ابن رشد أو أبو الوليد محمد بن رشد، هو عالم عربي موسوعي، برز في أكثر من مجال علمي، فهو الطبيب والفلكي وفقيه ديني وفيزيائي بجانب عمله بالقضاء، ولكن في النهاية فإن ابن رشد عادة ما يُحسب على الفلاسفة، وذلك ليس لإنه كان أقل تفوقاً أو تميزاً بالمجالات الأخرى، إنما لأنه لم يكن فيلسوفاً تقليدياً، فهو لم يكتف بإثارة الأطروحات وبحث المشكلات الوجودية وتحليلها وإيجاد تفسير عقلي للظواهر، بل إنه كان بالنسبة للفلسفة سيف وبالنسبة للفلاسفة درع، فقد حمل منفرد لواء الدفاع عن الفكر الفلسفي في مواجهة الهجوم الظلامي، الذي اتهم عَدّ لفظ الفلاسفة مرادفاً للفظ الكُفر، هذا بجانب كتبه التي قام من خلالها بشرح فلاسفة اليونان، وبصفة خاصة أعمال أرسطو والتي استغرق شرحه لها قرابة ثلاثون عاماً.
ابن رشد .. من هذا ؟
جورج سارتون والمُلقب بأبو تاريخ العلوم حين يتحدث عن ابن رشد يقول: “عظمته تتمثل في الضجة الهائلة التي أحدثها في العقول، وإن تاريخ الرشدية وتأثيرها قد دام لأربعة قرون كاملة، هي المرحلة التي يطلق عليها اسم العصور الوسطى، مما يعني أن أفكار ابن رشد بمثابة مرحلة انتقالية بين القديم والحديث”.. ألا يستحق أن نتوقف أمامه ونسأل ” من هذا ؟! “
المولود عظيماً :
ربما كان قدر ابن رشد أن يكون شخصاً عظيماً ذو شأن، فإن ذلك ليس بأمر غريب عن العائلة التي يندرج منها، وكأنهم يصنعون التأثير بفعل الجينات الوراثية!.. ففي العام الميلادي 1126 كان ميلاد الفيلسوف العربي، لعائلة أندلسية عريقة وبارزة، فأجداده قد شغلوا العديد من المناصب في زمن الدولة المرابطية، أما والده فقد كان من علماء الفقهاء والمفسرين وكان يُدرس في جامع قرطبة، وفي وسط هذه الأجواء المهيبة نشأ ابن رشد وتكونت شخصيته، فشب طموحاً نهماً إلى العلم والمعرفة، وكأن والده قصد إعداده ليوصل المسيرة التي ابتدأتها العائلة العريقة قبل سنوات بعيدة.
التعليم :
في زمن ابن رشد لم تكن نظم التعليم أكاديمية تقليدية كالتي هي اليوم، لكن الحضارة كانت مزدهرة وأبواب العلم مفتوحة على مصرعيها أمام من يرغب، وربما لم يكن هناك راغباً في العلم آنذاك بقدر ابن رشد ،الذي تلقى العلم من أكثر من مصدر وعلى يد أكثر من عالم، أولهما والده الفقيه الذي دَرّس له مذهب الإمام مالك، كذلك تلقى العلم على يد العديد من فقهاء هذا العصر، أكثرهم تأثيراً فيه الحافظ أبي محمد رزق وأبوجعفر هارون وأبو مروان بن جبرول، بجانب أبي جعفر بن عبد العزيز والذي أجاز لـ ابن رشد بالإفتاء في الدين، كما إنه كان صديقاً مقرباً لابن طفيل، وعلى الرغم من إن علاقتهما اتسمت بالندية كصديقين، إلا إن فيلسوفنا قد تأثر به واستفاد منه، ومن ثم يمكن ضمه إلى قائمة الشخصيات التي تأثر بها ابن رشد أو تلقى عنها العلم.
اسماؤه وكُنيته :
يشتهر الفيلسوف العربي الأشهر باسم ابن رشد ،ولكنه في السابق كان يُعرف باسم ابن رشد الحفيد، للتفرقة بينه وبين جده الذي كان من أصحاب الشأن، إذ أنه كان شيخاً لأتباع المذهب المالكي وقاضياً لجماعته وإماماً لمسجد قرطبة، ثم انضم إلى البلاط وكان مستشاراً لأمراء الدولة المرابطية، فتم إضافة ألقاب “الحفيد” و”الجد” لكلا الرجلين للتمييز بينهما، ولكن مع تراجع شهرة الجد على مر التاريخ، لم يعد هناك حاجة لتميز اسم الحفيد فبات يُعرف باسم ( ابن رشد ) مُجرداً، أما اسمه بالكامل فهو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، وفي المراجع الإنجليزية يسمى Averroes، أما عن الألقاب فالفيلسوف العربي له العديد منها، بعضها كان نسبة لما قام به من مهما أو تولاه من مناصب، مثل الطبيب أو القاضي وخلافه من الألقاب المهنية، ومنها ما ألصق به لإسهامته الفكرية والفلسفية، وأبرز هذه الألقاب بالتأكيد هو لقب الشارح.
تكريم ابن رشد وتخليد ذكراه :
رغم المكانة المرموقة التي بلغها ابن رشد في زمنه، إلا أن زمنه لم تكن معروفة فيه التكريمات والأوسمة، وبالتأكيد لو كانت كذلك لكان قد نال جميعها عن جدارة، لكن فكر ابن رشد عاش وكتب لصاحبه الخلود، ومن ثم فقد تم تكريمه وتخليد ذكراه بأشكال عدة، بل إن اسم ابن رشد كان دائم الترديد في كل عصر وكل آوان، ومن أمثلة ذلك:
- الكوميديا الإلهية : في القرون الوسطى ذاع صيت ابن رشد في أوساط الأوروبيين، وحين كتب دانتي انشودته الرابعة عشر من الكوميديا الإلهية، فقد ورد بها ذكر الفيلسوف ابن رشد مع الفلاسفة العظماء، ممن لم يعاصروا المسيحية أو بمعنى أدق لم يتم تعميدهم بحسب تصنيف دانتي.
- مدرسة أثينا : هي واحدة من أروع وأشهر اللوحات الفنية في التاريخ، والتي تم إبداعها بريشة رائد عصر النهضة رافائيل، وقد صور فيلسوفنا في هذه اللوحة بزيه العربي واقفاً بصحبة فيثاغورث عالم الرياضيات الشهير.
- فيلم المصير : في عام 1997م قدم المخرج يوسف شاهين فيلمه “المصير”، والذي صور إحدى مراحل حياة الشارح الكبير وصدامه مع القوى الظلامية، وجسد شخصيته خلال أحداث الفيلم العملاق الراحل نور الشريف.
- الكويكب : لا يجب أن نغفل إن ابن رشد كان أيضاً عالم فلكي، وتقديراً لإسهاماته عامة وإسهاماته في هذا العلم بصفة خاصة، تم إطلاق اسمه على كويكب كنوع من التكريم والتعبير عن الامتنان، وهو الكويكب ابن رشد8318.
حياته الشخصية :
منذ أن سطع نجم ابن رشد في سماء العلم والفلسفة، طغى الاهتمام بالعالم على الإنسان، وعليه فلم يهتم أي من معاصريه أو من تلو عصره مباشرة، بتدوين الكثير عما يتعلق بالحياة الشخصية للفيلسوف الأندلسي، فمن المُعتقد والمُرجح إنه كان لديه العديد من الابناء، ولكن المثبت بالمراجع التاريخية إن كان له ابناً وحيداً، ورث عن أبيه براعته في الطب، ولم تذكر المصادر حتى اسم هذا الابن، أما الزوجة فقد كانت تدعى زينب وهذا هو كل المتوفر عنها، بجانب المعلومة القائلة بأن ابن رشد لم يتوقف عن التدوين والدراسة طيلة حياته سوى يومين، يوم أن أقيم عُرسه ويوم وفاة أبيه.
إنجازه الفلسفي :
إسهامات أو إنجازات ابن رشد بالغة التنوع والتعدد ولا يمكن حصرها، ولكن في النهاية يبقى الإنجاز الأكبر في حياته الزاخرة، هو استطاعته التوفيق بين الفكر الفلسفي وبين أحكام الشريعة الإسلامية، وقد تمكن بهذا من الدفاع عن الفلسفة والفلاسفة، والتي كانت تتعرض في هذه المرحلة لهجمة شرسة، بلغت حد إصدار الفتاوى الدينية بتكفير الأفكار الفلسفية والمشتغلون بها.
الوفاة والإرث :
العملاقة من أمثال أبو الوليد بن رشد لا يموتون، إنما أجسادهم وحدها هي ما تبلى وتفنى، أما أفكارهم ورسالتهم وعلمهم يُخَلد ويُخَلِد أصحابه، وقد رحل عن عالمنا الفيلسوف الأندلسي في 1198م، تاركاً للإنسانية إرث ضخم من الكتب في شتى مناحي العلم، وأبرز القطع في كنز ابن رشد هي ما عُرف بالشروحات، أي الكتب التي قام فيها بشرح فلسفة الفلاسفة اليونانيين القدامى، وقد ترك الفيلسوف العربي هذا أثراً في مختلف الثقافات التي عاصرته أو التي تلته، وحتى اليوم يحظى ابن رشد باحترام وتبجيل العالم الغربي، الذين لا يذكرونه باسمه إنما بلقبيه “الشارح” أو “العملاق”، وهم بذلك يضعونه في مرتبة متقدمة على فلاسفة عظام مثل أفلاطون وأرسطو وغيرهما.
أضف تعليق