ويلبر وأورفيل والمعروفان أيضاً باسم الأخوان رايت ،هما شخصان تشاركا ما هو أكثر من اسم الأب، تشاركا الحلم والعمل وصناعة المعجزة وتحقيق المستحيل، فاستحقا عن جدارة أن يدخلا التاريخ ويخلدا في ذكراه، الأخوان رايت لم يشهدا قرن الطيران لكنهما مهدا له، وذلك بتحقيقهما للحلم الذي راود الإنسان منذ اللحظة التي خُلق بها وراقب حركة الطيور، فهما أصحاب أول تجربة طيران ناجحة في تاريخ البشرية.
الأخوان رايت .. من هم :
الأخوان رايت حملا في حياتهما الجنسية الأمريكية، لكنهما اليوم يعتبران إرثاً عالمياً، فما من شخص يحيا فوق الأرض إلا ويدين لهم بالفضل، وأغلب دول العالم تحيي ذكراهما وتحتفل بنجاح تجربتهما سنوياً في حفل رسمي.
الميلاد والأسرة :
وُلِد الأخوان رايت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهما اثنين من سبعة أشقاء للزوجين ميلتون رايت وكاثرين كورنر، أصولهما من جهة الأب تعود إلى بريطانيا وهولندا، أما أمهم كاثرين كورنر فهي تندرج من أصول ألمانية سويسرية.. وكان الفارق العمري بين الأخوين أربعة سنوات، فالأخ الأكبر هو ويلبر رايت الذي وُلِد بإحدى ضواحي مدينة ميلفيل بإنديانا الأمريكية، وكان ذلك في عام 1867م، أما الأصغر أورفيل رايت فقد وُلِد في 1871م في مدينة دايتون بولاية أوهايو، أما أخوتهم الخمسة فهم كاثرين الابنة وروشين ولورين رايت، بالإضافة إلى التوأم إيدا وأتويس اللذان توفيا في وقت مبكر من عمرهما، وقد كانت أسرة ميلتون رايت ميسورة الحال وشديدة التماسك والترابط، وعليه فقد نشأ الأخوين ويلبر وأورفيل وسط مناخ عائلي هادئ ومستقر، ساهم في الارتقاء بمستواهم الفكري وهيأ لهما فرصة تنمية مواهبهما وقدراتهما.
التعليم والحلم :
التحق الأخوان رايت بالمدارس لكن كلاهما لم ينه تعليمه بها لأسباب مختلفة، فلم يحظا منه إلا بالأساسيات التي يحتجان إليها، فتعلما مبادئ القراءة والكتابة وبعض من علوم الطبيعة وبرعا في الرياضيات، وبعد تركهما للمدرسة اتجها إلى سوق العمل، وعملا في مجال الميكانيكا، ولم ينسى أي منهما حلمها الطفولي في التحليق في الهواء، فأكثرا من الاطلاع على مناهج العلوم التطبيقية وتعلماها بالمجهود الذاتي، ومع الخبرة التي اكتسبوها من أعمالهما الميكانيكية، قررا البدء في العمل على مشروعهما والمتمثل في صناعة أو مركبة يمكنها حمل الإنسان في الهواء.
نعمل معاً أو نموت منفردين :
أخلص كلا الأخوين رايت لحلمهما وطموحهما لدرجة لا يمكن تصديقها، فحين انتهوا من تصميم النموذج الأولي لطائرتهما، وصارا على أعتاب خوض أولى تجارب الإقلاع بالطائرة، طلب منهما والدهما الذي كان يدعمهما ويتابع خطواتهما ويشرف على أعمالهم، بألا يركبا الطائرة معاً مهما تكررت مرات القيام بالتجربة، فقد كان الأب -رغم كل شىء- قلق على مصير ابنائه، وكان يخشى أن يحدث خطأ ما تنجم عنه كارثة وكل ما كان يريده ألا تكون الكارثة مزدوجة، وقد وعده الأخوان بأن يلتزما بتعليماته وألا يخوضا التجربة سوياً، ونفذا ما وعدا به ولكن لأسباب مختلفة، فلم يكن الأخوان رايت يخشون الموت بقدر ما خشيا الفشل وضياع الحلم، فاتفقا على أن يحلقا بالطائرة منفردين، حتى إذا ما توفي أحدهما يتمكن الآخر من إنهاء مشروعهما وتحقيق حلمهما.
نجاح التجربة :
السابع عشر من ديسمبر 1903م يمثل نقطة تحول في تاريخ البشرية، فذلك اليوم تحقق الحلم الذي راود الإنسان منذ بدء الخليقة، وحلم الأخوان رايت الذي عملا عليه لسنوات طويلة دون كلل أو ملل، وخاضا بالفعل أول تجربة طيران ناجحة استمرت لأقل من سبعة دقائق، وفي اليوم التالي تصدرت صورهم صفحات الجرائد الأمريكية، ومنها انتقل الخبر إلى كافة أرجاء العالم، واستمر الأخوان في العمل على تطوير آلتهما لجعلها تتحرك بشكل أسرع ولوقت أكبر، وأطول رحلة طيران قام بها أحد الأخوين كانت من نصيب أورفيل، والذي قاد الطائرة في رحلة مدتها حوالي 75 دقيقة.
تحقيق المستحيل :
في عصرنا الحالي تعتبر الطائرة من وسائل الانتقال الرئيسية، كما صارت تستخدم كذلك لأغراض عسكرية، ومؤخراً راحت تستخدم في إطفاء الحرائق أو تقديم خدمات الطبية والإسعاف، كل هذه الإنجازات بالطبع ندين بالفضل فيها إلى الأخوان رايت ،ورغم إن طائرتهما لم يكن بمقدورها خدمة كل هذه الأغراض، إلا إنه تم الاحتفاء بهما فور نجاح تجربتهما، وذلك لإنهما أول شخصين يتمكنا من تحقيق الحلم المستحيل، فقد راود حلم الطيران عدد لا نهائي من العلماء الأوروبيين، ولكن الحلم كان محكوم عليه بالفشل، وفي مقدمة كتاب (تاريخ الاختراع) ذكر الكاتب أيجون لارسن، إن علماء القرن الثامن عشر كانوا يرون إن الإنسان الذي يطمح إلى إيجاد وسيلة للطيران هو الأكثر حماقة، وأكد الأمر الفلكي الشهير جوزيف لاناد وقال بإن العلماء استبعدوا فكرة أن يستطيع الإنسان الطفو فوق الأرض، واستمر الأمر على ذلك لعدة قرون ترسخت خلالها فكرة استحالة الطيران في أذهان البشر، عدا اثنين منهم هما الأخوان رايت
الحياة الشخصية :
سخر الأخوان رايت سواء أورفيل أو ويلبر حياتهما لخدمة العلم، وألهاهم حلم التحليق في السماء عن كل شىء بما في ذلك أنفسهم، وكانت النتيجة الحتمية لذلك هي تحقيق نجاح مبهر وغير مسبوق على مستوى الحياة العملية والعلمية، قابله بالضرورة فشل ذريع على المستوى الشخصي والإنساني، فقد فشل كل من الأخوين في تحقيق أي إنجاز شخصي، فقد كانا من رهبان العلم ولم يقدما طيلة حياتهما على خوض تجربة الزواج، ويرى المؤرخون إن قوة الروابط بين أفراد أسرة رايت، كان سبباً في تجاهل الأخوين رايت لأهمية تكوين أسرة، فتواجد الأبوين والأشقاء حوالهما كان مشبعاً بالنسبة لهما، فانجرفا وراء طموحاتهم العلمية والصناعية، ولكن هذا كله لا ينفي حقيقة إنهما ذاقا مرارة الوحدة في سنواتهما الأخيرة.
التأثير والإنجاز :
تأثير الأخوان رايت ويلبر وأورفيل لا يتمثل فقط في تمكنهما من صناعة أول طائرة، وخوض أولى تجارب الطيران الناجحة في تاريخ البشرية فحسب، بل تتمثل كذلك في إن الطائرة التي أنتجاها لم تكن بدائية بشكل كامل، بل كانت متطورة بدرجة كبيرة، ودليل ذلك هو إن مبادئ تصميم وصناعة الطائرات التي أقرها الأخوين لا زالت معتمدة حتى اليوم، رغم التطور العظيم الذي شهدته صناعة الطائرات، ورغم تعدد أنواعها واختلاف استخداماتها وتغير أشكال هياكلها، مما يعتبر دليل قاطع على إن هذين الأخوين كانا أصحاب عقلية فذة، وسبقا العصر الذي عاشا فيه بمئات السنين.
النهاية :
انتهت حياة الأخوان رايت قبل سنوات بعيدة، ولكن قصتهما لم ولن تنته أبداً، فهي تتجدد في كل لحظة مع كل طائرة تقلع من أي مطار حول العالم، ومع كل مكوك فضائي يتم إطلاقه لاستكشاف الكون من حولنا.. وقد غاب عنا أول الأخوين وهو ويلبر رايت في الثلاثين من مايو 1912م، وذلك بعد أن أصيب بمرض التيفود، ومنذ ذلك الحين استمر شقيقه أورفيل رايت في العمل على مشروعاتهما المعلقة، وفي عام 1915م نال منه -هو الآخر- المرض، وفي الثالث من يناير عام 1948م توفي هو الآخر إثر تعرضه لأزمة قلبية.
الاحتفاء والتكريم :
احتفى العالم أجمع بالأخوين أورفيل وويلبر خلال حياتهما وبعد وفاتهما بأشكال عديدة، فبداية ما من مكان قدموا إليه إلا وكان يتم استقبالهم بحفاوة وترحاب، وعند الإشارة إليهما كان دوماً يسبق اسميهما لقب العظيمان أو العبقريان.. فور إعلانهما عن نجاح تجربتهما في الطيران، أصدرت الحكومة الفرنسية طابع بريد يحمل صورة الأخوان رايت وطائرتهما، كما نالا عدة تكريمات وأوسمة من كبرى الجامعات والحكومات، أما طائرتهما الأولى فهي لا تزال محفوظة في متحف العلوم والتكنولوجيا الأمريكي، والواقع في مدينة كيتي هوك بولاية كارولاينا الأمريكية، وفي عام 1953م اختير أحد أشهر النصب التذكارية وهو نصب كيل ديفل هيل، وتحول اسمه إلى النصب التذكاري للأخوين رايت، وحتى اليوم يتم إقامة حفل سنوي لتكريمهما في التاريخ الموافق لقيامهما بأول تجاربهما الناجحة.
أضف تعليق