مصطفى مشرفة هو عالم مصري برتبة مقاتل، فقد أفنى هذا العالم حياته في خدمة أوطانه، ودعمه في حربه من أجل الاستقلال والخلاص من الاحتلال، ولكن سلاح مصطفى مشرفة في معركته لم يكن تقليدياً، فلم يحمل البنادق ولم يقذف قنابل، بل كان يملك سلاحاً أكثر قوة وفاعلية، سلاح لا يهدم بل يبني الأمم.. هو العلم، الذي سخر الدكتور مشرفة حياته لنشره وسط العوام، والارتقاء بمستوى الوعي المجتمعي بشكل عام.
مصطفى مشرفة .. من هذا ؟
معلوم للجميع إن مصطفى مشرفة هو أحد أنبغ وأبرز العلماء العرب في التاريخ، وفما هي سيرته الذاتية وكيف كانت مسيرته العلمية، وما الإنجازات التي حققها خلال كلتاهما؟
الميلاد والأسرة :
بمدينة دمياط المصرية وفي الحادي عشر من شهر يوليو لعام 1898م وُلِد علي مصطفى مشرفة ، ونشأ في كنف أسرة مصرية عريقة ومتدينة، فوالده كان أحد أثرياء دمياط ويحمل لقب “وجيه”، وكذلك كان عالم إسلامي ممن تتلمذوا على يد الإمامين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، أما والدته فقد كانت ربة منزل وهي الأخرى سليلة إحدى العائلات المصرية العريقة، وكان على هو الابن الأكبر لوالديه، وكان لديه من الأشقاء أربع وهم: عطية وحسن ونفيسة ومصطفى.
الطفل المنضبط :
يقول دكتور عطية مشرفة عن شقيقه علي مصطفى مشرفة في الكتاب الذي روى به سيرته الذاتية، إن شقيقه عُرِف طيلة حياته بانضباطه والتزامه التام، ليس الانضباط السلوكي والأخلاقي فحسب، بل إن حتى مواعيده كانت منضبطة بالثانية لا الدقيقة، وما كان شئ يثير غضبه أكثر من العشوائية والفوضى، وهو قد اكتسب هذه الخصال من السيدة والدته، والتي كانت -رغم حنوها- صارمة في تربيتهم، وقد اكتسب مصطفى مشرفة منها بعض الصفات والمفاهيم منذ طفولته، حتى إنه كان يرى إن اللهو ما هو ما إلا إهدار للوقت، فاتجه إلى القراءة وممارسة الأنشطة النافعة، حتى إن الكبار كان يدعونه “الطفل الوقور”، فهو ما كان حتى يركض مثل أقرانه إذ كان يرى في هذا السلوك هدماً لوقاره المفترض.
مشرفة .. رب الأسرة :
نعِم على مصطفى مشرفة في سنوات عمره الأولى بعيش رغد وحياة يسيرة، ولكن الحال لم يدم على هذا الوضع لفترة طويلة، ففي عام 1907م لحقت بتجارة أبيه خسارة فادحة، نتيجة تقلبات السوق وانهيار أسهم بورصة القطن، وكانت ضربة قاضية فقد الوالد على إثرها كامل ثروته، وأصيب بصدمة ألزمته الفراش لمدة ثلاث سنوات قبل أن يتوفى، وكان عمر مصطفى مشرفة آنذاك لم يتجاوز الثانية عشر تقريباً، وانتقل مع أسرته إلى القاهرة بعدما فقدوا كل أملاكهم بدمياط، ومنذ ذلك الحين -بصفته الابن الأكبر- صار مسئولاً عن عائلته، وكان على قدر المسئولية حتى إنه لم يُشعِر أخوته باليُتم، فعلى الرغم من إن الفارق العمري بينهم ليس كبيراً إلا إنه تمكن من أن يكون أباً بديلاً لهم.
التعليم :
خلال مراحل التعليم المختلفة حظي مصطفى مشرفة بتقدير واحترام مُعلميه، وذلك لحسن خلقه وتفوقه الدائم الذي دفع للقول بأن الطفل نابغه، وقد تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة أحمد الكتبي بدمياط، وبعد انتقال الأسرة التحق بالقسم الداخلي لمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، ثم أكمل تعليمه في مدرسة السعيدية بالقاهرة، وخلال هذه السنوات كان مصطفى مشرفة معفي من التعريف، إذ أن الدولة آنذاك كانت تتكفل بالمصروفات التعليمية للطلبة المتفوقين، وانتهى المطاف بـ مصطفى مشرفة بكلية دار المعلمين العليا، على الرغم من درجاته كانت تؤهله للانتساب إلى كليات القمة، لكنه فضل -عوضاً عن هذا- الالتحاق بدار المعلمين.
بعثته خارج مصر :
نظراً لتفوق علي مصطفى مشرفة المستمر خلال سنواته دراسته، فقد أوفدته وزارة المعراف بعد تخرجه ضمن بعثة تعليمية إلى إنجلترا، وهناك انتسب إلى جامعة نوتنجهام الإنجليزية وتخصص في دراسة الرياضيات، وتمكن من الحصول عل شهادة البكالوريوس في ثلاث سنوات بدلاً من أربع، وجذب تفوقه انتباه أساتذته من الإنجليز، فبعد حصوله على درجة البكالوريوس خاطبوا الإدارة المصرية، واقترحوا عليهم أن يواصل مشرفة دراسته في جامعة لندن ووافقت وزارة المعارف على المقترح، فنال مصطفى مشرفة درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم من جامعة لندن الملكية، وقد أستاذه خلال هذه المرحلة هو تشارلز توماس ويلسون، وهو عالم فيزيائي شهير حائز على شهادة نوبل، وبعد بضعة سنوات نال مصطفى مشرفة درجة دكتوراة العلوم D.Sc وهي أرفع الدرجات العلمية، والتي لم يكن قد حصل عليها آنذاك سوى إحدى عشر عالماً فقط حول العالم.
نشر الوعي :
وعى دكتور علي مصطفى مشرفة إلى أن العلم هو أقوى أسلحة المستقبل، ولهذا كان هدفه الأول هو نشر العلم والوعي بين طوائف الشعب المصري المختلفة، ولذلك سخر وقت كبير من وقته في تلخيص مبادئ أكثر العلوم تعقيداً،وقدمها في صورة مبسطة وواضحة من خلال كتبه إلى العوام، كي يستطيعون فهمها واستيعابها بسهولة، فقد كان يؤمن بأن تقدم الأمم لا يكون إلا بانتشار العلم بين كافة ابناء الأمة، وألا يقتصر على العلماء منهم فقط، ومن بين جميع إنجازات العالم المصري، تعتبر كتبه الناشرة للعلم هذه هي الأبرز والأشهر.
تكريمه وتخليد ذكراه :
سعت الحكومة المصرية على وجه الخصوص وبعض الحكومات الأجنبية، إلى تكريم اسم دكتور مصطفى مشرفة وتخليد ذكراه بعد رحيله، وذلك ليس فضلاً منهم بل إنه أقل حقوق هذا العالم الجليل، بعدما أفنى حياته في خدمة البحث العلمي، والسعي نحو الارتقاء بوطنه وتسليحه بالعلم، وتعدد أساليب التكريم والتخليد ولعل أهمها:
- تم إطلاق اسم دكتور علي مصطفى مشرفة على العديد من المواقع بمختلف بقاع الجمهورية المصرية، ومنها شارع مشرفة بمحافظة الجيزة والشارع بمحافظة بني سويف، وكذلك تم إطلاقه اسمه على عدد من المدارس أشهرهم مدرسة دكتور مشرفة بمنطقة سيدي بشر بالإسكندرية.
- تم إطلاق اسمه على العديد من قاعات الجامعات داخل مصر وخارجها.
- المملكة المتحدة قامت بإنشاء منحة تعليمية لطلاب الدكتوراة، وسُميت هذه المنحة “نيوتن – مشرفة للدكتوراة”.
تم تجسيد سيرته الذاتية في 2011م من خلال مسلسل تلفزيوني بعنوان “مشرفة.. رجل لهذا الزمان”، أخرجته إنعام محمد علي وجسد شخصيته ضمن أحداثه الفنان أحمد شاكر عبد اللطيف.
الوفاة والاشتباه :
في الخامس عشر من يناير لعام 1950م توفي دكتور علي مصطفى مشرفة ،ووفقاً للتقارير الطبية الرسمية فإن وفاته كانت نتيجة إصابته لأزمة طبية، لكن أثير جدل واسع عند وفاة العالم المصري البارز، وهناك من افترضوا إن الوفاة لم تكن طبيعية، وإنما كانت نتيجة اغتياله بدس السُم بطعامه، إلا أن شقيقه عطية مشرفة حين ألف كتابه المتناول لسيرته، أكد بأكثر من موضع إنه لم يتعرض لأي عملية اغتيال، وإن الوفاة كانت طبيعية تماماً وإنه قد توفي بفراشه على حد تعبيره.
تلاميذه :
مصطفى مشرفة رحل عن عالمنا بجثمانة فقط، أما علمه فقد أورثه للأجيال التالي كي يكملوا مسيرته، وعلى يديه تتلمذ العديد من العلماء المصريين البارزين، منهم فهمي إبراهيم مخائيل وسميرة موسى وعطية عاشور ومحمد مرسي أحمد وغيرهم، وهؤلاء وغيرهم مثلوا الورثة المباشرين للدكتور مشرفة، أي من عاصروه وتلقوا العلم من فاهه، ولكن كتب عالمنا الجليل لازالت تُدّرس بالعديد من جامعات العالم حتى اليوم، مما يعني إن نسبة كبيرة من علماء اليوم هم أيضاً تلاميذ للدكتور مشرفة، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر.
أضف تعليق