مارلون براندو ليس مجرد ممثل بارز قدم عديد من الأدوار الناجحة، بل أن العديد من النقاد يعتبرونه الممثل الأهم في تاريخ السينما، والأكثر إلهاماً وتأثيراً في أجيال الممثلين التي تلته، وبقدر ما اشتهر مارلون براندو بإتقانه للأدوار التي قدمها، اشتهر أيضاً بمواقفه بنشاطه الحقوقي، ومواقفه المعادية للممارسات العنصرية والتفرقة الطبقية.
مارلون براندو .. من هذا ؟
مارلون براندو هو صاحب الأداء الأفضل في تاريخ السينما بحسب تقييم النسبة الأكبر من الجماهير، وكذلك هو صاحب المواقف النبيلة الرافضة لكافة أشكال التمييز.. وشخص كهذا لابد من التوقف أمامه واستعراض نشأته وسيرته.. فكيف كانت؟
طفولة صعبة :
مارلون براندو خرج إلى عالم الأضواء من أشد بقاع الظلام.. فقد وُلِد النجم السينمائي في الرابع من شهر أبريل لعام 1924م، وذلك في مدينة أوماها التابعة لولاية نبراسكا بالولايات المتحدة، ولكن طفولته كانت أبعد ما يكون عن أن توصف بالسعيدة أو حتى بالتقليدية، فقد ولد للزوجان مارلون الأب ودورثي بينيباكر، ولم يكن الزوجان على وفاق وكان بيتهم لا يخل أبداً من المشاحنات والخلافات، والتي تصل في أحيان كثيرة إلى تبادل الشتائم والضرب تحت تأثير الخمر، إذ أن كلاهما كانا من مُدمني الكحول، وفي ذلك المناخ العائلي العاصف نشأ مارلون الابن
التعليم :
تنقل مارلون براندو بين العديد من المدارس في طفولته، لكنه لم يستمر في أي منهم لفترة طويلة، كما إن النتائج التي سجلها تشير إلى أن مستويات تحصيله العلمي كانت متذبذبة، والبعض يُرجع ذلك إلى كثرة المشكلات العائلية، وعدم وجود مناخ عائلي يهيئه نفسياً لاستيعاب المواد الدراسية واستذكارها، وهذا كله بجانب غياب رقابة الأب الذي كان دوماً غائباً عن الوعي، أيضاً عُرف مارلون براندو في صباه بالتهور والجموح الذي بلغ في بعض الأحيان حد ارتكاب الحماقات، وتسبب ذلك في مرات عديدة في فصله من الصفوف المدرسية، حتى إن والده قد ألحقه بمدرسة عسكرية بغرض تقويمه، إلا إنه قد استمر في تمادى في تمرده وتصرفاته غير المسؤولة.
تأثره بمدرسة ستيلا أدلر :
حضر مارلون براندو عِدة محاضرات للممثلة والمدربة ستيلا أدلر، وقد كانت في ذلك الوقت من أشهر مدربي الممثلين، وقد نضجت مواهب العشرات من كبار مبدعي هوليود على يديها، ولكن أكثرهم قدرة على تطبيق مبادئ مدرسة إدلر التمثيلية كان مارلون براندو ،وهذا بشهادة النقاد وكذلك بشهادة إدلر نفسها، والتي كان منهججها التمثيلي يعتمد على تقمص الشخصية وواقعية الأداء، فقد كانت ترى إن الممثل كي يكون ممثلاً بحق، عليه التعايش مع الشخصية بشكل كامل وليس فقط أن يبدو مثلها على الشاشة، فعليه أن يفكر كما تفكر الشخصية ويتخذ ردود أفعالها، وفي هذه الحالة سيكون أدائه واقعياً وبعيد تماماً عن الافتعال، واتخذ مارلون براندو من هذه المفاهيم قاعدة له، وهو ما جعل أدائه على الشاشة ساحراً بكل المقاييس، حتى إننا إذا اطلعنا اليوم على مشواره السينمائي، لن نجد ثمة تشابه واحد بين كل الشخصيات التي قدمها خلال مشواره.
علاقته بالإعلام :
لا شئ يُشعرني بالغثيان أكثر من مشاهدة ممثلاً على شاشات التلفاز يتحدث عن حياته الشخصية.. بهذه الجملة عبر مارلون براندو بصراحة عن رأيه في البرامج التلفزيونية، والتي كان نادراً ما يطل على الجمهور من خلال واحد منها، فقد كان مقلاً لحد الندرة في اللقاءات الصحفية، وكان يحيط حياته الشخصية بسياج من السرية، وكان يعتبر حياته وحياة أسرته منطقة مُحرمة ممنوع الاقتراب منها، ولكن هذا كله لا يعني أن مارلون براندو كان يحتقر الإعلام أو يغفل دوره، بل إن الحقيقة على نقيض ذلك تماماً، إنما يمكننا فقط القول بإن علاقته بالإعلام كانت سينمائية بحتة، وما كان يجري أي لقاء إلا قبيل صدور أحد أفلامه، وكان يشترط أن يكون الحوار بالكامل متمحوراً حول الفيلم والشخصية التي يقدمها فقط.
مآسي العراب الشخصية :
كلنا شاهدنا الأسطورة السينمائية الأب الروحي The godfather، وعلى قدر كرهنا لشخصية دون فيتو كورليوني تعاطفنا معها، وذلك بسبب المآسي الشخصية العديدة التي تعرض لها، وربما لم يتوقع مؤدي هذه الشخصية وهو القدير مارلون براندو ،إن الواقع يخبئ له من المآسي ما يفوق مأساة العرّاب، ويقول بعض المحللين النفسيين إن ذلك هو السبب الحقيقي وراء تجنب براندو للمقابلات الإعلامية، إذ أن حياته الخاصة ما هي إلا مزيج من الآلام، والتي لا يمكن لأي إنسان أن يرغب في الحديث عنها علانية..
فنشأة مارلون براندو بعيدة كل البُعد عما يمكن أن يوصف بالسعيدة كما سلف وذكرنا، وإن والديه كانا مدمنان للكحول وعائلته كانت مشتتة، أما في كبره فلم يحظ أيضاً بأي شكل من أشكال الاستقرار العائلي، فقد فشلت زيجات براندو رغم تعددها وانتهت جميعها بالانفصال، أما ابنه فقد حُكِم عليه قضائياً بالسجن لمدة عشر سنوات لقتله صديق شقيقته، وتلك الشقيقة قد أقدمت على الانتحار بعد أن عانت من الاكتئاب لفترة بسبب مقتل حبيبها على يد أخيها.
الإنجاز الفني :
إنجاز مارلون براندو الفني لا يُحسب بكم الأعمال التي قدمها، وكذلك لا يُقاس بمدى إجادته للأدوار التي جسدها على الشاشة، بل إن تميزه الحقيقي يكمن في تطويع الفن لخدمة قضاياه ومعتقداته، إذ أنه عُرف عن مارلون نشاطه الحقوقي، وأفكاره النابذة للتطرف والتعصب والتفرقة العنصرية، وكان ينتقى الأعمال التي تناهض الفكر العنصري والطبقي، وكان يعد نفسه جندياً في معركة من أجل الإنسانية، وكان يعتبر الفن بمثابة سلاحه الذي يخوض به هذه المعركة.
الجوائز والترشيحات :
كما ذكرنا فإن مارلون براندو بحسب تقييم النقاد والجماهير هو أحد أفضل الممثلين في التاريخ، وعليه كان من الطبيعي والمنطقي أن يقابل هذا التميز الفني العديد من الجوائز والتكريمات، وبالفعل خلال سنوات نشاطه الفني تمكن براندو تم ترشيحه للعديد من الجوائز الفنية الرفيعة، وقد تمكن من اقتناص أغلبها بالفعل، ومن أمثلة ذلك:
- رشح براندو لجائزة الأوسكار 8 مرات وحصل عليها مرتين.
- رشح لجائزة بافتا 8 مرات وحصل عليها ثلاث مرات.
- رشح لجائزة جولدن جلوب 6 مرات وحصل عليها ثلاث مرات.
- حصل على جائزة إيمي Emmy Awards.
- حصل على جائزة مهرجان كان السينمائي مرة واحدة.
رفض جائزة الأوسكار :
من أشهر وأبرز الأحداث في مسيرة مارلون براندو السينمائية، هي رفضه استلام جائزة الأوسكار كأفضل ممثل عن دوره في فيلم الأب الروحي، وهو الأمر الذي أثار دهشة الكثيرين وربما لا يزال يُدهش، خاصة وإن تلك الجائزة من أرفع الجوائز في عالم السينما، وجميع العاملين في الحقل الإبداعي يسعون إليها. ولكن مارلون براندو حوّل الأوسكار من جائزة شرفية إلى سلاح يستخدمه في معركته الإنسانية، إذ قام بإرسال واحدة من فتيات الهنود الحمر لاستلام الجائزة نيابة عنه، وجاء ذلك متزامناً مع حملة التشويه التي كانت موجهة ضدهم بوسائل الإعلام، بالإضافة إلى ما كان يمارس ضدهم من اضطهاد وعنصرية، وأرسل مارلون براندو من تلك الفتاة رسالة، مفادها إنه رفض الحضور احتجاجاً منه على تشويه صورة الهنود الحمر في السينما والإعلام، وذلك الموقف ليس الأشهر في حياة براندو فقط، بل هو أحد أشهر الأحداث في تاريخ هوليود وحفلات توزيع الأوسكار.
الوفاة :
تدهورت الحالة الصحية لـ مارلون براندو في سنوات عمره الأخيرة، مما اضطره إلى إيقاف نشاطه الفني، وكان نادراً ما يغادر مقر إقامته بلوس أنجلوس الأمريكية، وفي صباح الأول من يوليو لعام 2004م توفي متأثراً بإصابته بقصور في عضلة القلب، وكان عمره آنذاك 80 عاماً.
أضف تعليق