أشد العقاب الجسدي بجانب حرمانها المؤقت من الدراسة، ولكن كل ذلك لم يؤثر بالبطلة الصغيرة أو يزعزع موقفها، وفور عودتها مرة أخرى إلى المدرسة بعد انقضاء مدة الحرمان، قررت أن تثبت على موقفها وتكرر الفعل نفسه صائحة “الجزائر أمنا.. الجزائر أمنا”.
الثورة الحقيقية :
في عام 1954م اتيحت الفرصة لـ جميلة بوحيرد ولكل جزائري مخلص، فإن الثورة الكبرى على طغيان العدو قد اندلعت، وانتفض الشعب عن بكرة أبيه منادياً بالحرية مدافعاً عن حقوقه، وعلى الرغم من أن جميلة بوحريد في ذلك الوقت كان في العشرين تقريباً من عمرها، إلا إنها لم تتردد لحظة في الانضمام إلى جموع الثائرين، بل إنها كانت تنتظر تلك اللحظة، وكانت من أوائل المنضمين إلى جبهة التحرير الجزائرية.
جميلة بوحيرد والجميلات :
لم ترغب جميلة بوحيرد أن يقتصر دورها على تضميد الجراح، إنما أرادت أن تكون في قلب الميدان وفي مواجهة الخطر، وشاركتها تلك الرغبة مجموعة من زميلاتها، على رأسهن جميلة بوعزة وجميلة بوباشا، واللتين كونا مع جميلة بوحيرد ثلاثي رهيب عُرف باسم “جميلات الثورة الجزائرية”، والذي جاء مشتقاً من الاسم الأول لثلاثتهن “جميلة”.
الاعتقال :
ما أظهرته جميلة بوحيرد من عزيمة وإصرار وجلد، شجع قادتها على تكليفها بالمهام الخطيرة والحساسة، والتي يجب أن تجرى في سرية تامة، ولا توكل إلا إلى الأشخاص الموثوق بهم، وفي أبريل من عام 1957م كانت مهمة جميلة بوحيرد ،هي توصيل مبلغ مالي وحزمة وثائق إلى بعض المجموعات الفدائية، ولكن خلال توجهها إلى تلك المجموعات اعترضتها لجنة تفتيش من قوات الاحتلال، ولكنها لم تستلم وحاولت الهرب منهم، إلا أن كل عسكري كان متواجد بتلك النقطة تحول لكلب صيد شرس، وبعد مطاردة دامت لفترة طويلة نسبياً أصيبت جميلة بوحيرد برصاصة في صدرها، وتم اعتقالها من قبل قوات الاحتلال الفرنسي.
السجن والتعذيب :
مثلها كمثل كافة المعتقلين الجزائريين بسجون المحتل الفرنسي، نالت جميلة بوحيرد قسطاً من الإهانة والتعذيب الوحشي، ولكن الغرض منه في حالتها كان مختلفاً، فالمعتقلين الآخرين كانوا يعذبون كي يبوحوا بالأسرار، أما تعذيب جميلة بوحيرد فكان بهدف الانتقام منها وإشفاء الغليل، ولا عجب في ذلك وهي الفتاة المعجزة التي كبدت المحتل الفرنسي خسائر فادحة، ونالت منها كما لم ينل أحد غيرها، حتى إنهم كانوا قد أدرجوا اسمها على رأس قائمة المطلوب القبض عليهم.
تدويل القضية :
المحتل الفرنسي بما مارسه من أفعال شنيعة ضد جميلة بوحيرد ،زاد الثورة اشتعالاً وازدادت حدة الاحتجاجات ضده، فقد صارت جميلة بوحيرد رمزاً للثورة والنضال، وتم تدويل القضية فصارت حديث الرأي العام العالمي، وورد ذكر اسم جميلة بوحيرد بخطابات كبار الساسة آنذاك، وعلى رأسهم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وكانت فرنسا تنتوي إعدام جميلة بوحيرد ورفيقاتها للخلاص منهم، لكن أمام الضغط الشعبي والدولي تراجعت مجبرة عن هذا القرار.
الإنجاز الشخصي :
جميلة بوحيرد لا يوجد لديها ما يمكن أن يُدرج تحت تصنيف “شخصي”، فهي منذ زمن بعيد قد وهبت نفسها للعمل العام، ومن ثم فإن حتى بعد جلاء الفرنسيين عن أرضها، لم تسع للاستقرار أو التقاعد في سلام وهدوء، إنما قررت أن تشارك في العديد من الأنشطة الاجتماعية التنموية، وممارسة الأنشطة التي من شأنها دعم قضايا القارة الإفريقية بصفة عامة ومساندة شعوبها.
زواجها من المحامي الشهير :
المناضلين والمجاهدين والمهتمون بشؤون الأمم عادة يغفلون عن حياتهم الشخصية، فعدد كبير منهم لم يتزوج ولم يكن له نصيب من –زينة الدنيا- المال والبنون، أما جميلة بوحيرد فقد كان هناك ارتباط وثيق بين حياتها النضالية والشخصية، بل ويمكن القول بإن الحياة الأولى قد قادت إلى الثانية؛ فزواج جميل بوحريد كان من الفرنسي الجزائري تيلاندي الأصل جاك فيرجيس، وهو المحامي الذي اشتهر خلال الخمسينات بالتطوع للدفاع عن الشخصيات المكافحة، ومن أبرز القضايا التي تولاها كانت قضية المناضلة جميلة بوحيرد ،ومن هنا نشأت بينهما علاقة عاطفية تطورت إلى الزواج في وقت لاحق، والذي استمر خلال الفترة ما بين 1957م : 1962م، وقد انتقد بعض الخصوم والمغرضين هذه الزيجة، بدعوى إن المناضلة التي حاربت الفرنسية في النهاية تزوجت واحد منهم، لكن جميلة بوحيرد لم تلتفت لمثل هذه الأقاويل، وتمسكت بزواجها ممن أحبت، مؤكدة على أن زوجها مسلم الديانة ويحمل الجنسيتين الفرنسية والجزائرية، وإن انتمائه الأول لتلك الجنسية الثانية، وأفعاله وتاريخه النضالي كمحام للمناضلين يشهد على ذلك.
جميلة بوحيرد :
تحيا المناضلة جميلة بوحيرد الآن حياة هادئة مستقرة بوطنها الجزائر، ولازالت محط اهتمام وسائل الإعلام والبرامج التلفزيونية الجزائرية بصفة خاصة، والبرامج التلفزيونية العربية بصفة عامة، وقد تناقلت وسائل الإعلام مؤخراً إشاعة مفادها إن المناضلة قد توفيت، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي جدلاً واسعاً بين نفي وتأكيد للخبر، ولكن الأمر الوحيد المستفاد من هذه الزوبعة المثارة، هو إنها برهنت على مكانة جميلة بوحيرد في نفوس ابناء الوطن العربي جميعاً، وإنها ستُخلد في ذكرى التاريخ وستبقى ذكراها راسخة في عقل الجموع العربية أبد الدهر.
أضف تعليق