إسماعيل ياسين هو أحد أشهر الكوميديانات في تاريخ السينما العربية، وهو المونولوجست الأشهر على الإطلاق في تاريخ الفن العربي، يشتهر بسلسلة الأفلام التي قدمها وكانت تحمل اسمه، وهو أمر أنفرد به ولم ينافسه عليه سوى ليلى مراد، التي قدمت أفلاماً تحمل اسمها مثل ليلى بنت الفقراء وليلى بنت الشاطئ، ولكن أفلام إسماعيل ياسين كانت أكثر عدداً وأكثر ارتباطاً باسمه، كما إنه أحد أكثر الممثلين تحقيقاً للإيرادات في تاريخ السينما، حتى إنه -في زمنه- كان يعتبر ظاهرة فنية، وتهافت جميع المنتجين على التعاقد معه وتقديم أفلاماً من بطولته، حتى إن متوسط الأفلام التي كان يقدمها في العام الواحد يقدر بحوالي عشرة أفلام.
إسماعيل ياسين .. من هذا ؟
الضاحك الباكي هو اللقب الذي عُرف به إسماعيل ياسين ،وهو وصف دقيق أكثر منه مجرد لقب، فذلك الممثل الذي أضحك الملايين وأدخل السعادة في قلوبهم، خلت معظم فترات حياته تقريباً من كافة مظاهر البهجة، وابتدأ عمره بمأساة وأنهاه بمأساة أخرى.. فكيف كانت البداية وكيف كانت النهاية؟ وما الإنجاز الذي حققه ما بين هذا وذاك؟
طفولة قاسية :
كان العناء هو قدر إسماعيل ياسين ورفيق رحلته منذ أولى لحظاتها، فقد وُلد إسماعيل في محافظة السويس المصري، في الخامس عشر من سبتمبر لعام 1912م، واسمه بالكامل إسماعيل ياسين علي نخلة، وهو الابن الأوحد لياسين نخلة الصائغ ميسور الحال، وإلى هنا تبدو البداية تقليدية ومُبشرة، وقد كانت كذلك بالفعل وفي لحظة ما انقلب كل شىء إلى نقيضه، فقد توفيت والدة إسماعيل وهو لا يزال طفلاً، وتزوج والده من امرأة أخرى كانت تعامله بقسوة، مما اضطره للانتقال للعيش في منزل جدته هرباً من بطشها، ثم أشهر والده -في وقت لاحق- إفلاسه، وتم سجنه بعد عجزه عن سداد الديون المتراكمة عليه، وكانت الجدة سيدة عجوز فقيرة لا تملك دخلاً يكفي لإعالتها هي وابن ابنتها الصغير، الأمر الذي اضطر إسماعيل ياسين إلى الخروج لسوق العمل في وقت مبكر جداً من عمره، وعمل بعِدة مهن بسيطة منها منادياً على البضائع بأحد متاجر بيع الأقمشة.
حلم الطرب :
كان حلم إسماعيل ياسين منذ الطفولة هو أن يصير مطرباً، وكان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب هو قدوته ومثله الأعلى، وكان يدرك إن تحقيق ذلك الحلم يستلزم منه الانتقال إلى القاهرة، مدينة أهل الفن العامرة بالمسارح والملاهي والمقاهي الفنية، وحين بلغ سن السابعة عشر قرر الانتقال إلى القاهرة سعياً وراء حلمه، وعمل بعدة مهن متواضعة كي يحقق دخلاً شهرياً يعينه على الحياة، ويسدد منه أجرة الغرفة المتواضعة التي استأجرها بأحد الفنادق الشعبية، فعمل بالعديد من فرق الراقصات الشعبيات، ثم عمل وكيلاً في أحد مكاتب المحامين بالقاهرة، أما محاولاته لإثبات نفسه كمطرب لم تؤت ثمارها، ولم يتمكن من إقناع أي متعهدي الحفلات ووكلاء الفرق بموهبته، فرغم إنه كان يمتلك صوتاً عذباً إلا إنه كان يفتقر -من وجهة نظرهم- لصفات المطرب الأخرى، ومنها وسامة الملامح وحسن المظهر.
سُمعة المونولوجست :
أغلقت الأبواب في وجه إسماعيل ياسين واحد تلو الآخر، ولكنه رغم كل ذلك لم ييأس، وكانت محطته التالية هي فرقة بديعة مصابني، فتوجه إليها لإجراء الاختبارات كي ينضم إلى الفرقة العاملة في الكازينو الخاص بها، وحتى هذه المرة لم يختلف الأمر كثيراً عن المرات السابقة، فقد فشل إسماعيل في إقناع القائمين على الفرقة بنفسه كمطرب، ولكن الكاتب أبو السعود الإبياري كان من ضمن الحضور، واستشف إن الشاب السويسي الواقف على المسرح يتمتع بالحس المرح وروح الفكاهة بجانب الصوت العذب، فعرض عليه أن يتخلى عن فكرة الطرب وأن يعمل كمونولوجست ويقدم الفقرات الترفيهية والأغنيات الفكاهية، ووافق إسماعيل ياسين على الفكرة وكانت هذه أولى خطوات مسيرته كفنان كوميدي.
الاتجاه إلى السينما :
ذاع صيت إسماعيل ياسين كمونولوجست ومغني فكاهي خلال فترة زمنية قصيرة، وأصبح رواد كازينو بديعة مصابني يعرفونه بالاسم وينتظرون فقرته، ودام عمله كمونولوجست حوالي عشر سنوات، قدم خلالها العديد من المونولوجات للإذاعة المصرية، وفي إحدى الليالي شاهد فقرته المخرج فؤاد الجزايرلي، فعرض عليه أن ينضم إليه في أعماله السينمائية، وقبل إسماعيل العرض فأسند الجزايرلي له دور صغير بفيلم خلف الحبايب الذي أُنتج في 1939م.
الانطلاق والتألق :
فرض إسماعيل ياسين نفسه على الشاشة منذ ظهوره الأول عليها، فقدم العديد من الأدوار الثانية والثانوية بأفلام علي الكسار، وفي عام 1945م جذب إسماعيل انتباه الممثل والمنتج أنور وجدي، الذي آمن بموهبة إسماعيل وجعله شريكاً رئيسياً له في معظم أفلامه التي قدمها في تلك الفترة، وفي عام 1949م أسند له دور البطولة في فيلم الناصح أمام ماجدة التي كانت لا تزال -آنذاك- وجهاً جديداً، وحقق الفيلم نجاح كبير عند طرحه بدور العرض السينمائية، فصار بذلك إسماعيل من نجوم الصف الأول المنافسين على شباك التذاكر، فسعي غالبية المنتجين المصريين منذ ذلك الوقت إلى التعاقد معه، حتى إنه قدم في ستة عشر فيلماً في عام واحد تقريباً، وجميعهم حققوا نجاحاً كبيراً وإيرادات مرتفعة بشباك التذاكر.
إسماعيل يس في…. :
إسماعيل ياسين هو الممثل المصري الأغزر إنتاجاً، فخلال سنوات نشاطه كان يقدم حوالي عشرة أعمال سينمائية سنوياً، كما شارك أبو السعود الإبياري في تكوين فرقة مسرحياً، قدمت حوالي خمسين عرضاً مسرحياً، وكانت تقدم عروضها بشكل يومي، كما إنه الممثل الكوميدي الوحيد الذي أُنتجت له أفلاماً تحمل اسمه، منها إسماعيل يس في الجيش، وإسماعيل يس يقابل ريا وسكينة، وإسماعيل يس في مستشفى المجانين وغيرها…
حياته الخاصة :
رغم إن إسماعيل ياسين تمكن من أضحك الملايين خلال سنوات نشاطه الفني، إلا إن حياته كانت غير مستقرة خالية من السعادة، وتعرض خلالها للعديد من الأزمات الطاحنة، فقد تزوج إسماعيل ثلاث مرات ولكن زيجاته جميعها كانت غير مستقرة ولم تدم لفترات طويلة، وبصفة خاصة الزيجتين الأولتين، وكانت دوماً ما تنتهي علاقاته العاطفية بالفشل والانفصال، ولم يُنجب من زيجاته الثلاثة إلا ابناً واحداً من زوجته الأخيرة -السيدة فوزية- اسماه ياسين تيمناً باسم والده.
أرائه السياسية :
من يشاهد إسماعيل ياسين على الشاشة يعتقد إنه مجرد ممثل فكاهي، حياته مسخرة لاختلاق النكات وإضحاك من حوله وإسعادهم، ولكن في الواقع فإن إسماعيل كان إنساناً مثقفاً كثير المطالعة، مهموم دائماً بقضايا وطنه ومشاكله وما يواجهه من تحديات، وربما أفلامه السينمائية لم تقدم إلا المتعة المُجردة، ولكن كان يحرص على أن تكون مونولوجاته على النقيض من ذلك، فكان دائماً يختار الكلمات التي تحمل قيمة إنسانية أو تناقش قضية ما، فيعرضها بأسلوب فكاهي ساخر محبب إلى الناس، وعند قيام ثورة يوليو 1952م كان إسماعيل من أكثر المؤيدين لها والمؤمنين بمبادئها، فقدم مونولوج باسم (الترتيب) وهو المصطلح الذي كان يطلق على الثورة في عهد الرئيس محمد نجيب، يسلط من خلاله الضوء على مظاهر التفرقة الطبقية في عهد الملكية.
وجاء في فيه : “كان الفلاج أُجّري يا مشكاح لاجل اللي قاعد مرتاح، وأبو كرش كبير عامل بانكير في أوروبا فشر السواح، والشعب بقت له إرادة هدت كل الشنبات، وبقينا كلنا سادة ولا بهوات ولا بشوات”.
حل الفرقة المسرحية :
تعرض إسماعيل ياسين في منتصف الستينات إلى أزمة مادية طاحنة، فقد كان اعتاد منذ فترة على تولي عملية إنتاج أعماله الفنية، فكان يشارك في إنتاج الأعمال السينمائية التي يقدمها، بجانب إنه كان يرأس ويدير فرقته المسرحية التي أسسها بمشاركة صديقه أبو السعود الإبياري، ولكن خلال حقبة الستينات لم يعد هو أو غيره قادر على المنافسة بالسوق الفني، وذلك بسبب تدخل الدولة في عملية الإنتاج الفني، وإنشاء مسرح التلفزيون الذي قدم للفن جيل من العمالقة منهم الأستاذ فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي وسيدة المسرح العربي سميحة أيوب، ولكن بث العروض المسرحية عبر شاشة التلفزيون جعل الجماهير تعزف عن حضورها بالمسارح، الأمر الذي ألحق بالفرق المسرحية الخاصة خسائر فادحة وتراكمت عليها الديون، ولم يستطع إسماعيل وأبو السعود من مواصلة نشاطهما المسرحي، وفي عام 1966م اتخذا قرارهما بحل الفرقة المسرحية، وسبب ذلك ألماً نفسياً لإسماعيل الذي كان عاشقاً للمسرح، وكان تواجد فرقته على الساحة الفنية يعني له الكثير.
الانكسار :
كانت السنوات الأخيرة في حياة إسماعيل ياسين والتي أعقبت حل فرقته المسرحية، عبارة عن سلسلة طويلة ومديدة من الأزمات والانتكاسات، فقد أعلن إفلاسه نتيجة خسارة العروض المسرحية وتراكم الدين عليه، واضطر آسفاً إلى السفر إلى لبنان ليبدأ من الصفر، وقبل المشاركة في كل فيلم عُرض عليه كي يجني مالاً يكفي لإعالته هو وابنه، وحين عاد إلى مصر قدم أدواراً صغيرة لا تليق بمكانته أو تاريخه، فتعرض لحالة من الاكتئاب وأصيب بمرض القلب جراء شعوره بالقهر والانكسار.
الوفاة :
لم تكن الشيخوخة هي ما هدمت إسماعيل يس في سنواته الأخيرة، فهو في الواقع لم يبلغ سن الشيخوخة، وحين توفي كان قد بلغ من العمر ستين عاماً فقط، ولم يكن يعاني من ثمة أمراض مزمنة أو خطيرة، ولكن الصدمات المتتالية التي تلقاها في سنواته الأخيرة أثرت على حالته الصحية، وجاءت صدمته الأخيرة والأشد متمثلة في نبأ وفاة صديق عمره المخرج فطين عبد الوهاب، وكان إسماعيل يس قد توجه إلى الإسكندرية ليحضر مراسم تشييع جثمان فطين، وقضي بالإسكندرية عشرة أيام قبل أن يعود للقاهرة في ليلة الرابع والعشرين من مايو 1972م، وفي ذات الليلة تعرض لأزمة قلبية حادة، وحاول ابنه ياسين استدعاء الإسعاف لإنقاذه، ولكنها حين وصلت كان قد فارق ياسين الأب الحياة بالفعل.
الحلم الأخير :
من العوامل التي سببت ألم نفسي شديد لـ إسماعيل يس في سنواته الأخيرة، هو إحساسه بامتهان بلاده له، فقد كان يرى إنه يستحق أن يُكرم عن عطائه الفني ومشواره الحافل بالأفلام التي تعد من أشهر الأفلام في تاريخ السينما، وما زاد من إحساسه بالحسرة وتنكر دولته له، هو إن الجهات المسئولة قامت بتكريم عدد من الفنانين أقل منه قدراً وعطاءً، ومنهم من تتلمذ على يديه وساهم في صناعة نجوميته بتقديمه للجمهور للمرة الأولى من خلال فرقته المسرحية، وكان آخر أحلام إسماعيل يس هو أن يُكرم وهو لا يزال على قيد الحياة، فقط ليشعر بإن بلاده تذكره وتقدره وتحترم تاريخه الفني، وقد صَرّح ياسين بذلك في آخر حوار إذاعي أجري معه، ولكن أمله لم يتحقق وتوفي دون أن يلقى التكريم الذي تمناه أو الذي يستحقه.
تكريم جوجل :
بعد قرابة أربعون عاماً من رحيل إسماعيل ياسين عن عالمه، تم تكريمه من قبل شركة جوجل، إذ قامت بوضع صورته على الواجهة الرئيسية لمحرك البحث الخاص بها على الإنترنت، وذلك في ذكرى مولده التاسعة والتسعون، الموافقة الخامس عشر من سبتمبر لعام 2011م، وبذلك اليوم ظهرت صورة إسماعيل ياسين على الواجهة الرئيسية لمحرك البحث الأشهر في العالم، وذلك في نطاق جميع البلدان الناطقة باللغة العربية، وكُتب أعلى صورته عبارة (إسماعيل يس في جوجل).
أضف تعليق