شجر الدر والتي تشتهر بالاسم المُخفف (شجرة الدر)، هي واحدة من أكثر النساء نفوذاً وقوة في التاريخ، وواحدة من القليلات في التاريخ العربي ممن تمكن من الجلوس على العرش والانفراد بالحكم، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فـ شجر الدر لم تكتف بإدارة شئون الدولة والإمساك بزمام أمورها، بل إنها قادت الجيوش وأدارت المعارك وحققت انتصارت تاريخية.
شجر الدر .. من تكون :
لو إن هناك شخص سيضرب به المثل في تحقيق المستحيل، فحتماً شجر الدر هي هذا الشخص، فهي الجارية التي تمكنت من التدرج إلى أن بلغت العرش، وجلست فوقه ثم انفردت به وفرضت سيطرتها على الجميع.. فكيف تحقق لها كل هذا؟ وما الإنجازات التاريخية التي قامت بها؟
أصولها ونسبها :
اسمها الحقيقة هو عصمة الدين وكما تعرف بلقب أم خليل ويُشاع ذكرها باسم شجر الدر ،ولكن أيا كان اسمها فإن المؤرخون لم يهتموا بها إلا بعدما اعتلت عرش مصر، أو بالأحرى حين تزوجت من الصالح نجم الدين أيوب، وصارت واحدة من سيدات البلاط الحاكم، وهذا لإنها قبل ذلك لم تكن إلا جارية، ولا يهتم المؤرخون برصد تاريخ الجواري أو تحري أنسابهم. أما عن أصول شجر الدر والبلدة التي تنتمي إليها، فقيل تندرج من أصول تركية وآخرون قالوا بإنها أرمنية، أما النسبة الغالبة من المؤرخين يقولون إنها خوارزمية، أي إنها تنتمي إلى بلدة خوارزم (خيوة حالياً)، وهي بلدة تقع اليوم في غرب دولة أوزبكستان، وهي من البلاد التي كانت لها مكانة عالية في ذلك الزمان، إذ خرج منها العديد من أشهر وأبرز علماء المسلمين، وكذلك لم يتمكن النسابون من تحديد السنة التي وُلِدت بها.
زواجها :
قصة شجر الدر بدأت فعلياً بدخولها إلى عالم السلطة والعائلة الحاكمة، وهو ما تحقق حين تزوجت من الصالح نجم الدين أيوب، والتي بدأت علاقتها به حين اشتراها من إحدى أسواق النخاسة، ثم تقرب منها وصارت الجارية المفضلة لديه، حتى إنه كان يصطحبها معه في كافة رحلاته، وتمكنت الجارية الفاتنة من امتلاك قلب الأمير الشاب، حتى إنه لم يعد راغب في امتلاكها بماله وصك شرائها، بل أن أراد أن يضفي الشرعية على علاقته بها، فأعتقها فجعلها بذلك من الحرائر ثم أعلن زواجه منها وارتقى بها إلى مرتبة الأميرات.
التعليم :
كما ذكرنا فإن حياة شجر الدر قبل زواجها من الصالح أيوب لا تتوفر عنها كثير من المعلومات، ولكن الأمر المثبت هو إنها قد حظيت بقدر من التعليم، فقد كانت دوماً مميزة عن باقية الجواري بسبب إجادتها للقراءة، كما عرفت عنها رجاحة العقل واشتهرت بذكائها الحاد، وهي كلها عوامل ساهمت في جذب انتباه الصالح نجم الدين أيوب لها من بين الجميع.
شجر الدر والقضاء على الصليبيين :
في عام 1249م أبحر لويس التاسع من ميرسيليا على رأس جيش جرار قاصداً غزو مصر، وبلغت أنباء الحملة السلطان الصالح فبدأ يستعد للمعركة، وكان يشاور زوجته في كل الأمور ويناقشها في خططه إيماناً منه بفطنتها ورجاحة عقلها، ومع وصول الحملة إلى الحدود المصرية اشتد مرض الصالح ثم توفي، وكان ابنه وولي عهده توران شاه خارج البلاد، وانتشار خبر وفاة القائد كان كفيل بهدم معنويات الجند، فما كان من شجر الدر إلا أن أخفته، وتولت إدارة المعركة نيابة عنه وكانت تضع الخطط وتعدلها وتصدر الأوامر إلى قادة الجيش، وحققت نصراً عظيماً وتمكنت من صد العدوان، بل إنها تمكنت من إيقاع لويس التاسع ملك فرنسا نفسه في الأسر، واحتجزته بالقرب من مقر قيادتها في المنصورة، واستخدمته كورقة ضغط أثناء مفاوضات ما بعد الحرب، والتي قضت من خلالها على الوجود الصليبي في البلاد الإسلامية بصفة عامة، مما يثبت إنها كانت داهية سياسية بقدر ما كانت عبقرية عسكرية.
معارضة حكمها والثورة ضددها :
لم يدم انفراد السلطانة شجر الدر بعرش مصر ومقاليد حكمها طويلاً، أو بمعنى أدق لم يستمر سوى لأسبايع، هي المدة التي أبقت خلالها نبأ موت السلطان الصالح نجم الدين أيوب سراً، ولكن فور أن أعلنت خبر موته وأذاعت نبأ انفرادها بالعرش، وإنها كانت الحاكمة الفعلية للبلاد خلال الفترة الماضية، ثارت ضدها الجموع وخرج الشعب المصري إلى الشوارع معلناً احتجاجه ورفضه لاستمرارها على العرش، وقد كان هناك بعض المنتفعين ممن أججوا غضب الشعب وأشعلوا ثورته ضدها، فلم تشفع لها انتصارتها ولا إدارتها للحرب ببراعة، وإخراج مصر منها آمنة سالمة منتصرة مرفوعة الراية، وكان الاعتراض على استمرار شجر الدر في الحكم قائم على ركيزتين أساسيتين هما:
- ركيزة اجتماعية : رفض المصريون أن تكون قائدتهم امرأة، حتى وإن كانت تلك المرأة قد أدارت معركة حربية وصدت العدوان وخرجت منتصرة، فالتقاليد المصرية والعربية بشكل عام تضع الرجل دوماً في مرتبة أعلى من المرأة، ورأوا إن ترك مقاليد الحكم في يد امرأة هو إهانة لكل رجل يعيش داخل البلاد.
- ركيزة دينية : الدافع الثاني لثورة جموع المصريين على شجرة الدر ،كانت نابعة من نزعتهم الدينية، إذ رأوا إن اعتلاء مرأة لعرش الدولة هو أمر يخالف ثوابت الشريعة الإسلامية، وكان خطباء المساجد يحرضون الجموع على الثورة ضدها، وقاد هذه الثورة الشيخ العز بن عبد السلام.
شجر الدر وعز الدين أيبك :
لم تكن شجر الدر راغبة في الزواج بعد رحيل الصالح نجم الدين أيوب، ولكن أمام الهجمة الشعبية الشرسة ضدها، ومطالبة الجماهير بتنحيها عن العرش كونها امرأة، قررت أن تتزوج من أحد المقربين إليها وتجعله سلطاناً للبلاد، وقد تنافس على قلب السلطانة اثنين من قادة المماليك، هما فارس الدين أقطاي وعز الدين أيبك، وقد وقع اختيارها على الثاني واستخدمته في التخلص من الأول، ثم تنازلت بالفعل عن العرش إلى أيبك، ولكنه كان تنازلاً صورياً لإرضاء العامة وتهدئة الأوضاع، بينما في الحقيقة أبقت زمام في الأمور في يدها، وكانت هي الحاكمة الفعلية والوحيدة للبلاد.
انقلاب أيبك :
على عكس اعتقاد شجر الدر فإن أيبك لم يستسلم لها ولم يتخلى عن طموحه، هو فقط تهادن معها إلى أن تمكن من التخلص من منافسيه في الداخل والخارج، ومن ثم كشف عن وجهه الآخر، وانقلب على السلطانة وحاول فرض سيطرته على مجريات الحكم، وقد نجح في تنفيذ خطته بالفعل، وما زاد الشقاق بينه وبين السلطانة هو إعلانه نيته خطبة ابنة صاحب الموصل، وأوشى لها بعض أعوانها بإن أيبك يدبر للتخلص منها نهائياً، وذلك بإنزالها عن عرش قصر القلعة وإيداعها دار الوزارة بالقاهرة، فدعته ذات ليلة إلى قصرها وكانت قد نصبت له فخاً، وفور دخوله قام مجموعة من حراسها الأوفياء باغتياله.
وفاتها :
في اليوم التالي لمقتل أيبك أعلنت شجر الدر إنه توفي بشكل مفاجئ، ولكن لم يصدق أحد كذبتها هذه، وخاصة مجموعة المماليك المقربين من أيبك، والذين أعلنوا الانقلاب على شجرة الدر واقتادوها إلى السجن واحتجزوها بداخله، وعانت السلطانة في محبسها كافة أنواع التعذيب والامتهان، إلى أن تدخل زوجة أيبك الأولى والتي تدعى أم علي ،وأمرت جواريها بالانهيال على شجر الدر بالضرب المبرح فتوفيت بأيديهم، ثم أكملت انتقامها بإلقاء جثمانها من فوق سور القلعة وتركته بالعراء عِدة أيام حتى تعفن، ثم أمرت بدفنه في مكان غير معلوم.
أثرها وذكراها :
رغم النهاية المآساوية خُلِدت ذكرى شجر الدر ،باعتباره واحدة من أقوى النساء على مر العصور، وتحظى شخصيتها بمكانة عالية في التراث العربي، ويضرب بها المثل في الحكمة والقوة والدهاء، وتوارثت الأجيال العربية قصة شجر الدر ومنهم من أضفى عليها جانب من الخيال، فبالغ في قوتها وقدرتها على المراوغة والتلاعب بخصومها.
أضف تعليق