محمد علي باشا يُعرف بلقب مؤسس مصر الحديثة، وإنجازاته هي الأشهر على الإطلاق في تاريخ مصر الحديث، فالفضل يعود لذلك الرجل في الطفرة العلمية التي شهدتها البلاد، هذا بجانب إحداثه لثورة صناعية ومد الخطوط التجارية وهو ما ساهم في تنمية الاقتصاد المصري، بالإضافة لتأسيسه أول جيش مصري وطني في التاريخ الحديث.. فما قصة هذا الرجل وكيف استطاع تحقيق كل هذا وما كان هدفه منه؟ أو يمكن أن نختصر كل تلك الأسئلة في سؤال واحد : محمد علي باشا .. من هذا ؟
محمد علي باشا .. من هذا ؟
حكم محمد علي باشا مصر خلال الفترة ما بين 1805م وحتى 1848م، وامتد حكم الأسرة العلوية من بعده حتى عام 1952م.. لكن ترى كيف تمكن من الأساس من بلوغ سُدة الحكم؟.. ذلك سؤال لا يمكن الإجابة عنه سوى باستعراض عدة جوانب من سيرته الذاتية.
الميلاد واليُتم :
محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللي هذا هو الاسم الكامل لمؤسس مصر الحديثة، و”القوللي” ليس لقبه إنما هو كنيته نسبة إلى مدينة قولة التابعة لمقدونيا في اليونان، والتي شهدت ميلاد محمد علي في عام 1769م لأسرة ذات أصول ألبانية، والده إبراهيم آغا هناك خلاف على مهنته، فهناك مصادر تحدثنا بإنه كان رجل عسكري شغل منصب رئاسة خفر الطرق، ومصادر أخرى تقول بإنه كان تاجر للتبغ، على كل حال لم يتأثر محمد علي باشا بأبيه كثيراً إذ أنه حين توفي لم يكن محمد علي قد بلغ عامه الرابع عشر بعد، وقد أنجب الوالد سبعة عشر توفوا جميعاً في صغرهم، ولم يبلغ منهم سن الصبا والشباب سوى محمد علي.
النشأة العسكرية :
علاقة محمد علي باشا بالحياة العسكرية بدأت منذ صباه، فبغض النظر عن إن كان والده عسكرياً من عدمه، فإنه حين توفي تكفل بتربيته عمه وكان يدعى طوسون، إلا إنه هو الآخر توفي بعد مضي أشهر قليلة، فانتقل محمد علي الصغير إلى منزل صديق والده وكان يدعى الشوربجي إسماعيل، والذي كان يشغل منصب حاكم بلدة قولة، وهو من قام بإلحاق محمد علي بسلك الجندية، وعلى الرغم إن لم يكن التحول إلى جندي ضمن خطط محمد علي باشا المستقبلية، إلا إنه أحب الحياة العسكرية المنضبطة وأحب دراسته، فبرع فيها وحين شارك في بضعة معارك أظهر شجاعة منقطعة النظير، فذاعت شهرته بين قادته وأدى ذلك إلى ترقيته بالمناصب سريعاً.
المجئ إلى مصر :
لم تكن شهرة محمد علي باشا وحدها هي التي تعاظمت خلال تلك الفترة، بل طموحه العسكري والسياسي أيضاً كان قد تعاظم، وحين قررت الدولة العثمانية أرسال جيشاً إلى ولاية مصر لمواجهة الفرنسيين، كان هو نائب قائد تلك الكتيبة المرسلة، والتي كانت تتألف من قرابة ثلاثمائة جندي ألباني، وكان وصول محمد علي إلى مصر هو أول خطوة حقيقية يتخذها على طريق تحقيق آماله السياسية، وبعد وصول الكتيبة بأيام قرر قائدها العودة إلى دياره، فحل محمد علي محله وصار هو القائد الأول للكتيبة الألبانية.
الدهاء السياسي :
بدهاء وذكاء استطاع محمد علي باشا أن يخلق لنفسه مكاناً على الساحة السياسية في مصر، وكذلك استطاع أن يخلق لنفسه مكانة في نفوس المصريين، فقد نجح في التقرب من الأعيان وكان كثيراً ما يجالسهم ويتحدث إليهم، حتى أشعرهم بإنه واحد منهم لا قائد جند أرسله المحتل، وحين ثارت جموع الشعب على الوالي العثماني خورشيد باشا، ساند محمد علي باشا الشعب المصري في تلك الثورة، ولم يكن هدفه هنا برئ، بل كان يعي تماماً إن ذلك سيفتح له أبواب القلعة، وسيمهد له الطريق نحو اعتلاء عرش مصر والتربع عليه، وهو ما حدث بالفعل فقد بايع الأعيان وقادة الشعب محمد علي باشا ،وشبه أجبروا السلطان العثماني على تعيينه والياً على مصر خلفاً لخورشيد باشا.
الانفراد بالحكم :
بذات الدهاء السياسي تمكن محمد علي باشا من الانفراد بالحكم، فبعد توليه العرش تمكن من التخلص من الزعامة الشعبية المصرية، على الرغم من إنهم هم من أوصلوه إلى العرش في بادئ الأمر، ثم كانت خطوته التالية بالتخلص من المماليك، وذلك بالواقعة التاريخية الشهيرة باسم مذبحة القلعة، وتعاظمت قوة محمد علي باشا كحاكم بسرعة البرق، حتى تمكن من التمرد على السلطان العثماني وإعلان مصر ولاية مستقلة، واتسعت رقعة الأرض الفارض سيطرته عليها فتمكن من ضم السودان وجزء من بلاد الحجاز إلى حُكمه، ورغم إن كل ما سبق يضع محمد علي في صورة الطامع بالسلطة والمغتصب للحكم، إلا إن ذلك لا ينفي إن ما شهدته مصر في عهده لم تشهده في عهد سواه، فقد علم بأن حكمه لن يدوم بإحاطة نفسه بالأسوار والحراس، إنما سيدوم بإقامته لدولة حديثة ومتطورة تضاهي دول العالم الغربي.
مؤسس مصر الحديثة :
رغم إن محمد علي باشا في المقام قائد عسكري، إلا إن الإنجاز الأكبر في تاريخه ليس عسكرياً بل هو إنجاز اقتصادي- سياسي، فمحمد علي هو مؤسس مصر الحديثة، ففي عهده تطورت مختلف قطاعات الدولة دون استثناء، فقد قام بإعادة هيكلة وبناء الجيش، كذلك كان له الفضل في إدخال العديد من الصناعات الحديثة إلى مصر، ومجال الزراعة كذلك كان له نصيب من هذا التطوير، أما عن التعليم فحدث ولا حرج، فقد أولى محمد علي اهتمام كبير بالتعليم فأنشأ المدارس الفنية والجامعات، وكان أول من أرسل البعثات لتلقي العلم بالخارج.
الزوجات :
إنجازات محمد علي باشا الاقتصادية والعسكرية خلال فترة حكمه، طغت على حياته الشخصية فلم يتطرق لها المؤرخون بشكل وافي، ولكن الثابت لدينا إن محمد علي كان له زوجتان شرعيتان، هما الزوجة الأولى أمينة هانم ابنة مصرلي باشا، والزوجة الثانية هي دوران هانم وتعرف باسم أوقمش قادين، ولم ينجب محمد علي باشا من أوقمش قادين بأية ابناء، أما سلالته ممن تولوا الحكم من بعده فجميعهم أنجبهم من زواجه الأول، وهم الذكور الثلاثة إبراهيم باشا وإسماعيل كامل باشا وأحمد طوسون باشا، بالإضافة لابنتين هن نازلي هانم وتوحيدة هانم.. كذلك كان لمحمد علي العديد والعديد من الإماء والجواري، أو كما كان يُطلق عليهن اسم مستولدات محمد علي باشا، وأشهرهن أم نعمان والتي سميت بهذا نسبة إلى ابنها نعمان بك، وعين حياة وهي والده محمد سعيد باشا، وماهوش قادين والتي انجب منها صديق بك، ونام شاز والدة محمد عبد الحليم، وشمس الصفا والتي انجبت له بنتين هن رقية هانم وفاطمة هانم، وخديجة قادين والتي سمي ولدها على اسمه فعرف بـ محمد علي باشا الصغير، هذا بجانب أخريات من المستولدات وآخرين من الابناء.
الوفاة :
تدهورت الحالة النفسية لـ محمد علي باشا بعد عزله من الحكم، وكان ذلك على يد بريطانيا والسلطان العثماني عبد المجيد خان الأول، ولكنه لم يخسر كل شئ إذ تمكن من التوصل لاتفاق تكون من خلاله ولاية مصر في حكم ورثته.. ولكن في النهاية تأثرت حالته الصحية بتلك الحالة النفسية التي أصابته فتدهورت هي الأخرى، وخلال ستة أشهر فقط كان قد تمكن منه الخرف، حتى إنهم لم يخبروه بنبأ وفاة نجله إبراهيم باشا الذي خلفه في الحكم، إذ أن الأطباء أكدوا إنه من الصعب أن يصمد أمام تلك الصدمة، وكان خلال هذه الفترة محمد على منعزل عن الحياة داخل قصر رأس التين بالإسكندرية، وبعد مضي بضعة أشهر قليلة وتحديداً في الثاني من أغسطس لعام 1849م فارق حياة، متأثراً بمضاعفات مرضه الذي اشتد عليه في الأيام الأخيرة.
الجنازة والدفن :
إذا تمت مقارنة الجنازة التي شيع بها جثمان محمد علي باشا مع تاريخه وما أنجزه خلالها، سنجد إنها بكل المقاييس لا تليق بعسكري في مثل براعته أو سياسي بمثل دهائه، فقد كان الحضور في الجنازة هزيلاً للغاية، فلم يهتم أغلب القناصل والسفراء ورجال السياسية البارزين بالحضور، واللوم في ذلك يوجه إلى عباس حلمي حفيد محمد علي الذي كان حاكماً لمصر في ذلك الوقت، إذ إنه همش جده ولم يبلغ الشخصيات العامة رسمياً بموعد تشييع الجثمان.. دُفن محمد علي باشا في القاهرة داخل الضريح الذي أقيم له بالمسجد الذي شيده، والذي يعد حتى اليوم من أبرز معالم القاهرة السياحية ويُعرف باسم مسجد محمد علي.
أضف تعليق