سبارتاكوس هو أحد أهم وأبرز الشخصيات التاريخية ويشتهر بلقب محرر العبيد، ألهمت بطولاته العديد من الأدباء وصناع السينما والدراما، فتم تقديم شخصية سبارتاكوس من خلال عدد كبير من الروايات والأفلام وأخيراً المسلسلات التلفزيونية، والتي خلطت أحداثهم ما بين الوقائع التاريخية وبين الأحداث الخيالية؛ حيث إن أغلبها صورته في هيئة البطل الأسطوري الذي لا يقف شىء أمامه وللحق فهو لم يكن يبعد كثيراً عن تلك الهيئة..
سبارتاكوس .. من هذا :
رغم إن سبارتاكوس لم يكن قائداً رسمياً بأي من جيوش عصره إلا إن المؤرخون يعدونه أحد أبرع القادة العسكريين في التاريخ.. فترى لماذا؟ وما مسيرته وما الحدث الأبرز بها؟
الميلاد والأصول :
لم يهتم المؤرخون بشخصية سبارتاكوس التاريخية إلا بعد قيامه بعمله الأشهر الذي خلد ذكراه في التاريخ، وهو توليه قيادة حرب العبيد الثالثة والتي تمثل حركة التمرد الأكبر في تاريخ الرومان، لهذا فإن كل ما وصل إلينا عن حياته قبل تلك الحرب هو مجموعة تحليلات أو تكهنات تقريبية وليست مؤكدة. لكن هناك شبه توافق إن سبارتاكوس قد وُلِد في 111ق.م تقريباً وإنه ينتمي إلى الإغريق، أما عن موقع ميلاده فأغلب الظن إنه كان منطقة تراقيا، وهي منطقة جغرافية كانت تجمع قديماً ما بين شرق البلقان وشمال شرقي اليونان وجنوب دولتي بلغاريا وتركيا، تشير كذلك بعض المصادر إلى اتمائه إلى قبيلة تراسيا التي سكنت تلك المنطقة التي تلقى بها تدريبه الأول في طفولته وصباه.
الأسر :
قصة سبارتاكوس الفعلية بدأت بوقوعه في أسر الرومان واقتياده إلى سجون العبيد، وقد اختلف المؤرخون حول كيفية وقوعه في الأسر، فقد قيل إنه اقتيد بعد اجتياح جيوش الرومان للمنطقة التي يقتنها وإنه كان في ذلك الوقت في عمر الصبا، بينما هناك مصادر تاريخية أخرى تؤكد على أن سبارتاكوس كان بالغاً حين وقع في الأسر، وبعض هذه المصادر أكدت على إنه كان مجنداً ضمن جيوش اليونان وإنه كان أحد أسرى المعركة. أنصار تلك النظرية يبرهنون على صحتها بالبراعة التي أظهرها في قيادته لجموع العبيد أثناء ثورتهم، الأمر الذي يؤكد إنه كان على دراية واسعة بكيفية إدارة المجموعات ووضع الخطط والتكتيكات الحربية، علاوة على إن زوجة سبارتاكوس أيضاً وقعت في أسر الرومان مما يعني إنه كان بالغاً ومتزوجاً حين حدث ذلك.
سبارتاكوس مصارعاً :
بعد سقوط سبارتاكوس أسيراً في أيدي الرومان تم اقتياده -بحسب ما ذكرته المراجع التاريخية- تم اقتياده إلى إحد سجون العبيد المصارعين، وعلى وجه التحديد سجن أو معسكر كان يدعى (مدرسة لودوس Ludus) الواقع قرب مدينة كابوا الإيطالية، وداخل ذلك المعسكر تلقى سبارتاكوس المزيد من التدريبات القتالية، حيث خصص ضمن مجموعة العبيد المصارعين ممن يتم اقتيادهم فيما بعد إلى ساحات المصارعة، ليتقاتلوا فيما بينهم بهدف تسلية الرومان، وكانت تلك الفكرة هي أول العوامل التي أثارت غضب سبارتاكوس تجاه الرومان إذ رأى مدى استهانتهم بأرواح ومصائر البشر.
ثورات العبيد :
يشتهر سبارتاكوس تاريخاً بإنه قائد ثورة تحرير العبيد في العصر الروماني، ورغم إن ذلك صحيح بنسبة كبيرة إلا إنه تجدر بنا الإشارة إلى أن تلك الثورة أو حركة التمرد لم تكن الأولى من نوعها. فقد شهدت الدولة الرومانية العديد من الثورات وحركات التمرد التي قام بها العبيد ولكن جميعها كانت هينة ولم تلفح، واستطاعت قوات التأمين بقليل من الأفراد والعتاد من قمعها والسيطرة عليها. يرى بعض المؤرخون إن تكرار الثورات الضعيفة والغير مخططة كان من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نجاح تمرد مجموعة العبيد التي قادها سبارتاكوس فيما بعد، إذ أن الرومان تعاملوا معها في البداية بخنوع واستهانة اعتقاداً منهم بأنها مجرد زوبعة ستنتهي كما انتهت سابقتها.
مراحل ثورة عبيد :
حرب العبيد الثالثة أو حرب المصارعين أو حرب سبارتاكوس كلها مسميات تشير إلى حدث تاريخي واحد، وهو الحلقة الأخيرة في سلسلة تمردات العبيد المعروفة تاريخياً بمسمى حروب العبيد الرومانية، وقد استمرت تلك المواجهة لمدة ثلاث سنوات ما بين عامي 73 : 71 قبل الميلاد، ومرت بأكثر من مرحلة أبرزها الآتي:
أ) المرحلة الأولى :
المرحلة الأولى من حركة التمرد بدأت بعملية الهروب من داخل السجن أو المعسكر الذي كان يحتجز به العبيد المصارعين، وقد استخدم العبيد في هذه المرحلة أدوات المطبخ والأوتاد الخشبية والحجارة كأسلحة، وتمكنوا بالفعل من مواجهة مجموعات الحراس وتخطي أسوار السجن المحتجزين بداخله. بعض المصادر تشير إلى أن سبارتاكوس كان هو العقل المدبر لذلك التمرد بينما مصادر أخرى تؤكد على إنه لم يكن سوى أحد المشاركين فيه، وأن تنصيبه كقائد لمجموعة الهاربين المقدر عددهم بحوالي 80 عبداً جاء في وقت لاحق.
ب) المرحلة الثانية :
أرسلت الجمهورية الرومانية مجموعة مليشيات عسكرية لمواجهة حركة التمرد في وقت متأخر بعدما أدركوا إنها تختلف عن كل مرة، وإن المتمردين هذه المرة من المصارعين المدربين وإن تحركاتهم منظمة تتم وفقاً لخطط مسبقة ولا يحاولون الفرار بصورة عشوائية. خلال تلك الفترة كان قد تولى سبارتاكوس قيادة مجموعة العبيد وتمكن من استقطاب المزيد منهم حتى إن تعداد العبيد المتمردين في أنحاء الجمهورية الرومانية قد بلغ 120 ألفاً تقريباً.
أربك سبارتاكوس -الذي أطلق عليه اتباعه في تلك الفترة لقب (جنرال)- حسابات قادة الرومان بتغييره لاستراتيجية حركات التمرد، فقد توقف عن الهروب وتحول إلى الهجوم، فكان يكون مجموعات من أتباعه ويتربص بدوريات عساكرها وينقض عليها فيقتلهم ويحصل منهم على المؤن والخيول ومعدات التسليح، وبعدما سلح جيشه بالقدر الكافي توالت هجماته على القرى الرومانية وقتال القوات الحامية لها وسلب خيراتها، لكن المكسب الحقيقي الذي جناه العبيد هو انقلاب الرأي العام على القيادات الرومانية كونهم سبب لهم حرجاً كبيراً وأظهرهم في صورة العاجز عن مواجهة مجموعة من العبيد المتمردين.
ج) المرحلة الثالثة :
أمام الانتصارات المتكررة لسبارتاكوس ومجموعته اجتمع مجلس الشيوخ الروماني وأظهر مخاوفه إزاء تلك الانتصارات، وأكدوا إن استمرار ذلك الوضع قد يؤدي في النهاية إلى انهيار الدولة الرومانية بالكامل، وقد كان سبارتاكوس قريب جداً من تحقيق ذلك بالفعل، لهذا توقف قادة الرومان على التعامل مع الأمر باعتباره حركة تمرد وتعاملوا معه بمنطق الحرب، وقاموا بإرسال جيش جرار مكون من ثمانية فيالق لمواجهة العبيد، ودامت الحرب بين الفريقين لعدة أشهر بعدها تمكنت جيوش الرومان من محاصرة سبارتاكوس ورفاقه وظنوا إنهم سيجبرونهم على الاستسلام بعدما قطعوا عنهم المؤن والمدد، لكن سبارتاكوس رفض الاستسلام وكذلك رأى من الحكمة ألا يستمر في الحرب بعدما فقد عدد كبير من رجاله، فتخير فيلق القائد كراسوس باعتباره الأضعف والثغرة الوحيدة في حصار الرومان وركز كامل قواته عليه، واستغل عنصر المفاجأة لصالحه وبعد قتال طويل ودامي مع ذلك الفيلق تمكن سبارتاكوس ورفاقه من فك الحصار والانسحاب من أرض المعركة.
هل الرومان هزموا سبارتاكوس حقاً؟
انتهت الحرب رسمياً بانسحاب العبيد وإعلان الرومان استعادتهم للسيطرة على كافة أرجاء بلادهم، لكن في الحقيقة أن النصر كان حليفاً لمجموعة العبيد، فقد كبدوا الدولة الرومانية خسائر فادحة، والأهم أنهم ألهموا آلاف العبيد بكافة أرجاء الدولة الرومانية، فتوالت التمردات وتعالت الأصوات المنددة بسياسة الرومان مما مهد الطريق نحو النهاية الفعلية لسياسة الاسترقاق، وذلك هو إنجاز سبارتاكوس الأكبر وأثره الأعظم.
النهاية :
نهاية سبارتاكوس كُتبت بالاختفاء التام، مصادر تؤكد على إنه قد تمكن من الفرار بعد المواجهة مع كراسوس ومصادر أخرى تقول إنه قد لقي حتفه خلالها، لكن الأكيد إنه لم يسمع عنه خبراً بعد تلك الموقعة كما لم يُعثر على جثته، لتبقى نهايته هي اللغز الأكبر والأكثر غموضاً في مسيرته.
تحول سبارتاكوس في العديد من الثقافات الشعبية إلى رمز للثورة من أجل الحق والعدل والمساواة، وقد اتخذته العديد من الجماعات الشيوعية رمزاً لها في العصر الحديث، كما أقيم له عدة تماثيل بمناطق متفرقة من العالم تخليداً لذكراه وبطولاته وكفاحه ضد التمييز واسترقاق البشر.
أضف تعليق