محمد عبد الوهاب والحامل للقب موسيقار الأجيال، هو أحد أهم وأبرز القامات الفنية في مصر والوطن العربي، وقد أثرى محمد عبد الوهاب على مدار تاريخه الحياة الفنية بالعديد من الإبداعات، سواء بصفته مطرباً أو ملحناً أو منتجاً، وقد حظي خلال سنوات نشاطه وحتى بعد وفاته بمكانة عظيمة في قلوب المستمعين، حتى إنه هو الوحيد الذي استطاع أن يحقق نجاحاً وشعبية ينافس بهما كوكب الشرق أم كلثوم
محمد عبد الوهاب .. من هذا ؟
نعرف جميعنا محمد عبد الوهاب باعتباره قامة فنية عظيمة، ولكن تحقيقه لمكانته هذه لم يكن أبداً بالأمر اليسير، بل كان نتاج سنوات طويلة من العمل والاجتهاد والسعي نحو تحقيق الذات.
الميلاد :
وُلِد محمد عبد الوهاب واسمه بالكامل محمد محمد أبو عيسى عبد الوهاب، وكان ذلك في حي باب الشعرية بالقاهرة، في الثالث عشر من مارس، أما سنة مولده في محل خلاف، فعبد الوهاب نفسه ذكر في بعض الأحاديث إنه من مواليد 1910م، بينما كمال النجمي يقول بإنه من مواليد 1897م، بينما المؤرخ الموسيقي عبد العزيز محمود العناني يؤكد إنه من مواليد 1902م، وتوافقه في رأيه الكاتبة رتيبة الحفني.
الأسرة والنشأة :
نشأ محمد عبد الوهاب في كنف أسرة مصرية متوسطة الحال حسنة السمعة، فوالدته هي السيدة فاطمة حجازي ربة المنزل، أما والده فهو المقرئ محمد أبو عيسى مؤذن مسجد سيدي الشعراني، وكان للزوجين ابنتين ونجل واحد هو محمد عبد الوهاب ،وكان والده يُعده ليكون من علماء الأزهر الشريف، وأن يخلفه في العمل بوظيفة المقرئ والمؤذن، ولهذا فقد حفظ عبد الوهاب في طفولته العديد من أجزاء القرآن الكريم وتمكن من تجويده، وهو ما ساعده على التحكم في تنظيم نفسه وإخراج الألفاظ بالشكل الصحيح.
التعليم وعشق الغناء :
في البداية ألتحق محمد عبد الوهاب بكُتاب مسجد سيدي الشعراني، وكان ذلك بناءً على رغبة والده الذي كان يعده ليكون أزهرياً، ولكن ميول عبد الوهاب الطفل تعارضت مع خطط وآمال والده المستقبلية، فقد عشق عبد الوهاب الموسيقى وأحب الغناء، وكان لديه شغف بالاستماع إلى شيوخ الغناء في ذلك الزمان، من أمثال صالح عبد الحي والشيخ سلامة حجازي، فبدأ في إهمال دراسته وطواف الموالد والأفراح للاستماع إلى أغنياتهم، وحاول والده بشتى السبل ردع ابنه عن تلك التصرفات، وإجباره على الانتظام في دراسته الأزهرية، لكن عشق محمد عبد الوهاب للغناء كان أقوى من كل محاولات والده، ورغم تعدد صور العقاب الذي أنزل به وتكراره، لم يستطع مقاومة شغفه باتباع الفرق الغنائية بالموالد والأفراح.
البداية المُبكرة :
أثناء حضور محمد عبد الوهاب للموالد والأفراج جاءته فرصة ذهبية ليخوض تجربة الوقوف على المسرح، وذلك حين التقى بالأستاذ فوزي الجزايرلي، والذي كان يرأس فرقة مسرحية تقدم عروضها بالحسين، وطلب عبد الوهاب منه أن ينضم إلى الفرقة، وحين استمع الجزايرلي إلى صوته أعجب به، على الفور وافق على ضمه ليقدم فقرة غنائية بين فصول مسرحياته مقابل خمسة قروش لليلة العرض الواحدة، ورغم ذلك الأجر البخس وافق عبد الوهاب، ففي النهاية كان هدفه خوض تجربة الغناء أمام المستمعين وليس المال.
صدامه مع أحمد شوقي :
في إحدى ليال عرض مسرحيات فوزي الجزايرلي علم محمد عبد الوهاب إن أمير الشعراء أحمد شوقي ضمن الحضور، وكانت سعادته بالغة حين علم بإنه سيغني أمامه، ورغم إعجاب شوقي بصوت عبد الوهاب إلا إن رد فعله كان صارماً، فقد رأى إنه من غير الملائم أن يعمل طفل في مثل هذا العمر ضمن الفرق المسرحية، وتحمل مشقة التنقلات والسهر إلى ساعات متأخرة من الليلة، فطلب من حكمدار القاهرة إيقاف عبد الوهاب عن الغناء، بحجة إن ضمه للفرقة تصرف غير أخلاقي من مديرها، ولمكانة شوقي لبى الحكمدار طلبه، وأخذ تعهداً على فوزي الجزايرلي بألا يصحب الطفل مجدداً إلى عروضه المسرحية.
تلمذته على يد القصبجي :
رغم إيقاف محمد عبد الوهاب عن الغناء بسبب صغر سنه، ورغم إن ذلك مثل صدمة بالنسبة له، خاصة وإن القرار صدر من شخص يوقره ويحبه مثل شوقي، إلا إن هذا كله لم يثنه عن مواصلة مسيرته الفنية وسعيه نحو حلمه، فالتحق بصفوف نادي الموسيقى الشرقي والمعروف حالياً باسم معهد الموسقى العربية، وبه تعلم عزف العود ومبادئ التلحين على يد الموسيقار محمد القصبجي، كما تعلم فن الإنشاد وتلقى التدريبات الصوتية.
بدايته الفنية :
بداية محمد عبد الوهاب العملية كانت من خلال فرقة نجيب الرحاني، والتي عمل بها كمنشد ضمن الكورال وصاحب الفرقة في عدة رحلات إلى الشام، ثم تركها كي يتمكن من معاودة الانتظام بدراسته بنادي الموسيقى الشرقية، والذي التقى به بالشيخ سيد درويش، الذي أعجب بصوته فضمه إلى فرقته مقابل راتب 15 جنيهاً شهرياً، وكان عبد الوهاب شديد الوفاء لأستاذه سيد درويش، وكان من القلة التي لم تتخل عنه في ظل الأزمة المالية التي حاقت بالفرقة، وظل ملازماً له إلى أن وافته المنية.
شوقي .. بوابة النجاح :
مرت الأيام وحضر أحمد شوقي حفلاً آخر كان يحييه محمد عبد الوهاب ،وبعد أن أنهى فقرته طلب مقابلته بصفة شخصية ليحييه ويعبر له عن إعجابه به، وقد ذَكَره عبد الوهاب بالموقف الذي حدث بينهما قديماً حين منعه من الغناء، فضحك شوقي وأخبره بإن ذلك كان بدافع خوفه عليه، ورفضاً لاستغلال صاحب الفرقة لموهبته، ومنذ تلك اللحظة أعلن أحمد شوقي تبنيه لـ محمد عبد الوهاب فنياً، فقدمه إلى رموز المجتمع المصري وأعلامه في ذلك العصر، مثل طه حسين والعقاد والمازني وسعد زغلول ومحمد فهمي النقراشي وغيرهم، كما أحضر له معلماً للغة الفرنسية وآخر لفنون الإتيكيت كي يمكنه من التعامل مع الطبقة الراقية، وكذلك كفل له الحماية من المطربين الذين تخوفوا من ارتفاع أسهمه مثل منيرة المهدية، وأسند له مهمة تلحين العديد من قصائده مثل النيل نجاشي ومضناك حفاه مرقده ودمشق، وكانت هذه الخطوة الحقيقية الأولى لعبد الوهاب على طريق المجد وتحقيق حلمه وخلق أسطورته الفنية.
مكانته الموسيقية :
محمد عبد الوهاب لم يكن موسيقياً تقليدياً، بل كان مطوراً ومبتكراً ومحدثاً، وقد أدخل العديد من الآلات الجديدة إلى الإيقاع الموسيقي الشرقي، حتى إنه اتهم كثيراً من قبل المحافظين بإنه يعمل على تغريب الموسيقى العربية، ولكن هؤلاء مردود عليهم بأعمال عبد الوهاب نفسه، فقد قام خلال مشواره بتقديم ألحان تحمل الطابع الشرقي مثل دعاء الشرق وعندما يأتي المساء، كما إن آليات تجديده لم تطمس الهوية الموسيقية الشرقية ولم تخل بطابعها الأصيل.
الزوجات والابناء :
تزوج محمد عبد الوهاب ثلاث مرات، الأولى لم يتحدث عنها عبد الوهاب إلا نادراً، ويشاع إنها كانت تكبره بحوالي عشرون عاماً، وإنها من تولت إنتاج فيلم الوردة البيضاء وهو الفيلم الأول في مسيرته السينمائية، وبعد أن أنفصل عنها تزوج عبد الوهاب من السيدة إقبال، والتي دام زواجه منها حوالي سبعة عشر عاماً، ورُزق منها بابنائه الخمسة محمد وأحمد وعائشة وعفت وعصمت، وبعد أن انفصلا في 1957م تزوج عبد الوهاب من زوجته الثالثة والأخيرة وهي السيدة نهلة القدسي.
تكريم عبد الوهاب :
بلغ محمد عبد الوهاب في زمانه مكانة لم يبلغها سواه، كما يعد أحد أشهر وأبرع الموسيقيين والمطربين في تاريخ الفن العربي، وقد نال بالفعل العديد من الجوائز والتكريمات الفنية في حياته، ولكن شخص مثله كان لابد أن يتم تكريمه بوسيلة استثنائية وبشكل لائق، يكون أقرب لتخليد ذكراه منه تكريماً لعطائه الفني، وقد أدركت الحكومات المصرية المتعاقبة ذلك، وخلدت اسم محمد عبد الوهاب بعد أشكال، أبرزها:
- أقيم متحفاً خاصاً به يضم مجموعة من مقتنياته الخاصة ويحمل اسمه، وهو يقع بمدينة القاهرة بجوار معهد الموسيقى.
- أطلق اسم عبد الوهاب على أحد أكبر المسارح بمدينة الإسكندرية.
- تمت إقامة نصب تذاكري عبارة عن تمثال له، وهو متواجد في ميدان باب الشعرية وهو الحي الذي نشأ به الموسيقار.
وفاته :
توفي محمد عبد الوهاب بشكل مفاجئ مساء الرابع من مايو 1991م، إثر إصابته بجلطة في المخ نتجت عن سقوطه على أرض منزله، وقد صدر آنذاك قراراً جمهورياً بأن يشيع جثمان عبد الوهاب في جنازة عسكرية رسمية، تقديراً لمكانته وباعتباره أحد الرموز الوطنية المصرية.
أضف تعليق