دكتور مصطفى محمود هو اسم يعشقه المصريين خاصة والعرب عامة، على اختلاف مرجعياتهم ومستوياتهم الثقافية والتعليمية، فالمتدينون منهم يحبون مصطفى محمود مجادل الملحدين والمتصدي لهم، والعلماء والمثقفين يعشقون مصطفى محمود العالم والفيلسوف والطبيب والأديب، والبسطاء يدعون ليل نهار لرجل أعمال البر، الذي أقام مسجداً ومراكز تقديم الخدمة العلاجية للفقراء بالمجان. اختصاراً إن صنعنا قائمة بأكثر عشرة شخصيات تأثيراً في التاريخ المصري المعصري، فحتماً ستضم القائمة اسم دكتور مصطفى رحمه الله، ولربما تصدر تلك القائمة وجاء على رأسها.
مصطفى محمود .. من هذا ؟
إنجاز دكتور مصطفى محمود الحقيقي يكمن في منهجه الذي اتبعه وأرسى قواعده، وهو إن إنجاز الإنسان يحسب بما يقدمه خلال الفترة ما بين ميلاده وحتى وفاته، على أن يكون ذلك بهدف تحقيق النفع للبشرية لا سعياً وراء تحقيق مجد شخصي، وقد قدم لنا هذا العالم الجليل الكثير فكان بالتالي له العديد من الإنجازات، فتحقق له المجد وإن لم يسع هو خلفه.
الميلاد والنسب :
ولد مصطفى محمود في السابع والعشرين من ديسمبر 1921م، وذلك بقرية صغيرة تدعى ميت خاقان تابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية المصرية، واسمه بالكامل مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، وهو ينتسب إلى الأشراف إذ أن نسبه ينتهي إلى علي زين العابدين، وحين بلغ مصطفى محمود عمر الثامنة عشر وتحديداً في 1939م توفي والده، بعد أن عانى لسنوات عديدة من الشلل، وفقدانه لوالده وهو في مقتبل شبابه ترك في نفسه جرحاً غائراً.
التعليم وعقدة الطفولة :
على الرغم من إن دكتور مصطفى محمود منذ شبابه وحتى وفاته كرس حياته بالكامل للتعليم والبحث العلمي، وكان دائم الحديث عن أهمية العلم وإنه السبيل الوحيد للارتقاء بالأفراد والأمم، إلا إن مستقبله التعليمي كله كان مهدداً في طفولته بسبب مُعلم واحد، فمنذ أن التحق في طفولته بالمدرسة عُرف عنه الالتزام والتفوق الدراسي، خاصة في المواد في العلمية، ولكنه في إحدى الأيام تعرض للضرب والإهانة على يد مُعلم اللغة العربية، الأمر الذي أصابه بعقدة نفسية فانقطع عن الدراسة لمدة ثلاث سنوات كاملة، إلى أن انتقل ذلك المعلم إلى مدرسة أخرى، فعاد وانتظم مجدداً في الدراسة، إلى أن التحق في النهاية بكلية الطب وتخصص في دراسة الأمراض الصدرية.
المشرحجي :
كان مصطفى محمود دائم التأمل والتساؤل، حتى إن زملائه في كلية الطب أطلقوا عليه اسم (المشرحجي)، وذلك لإنه كان يقضي وقتاً طويلاً داخل مشرحة الجامعة في تأمل الجثث، فلم يكونوا يدركون إن زميلهم تساوره تساؤلات عديدة حول أسرار الحياة والموت والبعث، وكان تأمله الطويل لأجساد الموتى نوع من التفكُر ومحاولة لكشف هذه الأسرار.
وجود الله وماهية الكون :
أكثر شىء شغل ذهن الدكتور مصطفى محمود في شبابه هو البحث عن ماهية الكون ودليل وجود الله عز وجل، وقد انتاباته العديد من الشكوك حول كلا الأمرين، واستمرت رحلته مع الشك طيلة ثلاثين عاماً تقريباً، قضاهم في البحث والتحليل والتامل والتفكير، واطلع على مختلف الديانات ابتداءً بالأديان السماوية الثلاثة وانتهاءً بالأديان الوثنية إلى بلغ اليقين، وقد سجل بنفسه هذه التجربة وروي تفاصيلها في كتابه الأشهر رحلتي من الشك إلى اليقين، وتلك التجربة كان لها عظيم الأثر في تكوين شخصية دكتور مصطفى التي عرفناها من خلال كتبه وبرامجه التلفزيونية، إذ إنها أكسبته الخبرة وشكلت وعيه ووسَعت أفاقه.
الأسلوب الأدبي المميز :
امتلك دكتور مصطفى محمود أسلوباً أدبياً مميزاً، إذ كان لديه قدرة بديعة وعجيبة على إحداث توازن ما بين العمق والبساطة، فقد كان يناقش أعمق وأعقد الأمور بأسلوب سهل وبسيط، يجعل كتاباته سهلة الاستيعاب من قبل شريحة واسعة من المتلقين على اختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية والتعليمية، كما يمتاز بحفاظه على عنصر التشويق، وهو ما يجعل كتاباته أكثر جذباً للقراء.
تنوع الإنتاج :
ليس الأسلوب وحده هو ما كفل لكتابات دكتور مصطفى محمود الثقافي التميز، بل إن تنوع الموضوعات التي تناولها من خلالها يعد من أهم عوامل الجذب المتوفرة بها، فقد بلغ عدد كتب مصطفى محمود حوالي 90 كتاباً، تنوعت ما بين الكتب الدينية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، وفي أحيان كثيرة كان يدمج بين أكثر من نوع في الكتاب الواحد، وهذا بخلاف عدد من القصص والروايات والمسرحيات.
حلم العلم والإيمان :
كان تقديم برنامج العلم والإيمان حلماً بالنسبة للدكتور مصطفى محمود ،وقد أعد دراسة عنه وقدمها إلى إدارة التلفزيون المصري لإنتاجه، وبالفعل حظي المشروع بإعجاب المسئولين داخل التلفزيون ولكنهم رصدوا له ميزانية ضئيلة جداً، قدرت بثلاثون جنيهاً لإنتاج الحلقة الواحدة، ورأى دكتور مصطفى إن تلك الميزانية غير مرضية لطموحاته، ولن تمكنه من إخراج البرنامج بالصورة التي في مخيلته، فأهمل فكرة تقديم البرنامج كلياً، ولكن الخبر قد وصل لأحد رجال الأعمال وأعجب بفكرة البرنامج، فقرر أن يقوم بتمويله من خلال شركته الخاصة، وبالفعل تعاقد مع دكتور مصطفى محمود على إعداد وتقديم البرنامج، الذي حقق نجاحاً باهراً عن عرضه على الشاشات، وكان يتابعه بشغف ملايين المشاهدين بمختلف الدول العربية، وقد تم تقديم حوالي 400 حلقة من ذلك البرنامج، الذي لا زال يحقق نسبة مشاهدة عالية حتى اليوم على شبكة الإنترنت.
الزواج والابناء :
مر دكتور مصطفى محمود خلال حياته بتجربتين زواج، للأسف كلاهما انتهيا بالفشل والانفصال.. زواجه الأول كان في عام 1961م واستمر حتى عام 1973م، وقد رزق من زوجته الأولى بولديه أدهم وأمل، وبعد عشر سنوات من انفصاله عن زوجته الأولى، خاض تجربة الزواج مجدداً من السيدة زينب حمدي في عام 1983م، ولكن تلك الزيجة استمرت لفترة أقل من سابقتها، لتنتهي هي الأخرى بالطلاق في عام 1987م، ومنذ ذلك الحين عاش دكتور مصطفى محمود أعزباً مكرساً حياته للكتابة والبحث العلمي فقط.
الوفاة والصدمة :
في صباح السبت الموافق الحادي والثلاثين من أكتوبر لعام 2009م توفي دكتور مصطفى محمود ،بعد أن قضي الشهور الأخيرة من عمره في صراع مع المرض، وكان عمره آنذاك يناهز الـ 88 عاماً، وتم تشييع جثمانه من المسجد الذي أقامه في المهندسين وحمل اسمه، وحضر الجناز عدد كبير من محبي العالم الجليل وتلاميذه، ولكن لم يحضر مراسم التشييع والدفن أي من المشاهير، كما غاب عن العزاء ممثلي الدولة، على الرغم من أن المتوفي قامة من القامات المصرية، وكذلك وسائل الإعلام تجاهلت نبأ وفاة دكتور مصطفى محمود إلا القليل منها، وهو ما شكل صدمة بالنسبة لأسرته ومحبيه.
كوكب مصطفى محمود :
ليس غريباً أن يتم تكريم العلماء، وذلك يكون بمنحهم الجوائز وشهادات التقدير، أو عن طريق إطلاق اسم العالم على الشوارع والميادين أو المراكز العلمية، ولكن مصطفى محمود كان عالماً فريداً فكان لابد أن يُكرم بأسلوب فريد، وهو ما تم في عام 2009م، حين تم اكتشاف كويكب ضمن حزام الكويكبات الرئيسي بواسطة علماء محطة زيلنشوكسكايا الفضائية، وأطلق على ذلك الكويكب اسم مصطفى محمود 296753، تيمناً باسم العالم المصري وتكريماً له.
أعماله الإنسانية :
أقام دكتور مصطفى مسجداً بحي المهندسين اسماه باسم والده (مسجد محمود)، ولكن بسبب شهرته أهمل الناس الاسم الرسمي للمسجد، وراحوا يشيرون إليه باسم مسجد مصطفى محمود ،وملحق بذلك المسجد ثلاث مراكز طبية تقدم الخدمات العلاجية لمحدودي الدخل بالمجان، كما أشرف على إقامة ما اسماه قوافل الرحمة، والتي تتكون من ستة عشر طبيباً في جميع التخصصات تقدم الخدمات الطبية للفقراء ومحدودي الدخل، وكذلك أقام أربعة مراصد فلكية ومتحف جيولوجي ومتحفاً للصخور الجرانيتية لخدمة البحث العلمي.
أضف تعليق