جاك نيكلسون هو الممثل الذي تحدى الصعاب طيلة مشواره الفني، وهو الباحث عن المتاعب الذي اعتاد انتقاء أكثر الشخصيات تعقيداً ليجسدها.. جاك نيكلسون هو صاحب الرصيد الأكبر من الاقتباسات السينمائية الشهيرة، وكل جملة نطق بها بأفلامه لا تزال عالقة بأذهان الجماهير، وهناك شبه إجماع من النقاد السينمائيين على إنه ليس مجرد ممثل بارع، بل هو في نظرهم ظاهرة سينمائية صعبة التكرار، ومن المحتمل ألا تتكرر أبداً.
جاك نيكلسون .. من هذا :
كثيراً ما تكون البداية صعبة، ولكن جاك نيكلسون اختار بإرادته أن تكون الصعاب رفيقة رحلته، وكان يبحث عن العوائق ليتخطاها، وينبش الأرض بحثاً عن المستحيل ليحققه، فاستحق بجدارة أن يوصف بإنه أسطورة من أساطير الفن السينمائي.
الميلاد :
وُلِد جاك نيكلسون في الثاني والعشرين من شهر أبريل لعام 1937م، واسمه بالكامل جون جوزيف نيكلسون، وقد وُلِد في الولايات المتحدة وتحديداً بمدينة نبتون بولاية نيوجيرسي. والدته كانت فنانة استعراضية مغمورة تدعى جون فرانسيس نيكلسون وهي صاحبة أصول إيرلندية وهولندية، والتي تزوجت في وقت لاحق من الراقص الاستعراضي الإيطالي دونالد فورسيللو، ولكن وفقاً لكاتب السيرة الذاتية باتريك ماكجيلجان، فإن هناك شكوك في نسب نيكلسون إلى الإيطالي دونالد فورسيللو، وأُشيع إنه قد ولادته كانت نتيجة علاقة غير شرعية، واختصاراً فإن نيكلسون نفسه يجهل هوية والده البيولوجي.
الصدمة الكبرى :
تعرض جاك نيكلسون لأقوى صدمات حياته وهو في عمر المراهقة، حين تقدم إلى مجلة التايم الأمريكية ليشغل وظيفة صحفي تحت التمرين بها، وكان من ضمن اختبارات تقييم الأداء الصحفي أن يقوم كل مُتدرب بالبحث في تاريخ عائلته، وقد اجتهد نيكلسون في اختباره فاكتشف إن ماضيه بالكامل ما هو إلا سلسلة من الخدع، فاكتشف لأول مرة إنه مشكوك في نسبه من جهة الأب، وإنه المرأة التي أخبرته بإنها شقيقته الكبرى هي في الواقع أمه، وقد كذبت عليه بعد أن منحته اسم عائلتها، وإن جديه الذين نشأ في بيتهما هما في الواقع أبوين بالتبني، ولا تربطه بهما صلة دم، وقد أحبط جاك نيكلسون باكتشاف تلك الحقائق، التي شكلت صدمة قوية بالنسبة له أصابته بحالة من الاكتئاب، وتركت جرحاً في نفسه عانى منه طيلة حياته.
البداية :
لم يكن جاك نيكلسون يملك في الحياة سوى هدف محدد، وهو أن يشبع هوايته ويحترف فن التمثيل، فراح يطوف على مكاتب وكلاء الممثلين والمنتجين، ويقوم بأداء الاختبارات في سبيل الحصول على دور صغير بأي فيلم أو مسلسل، وبالفعل قدم بعض الأدوار الصغيرة غير المؤثرة بعدد من مسلسلات الستينات، ورغم مساحة الأدوار الصغيرة استطاع نيكلسون أن يفرض موهبته، وجذب انتباه المخرجين والمنتجين ومنهم المخرج والممثل الشهير دينيس هوبر، الذي وثق في قدرات جاك نيكلسون وأسند له أول أدواره المميزة بفيلم Easy Rider، ولم يهدر نيكلسون تلك الفرصة وبرع في تجسيد شخصيته، حتى إنه رُشح عن ذلك الفيلم إلى جائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد، ومن ثم توالت أدواره ولم يتوقف منذ ذلك الحين عن إبهار الجميع مع كل عمل يقدمه.
طار فوق عش المجانين :
بحلول عام 1975م كان جاك نيكلسون قد صار أحد ألمع نجوم هوليود بالفعل، ولكنه حين تعاون مع المخرج الشاب -آنذاك- في فيلم One flew over the cuckoo’s Nest، أو أحدهم طار فوق عش الوقواق أو طار فوق عش المجانين، أدهش العالم كله بأدائه الرائع لشخصية ماكور، السجين الذي يتم إيداعه في مصحة عقلية، فيقود ثورة النزلاء للمطالبة بحقوقهم الإنسانية في مواجهة فساد تلك المؤسسة، ليثبت نيكلسون إن جعبته لم تفرغ بعد وإن لا زال لديه الكثير ليقدمه.
الجوكر :
اشتهر جاك نيكلسون ببراعته في تقديم الشخصيات المركبة والمعقدة، وحين شرع المخرج الكبير تيم برتون لتقيدم شخصية البطل الخارق باتمان، أراد أن يكون خصمه في الفيلم هو عدوه اللدود الجوكر، القاتل المهووس الذي يعد أعقد شخصية في عالم القصص المصورة، وعليه كان الاختيار محسوم تقريباً، فلا يوجد من هو أجدر من نيكلسون لتجسيد رمز الشر المطلق هذا، وأثبت التاريخ إن برتون كان على صواب حين أصر على تجسيد نيكلسون للدور، والذي كان أدائه الرائع أهم أسباب نجاح الفيلم، كما كان غيابه سبباً في عدم تحقيق الأجزاء التالية من السلسلة نفس القدر من النجاح، وتسبب ذلك في إحباط المنتجين فقاموا بإلغاء كافة المشروعات المتعلقة بأفلام باتمان، إلى أن أعيد إحياء الشخصية في 2005م على يد كريستوفر نولان
أفضل الرجال الأخيار :
تلقى جاك نيكلسون عرضاً للمشاركة في فيلم بضعة رجال أخيار أو A few Good Men، وكان عدد مشاهد الشخصية المسندة إليه قليل جداً، ولا يتناسب مع شهرته العالمية أو مكانته في هوليود، ولكن نيكلسون أعجبه النص وتعلق بالشخصية فقبلها، وكان الفيلم يدور في كواليس المحاكم العسكرية، وكان نيكلسون يلعب دور الكولونيل ناثان جيسوب، وهو أحد الشهود حول جريمة تسببت في موت عدد من الجنود الأمريكيين، وقدم جاك نيكلسون أداءً أسطورياً بهذا الفيلم، ورغم مساحة الدور الصغيرة إلا إنه ترك أثراً لدى كل من شاهد الفيلم، وترشح عن هذا الدور إلى جائزة الأوسكار لأفضل ممثل في دور مساعد، ورغم قلة الجمل الحوارية لشخصية نيكلسون إلا إن أدائه جعلها تعلق بأذهان الجماهير، ومنها عبارة You can’t handle the truth أو ليس باستطاعتكم تحمل الحقيقة، والتي تعد من أشهر اقتباسات الأفلام في تاريخ السينما.
الاعتقاد الديني :
كان الاعتقاد الديني للنجم جاك نيكلسون محل جدال واسع، ودائماً ما أثير في وسائل الإعلام وحاول استنتاجه بعض المحللين النفسيين، أما حديث نيكلسون نفسه عن الأمر لم يكن واضحاً أو قاطعاً، فالمعروف إنه عند ولادته كان معتنق للديانة المسيحية الكاثوليكية، ولكن تصريحاته فيما بعد أثارت الشكوك حول حقيقة دياناته، وإن كان لا يزال متمسكاً بمسيحيته، وكانت تصريحاته في هذا الخصوص متباينة ومتخبطة، فتارة يقول إنه مسيحي غير متدين وأحياناً يُصرح بإلحاده، كما إنه في حوارات أخرى صرح بإنه لاديني ولكنه ليس ملحداً بالمعنى الكامل، وعبر عن قناعته بقوله إنه يملك فلسفته الدينية الخاصة.
الموقف السياسي :
الكثير من المشاهير في عالم الرياضة والفن يفضلون الوقوف على الحياد فيما يتعلق بالقضايا السياسية، ولكن ربما قدر جاك نيكلسون أن يكون استثنائي في كل شىء، فلم يكن من تلك الفئة المحايدة، وطالما تطرق في حواراته الصحفية والتفلزيونية إلى الحديث عن العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية، وعبر كثيراً عن مواقبه ورؤيته وصرح بأنه من مؤيدي الحزب الديمقراطي الليبرالي. وقد كانت إعلان نيكلسون لمواقفه السياسية بشكل صريح، من أسباب تعرضه للانتقاد أكثر من مرة من قبل الإعلاميين أو الجماهير، ومن أمثلة ذلك حملة الهجوم التي شُنت ضده في عام 1998م، على خلفية الزيارة التي التقى فيها بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو ووصفه له بالسياسي المحنك والعبقري.
حياته الشخصية والعاطفية :
حقق جاك نيكلسون نجاحاً عظيماً في عالم الفن والسينما، لكنه فشل في تحقيق نجاح مماثل في حياته الخاصة والعاطفية، فقد تعددت العلاقات النسائية في حياة نيكلسون، والعامل المشترك الوحيد بين كافة العلاقات العاطفية والزوجية في حياته، هو إن جميعها قد كُتِب عليها الفشل وانتهت بالانفصال، ومنها:
- ساندرا نايت : هذه الممثلة الأمريكية هي الزوجة الأولى في حياة نيكلسون، واستمر زواجها بها لمدة ست أعوام ما بين 1962م: 1968م، وقد انتهت هذه الزيجة بالانفصال بعد إنجابهما لابنتهما جنيفر، ولم يعلن يصرح أي من الطرفين بأسباب الانفصال، بل كانا يتحدثان دوماً عن بعضهما البعض بكثير من الاحترام.
- جولي دلبي : ارتبط نيكلسون عاطفياً لفترة بهذه الممثلة الفرنسية، لكنه عاد في وقت لاحق وأعلن أنفصالهما، معللاً ذلك بإدراكه إن الفارق العمري بينهما حال دون استمرار العلاقة.
- أنجليكا هوستن : التقى نيكلسون خلال إحدى الحفلات بالممثلة أنجليكا هوستن بطلة مسلسل أسرة أدامس، وجمعتهما قصة حب من أول نظرة، ولكن في عام 1989م قررت هوستن الانفصال عنه بعد أن اكتشفت خيانته المتكررة لها.
- ريبيكا بورساريد : كانت ريبيكا هي سبب انفصاله عن هوستن وكانت زوجته التالية، وقد انفصل عنها بعد إنجابهما لطفلين هما راي ولورين.
- لارا فلين بويل : هي آخر علاقات نيكلسون المعلنة والتي انتهت بالانفصال عام 2000م.
الجوائز والترشيحات :
أدوار جاك نيكلسون لم تعلق بأذهان المشاهدين فقط، بل إنها جذبت أنظار النقاد الذين طالما أشادوا بأدائه وقدرته على التقمص، وكذلك لفتت انتباه لجان التحكيم بكبرى المهرجانات السينمائية، ويعتبر نيكلسون أحد أكثر ممثلي هوليود ترشحاً للجوائز وفوزاً بها، ومن بين الجوائز والتكريمات التي حصدها نيكلسون على مدار مشواره الفني ما يلي:
- جائزة الأوسكار : تم ترشيح جاك نيكلسون إثنى عشر مرة للفوز بجائزة الأوسكار، وفاز بها ثلاث مرات بالفعل، أولها أوسكار أفضل ممثل عام 1976م عن فيلم One Flew Over the Cuckoo’s Nest، والثانية كأفضل ممثل مساعد في 1984م عن فيلم Terms of Endearment، والثالثة أوسكار أفضل ممثل 1998م عن فيلم As Good as it Gets.
- جائزة جمعية بوسطن لنقاد السينما : فاز نيكلسون بتلك الجائزة ثلاث مرات عن أفلام Reds وTerms of Endearment وPizzi’s Honor.
- جائزة جولدن جلوب : ثاني أهم جائزة فنية بعد الأوسكار رشح لها نيكلسون سبعة عشر مرة، وفاز بها سبعة مرات آخرها في 2003 عن فيلم About Schmidt، بجانب نيله جائزة سيسيل بي دوميل الفخرية في عام 1999م.
- جائزة الجمعية البريطانية للفيلم : رشح جاك نيكلسون سبع مرات لتلك الجائزة وفاز بثلاثة منها كأفضل ممثل، عن أفلام Reds، The last Detail and Chinatown، On flew Over the Cuckoo’s Nest.
هذا كله بجانب العديد من الجوائز والترشيحات الأخرى، منها جائزة النقاد والتي فاز بها قرابة 33 مرة، وفوزه بجائزة أفضل ممثل من مهرجان كان السينمائي، وجائزة ديفيد دي دوناتيللو لأفضل ممثل أجنبي، وإضافة نجمة تحمل اسمه بممشى مشاهير هوليود.
تأثيره وإنجازه :
حجز جاك نيكلسون لنفسه مكاناً ضمن قائمة أفضل الممثلين في تاريخ السينما، وقد استحق تلك المكانة التي بلغها عن جدارة، فتقريباً تاريخه الفني خال من الأدوار النمطية والتقليدية، فقد عشق نيكلسون تجسيد الشخصية المعقدة والمركبة وبرع فيها، وأسلوبه التمثيلي يُضرب به المثل ويدرس في ورش التمثيل حول العالم، فرغم إنه كان ينتقي أغرب الشخصيات وأعقدها، إلا إنه كان يقدمها بأسلوب سلس وبسيط دون أن يقع في فخ التكلف والمغالاة.
يخشى الموت وحيداً :
أسوأ كوابيس جاك نيكلسون هو أن يموت وحيداً بعد كل هذا العمر، وقد صرح بذلك خلال إحدى اللقاءات، معرباً عن أسفه لعدم تمكنه من تأسيس عائلة، وإن الحياة قد ألهته فأهدر كافة الفرص التي كان بإمكانه اغتنامها ليحظى بحياة أسرية مستقرة وسعيدة، وإن كان هناك ما يندم عليه، فهو إنه رغم تعدد العلاقات النسائية في شبابه، إلا إنه يحيا وحيداً في شيخوخته ويخشى أن يموت على ذلك الحال.
الاعتزال :
قدم جاك نيكلسون آخر أفلامه في 2010م بعنوان How Do You Know، ثم أعلن خبر اعتزاله العمل الفني، وأشيع آنذاك إن سبب ذلك هو إصابته بضعف الذاكرة، وفقدانه القدرة على حفظ النصوص والحوار، لكن نيكلسون نفى في وقت لاحق أن يكون ذلك هو السبب، مؤكداً على إنه لا زال يتمتع بكامل قوته العقلية، ولكن الجماهير لم تعد متشوقة لمشاهدة نوع السينما التي يفضلها، فهو يحب تقديم الدراما الإنسانية المحركة للمشاعر، بينما الجمهور حالياً يتجه أكثر إلى أفلام الإثارة والمعارك، والتي هي من وجهة نظره مفرغة المضمون ولا تحمل رسائل هامة.
أضف تعليق