جوناس سولك هو اسم من الممكن أن يُوضع قبله العديد من الألقاب، الباحث أو العالم أو البروفوسير أو العبقري الفذ، لكن
لعل اللقب الأنسب لـ جوناس سولك هو النبيل، والنبل هنا صفة أكثر منه لقباً، فيكفي القول بإن ذلك الرجل هو أول من طور لقاح شلل الأطفال، وكان بإمكانه أن يجني ثروة طائلة من خلال تسجيله براءة اكتشاف هذا اللقاح باسمه، إلا إنه رفض ذلك رفضاً باتاً، ويُشبه جوناس سولك لقاح شلل الأطفال الذي ابتكره بالشمس، فيقول: هل يمكن أن يمتلك أحد براءة اختراع للشمس؟! هكذا هو الحال بالنسبة للقاح شلل الأطفال، هو ملك للبشرية جمعاء ولا يجب أن يكون حكراً على أحد، أو أن دع لأحد فرصة امتلاكه فيتاجر بمصائر البشر وصحتهم.
جوناس سولك .. من هذا ؟
رجل كرس حياته للبحث العلمي دون سواه، ورغم معاناته من الفقر في صغره رفض فرصته الكبرى في تكوين الثورة.. من هذا ؟، إذا كانت الإجابة ” جوناس سولك ” فهي إجابة بها كثير من التقصير، فـ جوناس سولك هو مجرد اسم لا يُعبر عن صاحبه، إنما أفعاله ومشواره المهنى هما ما يعبران عنه بصدق.. إذاً فلنتعرف على رحلته ونلقي على حياته نظرة عن قرب.
الأسرة المهاجرة :
ضاقت الحياة باليهودي الروسي دوران سولك وزوجته دانيال، فقررا في عام 1912 الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واستقرا بمنزل بسيط بإحدى ضواحي مدينة نيويورك الأمريكية، ولكن الحال هناك لم يكن أفضل كثيراً عما كان عليه بوطنهم الأصالي، فاستمرت معاناتهم مع الفقر وضيق الحال وقلة فرص العمل، ولكن هذا كله لم يمنعهم من التماسك والتمسك ببعضهم، وفي الثامن والعشرون من شهر أكتوبر لعام 1914م، استقبل الزوجان طفلهما وأطلقا عليه اسم جوناس.. جوناس سولك
علاقة جوناس سولك بأبويه :
وُلِد جوناس سولك لأسرة فقيرة لكنها تمتلك ما تفتقر عليه العديد من العائلات الثرية، وهو التلاحم والتكاتف والترابط الوثيق، فنشأ نشأة سوية، في كنف والدين وفرا -رغم ضيق الحال- الرعاية الكاملة، وكانا على الدوام خير داعم ومُشجع له.
التعليم والنبوغ العلمي :
عظمة أسرة جوناس سولك تتجلى في حرصهم على تعليم ابنهم، رغم إن ذلك كلفهم مبالغ كبيرة من المال كانا يحصلون عليها بصعوبة، ولكن تفوق جوناس سولك الدراسي وإشادة مُعلميه به ،شجعهما على مواصلة الطريق معه لنهايته، وتدرج جوناس سولك في المراحل الدراسية المختلفة حتى الثانوية، وبعد تخرجه منها ولتفوقه تمكن من الالتحاق بجامعة نيويورك سيتي، وتخصص في دراسة الطب وحصل على درجة البكالوريوس فيه عام 1939م، ثم في وقت لاحق التحق بجامعة ميشيجان لإكمال دراسته، وحصل على درجة الدكتوراه عن الرسالة التي قدمها والتي أشرف عليها البروفوسير توماس فرانسيس الابن.
دونا يندساي رفيقة الرحلة :
النجاح لا يتحقق مُصادفة ولا يأتي إلا بقطع طريق طويل وواعر، وذلك الطريق لا يمكن إكماله بدون رفيق وفي يؤازر ساكله ويدفعه للأمام، والرفيق في حياة جوناس سولك هو صديقته وزوجته دونا يندساي، التي تعرف عليها كزميلة أثناء فترة دراسته الجامعية، ثم تزوجا في ذات عام تخرجه من الجامعة، وتحديداً في 9 يونيو لعام 1939م، وكان لهما من الأطفال ثلاثة اسموهم جوناثان ودارل وبيتر.
الدين وعائق العمل :
لم يكن مرحباً باليهود بالمقاطعة التي نشأ وعاش بها جوناس سولك ،ولذلك فإنه لم يجد فرصة عمل مناسبة فور تخرجه من الجامعة، لكن أستاذه توماس فرانسيس الذي آمن بقدراته توسط له، وألحقه بوظيفه باحث في علم الفيروسات والوبائيات بعامل الجيش الأمريكي، فوضعه بذلك على أول طريق النجاح، إذ صار تحت يده معملاً وموارد تمكنه من إجراء أبحاثه وإخراجها إلى النور.
معاداته للعنصرية :
عانى جوناس سولك في بداية حياته كثيراً من ويلات العنصرية، وتمت محاربته هو وعلماء آخرين بسبب اعتناقهم للدين اليهودي، وأشهر هؤلاء العلماء ألبرت سابين، والذي كرس حياته هو الآخر لإيجاد وسيلة لمكافحة مرض شلل الأطفال، وبعد تمكن جوناس سولك من اختراع “فاكسين” للوقاية من مرض شلل الأطفال، رفض أن يُسجله باسمه أو أن يتحكم في إنتاجه وتوزيعه، وكذلك لم يُقصر استخدامه على دولة أو فئة أو طائفة دون الأخرى، إنما جعله مشاعاً واعتبره حق مشروع لكافة ابناء الجنس البشري، ضارباً بذلك أروع الأمثلة في التسامح، داعياً البشر جميعاً على اختلاف جنسياتهم ومعتقداتهم إلى نبذ التفرقة والعنصرية التعايش في سلام.
الطريق نحو اللقاح :
لم يكن بالولايات المتحدة حديث إلا حول ذلك المرض المتفشي، وتم تنظيم العديد من الحملات الداعية لمحاربة هذا المرض، وتمكنت تلك الحملات في عام 1938م من جمع أكثر من مليون دولار من أموال التبرعات، وهو مبلغ يعتبر بالغ الضخامة في ذلك الوقت، وتم تخصيصه بالكامل لمجال البحث العلمي، رغبة في التوصل إلى وسيلة لمحاربة شلل الأطفال وعلاجه، لكن محاولات العلماء جميعهم قد باءت بالفشل، إلى أن جاء جوناس سولك بفكرته المتمثلة في حقن الأطفال بفيروس ميت مضاد للشلل، وأجرى تجاربه الأولى على القرود باستخدام هذا المصل خلال الأربعينات.
قام جوناس سولك بإجراء أول تجربة على البشر في عام 1954م، وشملت تجربته الأولى 137 طفلاً أمريكياً، لكن التجربة فشلت وتسبب مصله في وفاة 11 طفلاً، وواجه جوناس سولك في ذلك الوقت هجوماً شرساً من خصومه، الذين اتخذوا من حادثة موت الأطفال ذريعة للإطاحة به، لكنه لم ييأس ولم يلتفت لاتهامات المغرضين الموجه إليه وواصل أبحاثه، وبعد عام واحد أعلن البشرى السارة بإزاحته الستار عن ابتكاره العظيم، وهو التوصل إلى المصل الفعال المضاد للمرض -الأوسع انتشاراً آنذاك- شلل الأطفال.
الإنجاز الأكبر :
جوناس سولك منح البشر أكثر من مجرد وسيلة علاجية، فقد منحهم الأمل أو الحق في الحياة، فقد كان مرض شلل الأطفال متفشياً بصورة مرعبة في ذلك الوقت، فالولايات المتحدة وحدها في عام 1916م كانت بها أكثر من 27 طفلاً يعاني من شلل الأطفال، إلا أن جاء جوناس سولك بابتكاره الذي يُعد أحد أهم الابتكارات في تاريخ الطب، بجانب أبحاثه المتعلقة بتشخيص مرض الإيدز والوقاية منه.
جائزة لاسكر في الطب :
بعد اكتشاف جوناس سولك لوسيلة مكافحة مرض شلل الأطفال المتفشي آنذاك، اصبح محط اهتمام الجميع وسلطت وسائل الإعلام الأضواء عليه، ورغم إنه لم يجن ثروة طائلة من وراء اكتشافه الذي مَثل طوق نجاة للملايين، إلا إنه حظى باحترام العالم وتقديره، الذي تجسد في منحه جائزة لاسكر في عام 1956م، وهي الجائزة التي تقدم من قبل مؤسسة لاسكر للأبحاث الطبية الفريدة، التي يسعى أصحابها للتوصل إلى وسائل مبتكرة لعلاج الأمراض أو الوقاية منها، وهي جائزة تعادل في أهميتها جائزة نوبل الشهيرة.
الوفاة :
فارق جوناس سولك الحياة بعدما وهبها للملايين عن عمر يناهز 80 عاماً، وكان ذلك في مقر إقامته بولاية كاليفورنيا عام 1995م، وتصدر خبر وفاة العالم الجليل الصفحات الأولى للصحف، ثم تم تشييعه في إلى مثواه الأخير بمدافن ابناء الديانة اليهودية بذات الولاية.
أضف تعليق