الإمام محمد عبده هو أحد أبرز الرموز الوطنية في التاريخ المصري والعربي، شغل خلال حياته العديد من المناصب الهامة والمرموقة، وأهمها على الإطلاق منصب مفتي الديار المصرية، ولكن الإنجاز الأكبر الذي حققه الإمام محمد عبده لم يحققه من خلال المناصب التي تقلدها، إنما حققه من خلال نشاطه التطوعي وعمله السياسي والاجتماعي، الساعي إلى تجديد الخطاب الديني وتحرير العقل العربي والارتقاء به.
الإمام محمد عبده .. من هذا :
الإمام محمد عبده ليس مجرد عضو بالحركة الوطنية المصرية، بل هو من تتلمذ على يده روادها وقادة ثورة 1919م، فكيف كانت مسيرة هذا العالم الجليل؟ وما التأثير الذي حققه من خلالها؟
ميلاده :
لا يتوفر أي مصدر يمكن تبين منه تاريخ ميلاد الإمام محمد عبده بصورة دقيقة، ولكن الأمر المثبت هو إنه ولد في العام الهجري 1266هـ، أي ما يوافق عام 1849 الميلادي، وكان ذلك في محافظة البحيرة المصرية وعلى وجه التحديد بقرية تسمى محلة نصر تابعة لمركز شبراخيت، وكانت والدة الإمام سيدة مصرية يمتد نسبها إلى قبيلة بني عدي العربية، أما والده فقد كان من الترامكة.
الدراسة :
وبدأ الإمام محمد عبده تعليمه من خلال الككاتيب التي كانت منتشرة بالقرى الريفية آنذاك، حيث تعلم بها مبادئ القراءة والكتابة والحساب، كما حفظ قدر كبير من القرآن الكريم، واستمر محمد عبده على ذلك الحال إلى أن بلغ الثالثة عشر من عمره، فالتحق بالجامع الأحمدي في طنطا، حيث انتظم بصفوفه وتلقى به العلم وتوسع في دراسة علوم الدين بمختلف فروعه، وكان متفوقاً مشهود له بالذكاء والفطنة، وفي عام 1866م انتقل إلى القاهرة حيث التحق بالجامع الأزهر، حيث التقى هناك بمعلمه وأحد أهم الشخصيات المؤثرة في حياته وهو الشيخ جمال الدين الأفغاني، وفي عام 1877م حصل على شهادة العالمية من الأزهر الشريف
موقفه من الثورة العرابية :
كان موقف الإمام محمد عبده من الثورة العرابية موفقاً متذبذباً في بدايته، فهو كان مقتنع بحق عرابي في الثورة وكذلك كان مؤمناً بنبل أهدافها وما قامت من أجله، ولكن مبدأ الثورة في حد ذاته لم يكن متسقاً مع مبادئ محمد عبده ورؤيته، فهو كان من رواد الاتجاه الإصلاحي الداعي للسلم الرافض للصدام، ولكنه في النهاية حسم موقف ووقف في صف الثورة في مواجهة الخديو وقوات الاحتلال البريطاني، وذلك لإنه آمن بأن الثورة هي السبيل الوحيد للدفاع عن الوطن بتلك المرحلة، ومنذ ذلك الحين صار رمزاً من رموز الثورة العرابية وأحد قاداتها البارزين، حتى إنه جاء في مركز متقدم بالقائمة التي أعدتها قوات جيش الاحتلال البريطاني للشخصيات المطلوب القبض عليهم.
تجربة النفي :
نظراً لموقف الإمام محمد عبده من الثورة العرابية ومساندته لها، فقد صار من ألد أعداء القوات البريطانية التي جاءت لفرض الحماية على القطر المصري، وبمجرد إحكامها السيطرة على البلد بدأت في التنكيل بهولاء الأعداء، فتم القبض على الإمام محمد عبده وحُكم عليه بالنفي إلى بيروت، وبعد سفره إلى هناك تلقى دعوة من أستاذه الشيخ جمال الدين الأفغاني بأن ينضم إليه في العاصمة الفرنسية باريس، فانتقل إلى هناك ومن قلب باريس بدأ رحلة نضاله ضد الاحتلال بقلمه، وأنشأ جريدة باسم العروة الوثقى لتكون بمثابة منبره الذي يخطب بالناس من خلاله.
العودة إلى مصر :
كان تلاميذ الإمام محمد عبده قد صاروا من أصحاب القامات الرفيعة في القطر المصري، ومنهم الزعيم المصري سعد زغلول والمفكر والكاتب قاسم أمين وغيرهم، وقد عاونه هؤلاء في العودة مرة أخرى إلى أرض الوطن بعد نفيه، فقد توسط له سعد زغلول لدى الخديو توفيق، كما لعبت الأميرة نازلي فاضل سليلة أسرة محمد علي باشا دور في ذلك، حيث استغلت قربها من مراكز صنع القرار وقادة الاحتلال البريطاني، فطلبت من اللورد كرومر العفو عن الإمام محمد عبده والسماح له بالعودة إلى مصر، وبفضل هذه المحاولات بجانب الضغط الشعبي، انصاع كرومر والخديو توفيق لغربتهم وصدر قراراً بالعفو في حق الإمام محمد عبده ،وتم السماح له بالعودة إلى البلاد بشرط ألا يعود إلى العمل السياسي.
النشاط الاجتماعي :
توقف محمد عبده عن العمل السياسي بالفعل، أو بمعنى أدق كان يمارس نشاطه السياسي سراً، أما في العلن فقد كان له إسهامات في مجال آخر، يهدف بها إلى الارتقاء بوطنه وأمته، وهو النشاط الاجتماعي حيث سعى إلى تحقيق الإصلاح الديني، وكانت أغلب فتوايه الدينية تتمحور حول قضايا اجتماعية واقتصادية، وخلال تلك الفترة قام بتأسيس جمعية إحياء العلوم العربية المسئولة عن نشر المخطوطات، كما عُين ضمن أعضاء مجلس شورى القوانين في عام 1900م.
أثره :
يعد الإمام محمد عبده أحد رواد تيار الإصلاح وأبرز الداعين إلى النهضة العربية الحديثة، فقد كان يرى إن تحرير الأوطان لا يكون إلا بتحرير العقول، وقد سخر حياته وعلمه لنصرة هذه القضية، والفضل يعود لهذا العالم الجديد في إحياء الاجتهاد الفقهي مجدداً، ليصبح متماشياً مع التطور العلمي في العصر الحديث.
تلاميذه :
لم ينقطع عمل الإمام محمد عبده بوفاته ولم تنته رسالته برحيله عن دنيانا، إذ إنه قبل رحيله كان قد غرس بذور أفكاره في العديد من العلماء والمفكرين، ممن خلفوه وحملوا لواء التنوير والتجديد من بعده، ومن أبرز الشخصيات التي تأثرت بفكر الإمام ومبادئه عبدالحميد بن باديس وعبد الرحمن الكواكبي وسعد زغلول وقاسم أمين ومحمد رشيد رضا وغيرهم، وجامعهم ساهموا في تحرير العقل العربي من الجمود الذي سيطر عليه قرون طويلة، كما لعبوا دوراً بارزاً في بعث الروح الوطنية من جديد وإيقاظ قيم الانتماء والإخلاص للوطن، ورغم وفاة الإمام محمد عبده في 1905م إلا إن أفكاره ظلت حية، ويرى الكثيرون إنها كانت أحد أسباب اندلاع ثورة 1919م بعد رحيله بحوالي أربعة عشر عاماً.
الوفاة :
عاني الإمام محمد عبده في الأشهر الأخيرة من عمره عناءً شديداً، وتدهورت صحته بشكل ملحوظ إثر إصابته بمرض السرطان، وكان في تلك الفترة مقيماً في محافظة الإسكندرية، ولم يكن قادر على الحركة وكان لا يغادر منزله تقريباً، وفي الحادي عشر من يوليو عام 1905م فارق الحياة متأثراً بالسرطان، عن عمر يناهز ست وخمسين عاماً، وتم نقل جثمانه إلى العاصمة المصرية القاهرة ليُدفن بها، حيث تم تشيع جثمانه إلى منطقة المدافن في شارع صلاح سالم بالقرب من مقر دار الإفتاء المصرية، وكانت جنازته مهيبة حضرها العديد من تلاميذه وكذا عدد كبير من محبيه من العوام، كما نظم كبار شعراء ذلك الزمان العديد من القصائد لرثاء الشيخ الجليل.
التكريم :
تم تكريم الشيخ الجليل محمد عبده في الوطن العربي عامة ومصر على وجه الخصوص، بالعديد من الطرق وبأشكال مختلفة، من بينها التالي:
- تم إطلاق اسم محمد عبده على أحد أهم شوارع القاهرة، وهو الشارع الواقع بالقرب من مقر دار الإفتاء المصرية، والذي يوجد به قبر الإمام وأهل بيته.
- تمت طباعة صورة العالم الجليل على طابع بريد تذكاري، وجاء ذلك في الذكرى الستين لرحيل الشيخ.
- تم إطلاق اسم الشيخ الجليل على العديد من المدارس والمؤسسات الثقافية بمختلف محافظات جمهورية مصر العربية، تكريماً له وتخليداً لذكراه وامتناناً لإسهاماته في نشر الثقافة وحمله لواء التنوير.
أضف تعليق