أمل دنقل هو واحد من أشهر الشعراء في تاريخ الأدب المصري والعربي، كلماته الصادقة نفذت إلى القلوب بسهولة ويسر فحُفِرت بداخلها، ورغم إنها نُظِمت قبل عقود طويلة نجد أنفسنا نستعدها من حين لآخر، ودليل ذلك هو إن أمل دنقل المتوفي في عام 1983م، كان حاضراً من خلال قصائده في ثورات الربيع العربي التي اندلعت قبل سنوات معدودات، فلم يكن دنقل شاعراً عابراً بل كان شاعراً استثنائياً، ترك أثراً في دنيا الشعر دام لعقود بعد رحيله وتغنى العرب بأشعاره جيل بعد جيل.
أمل دنقل .. من هذا ؟
أمل دنقل هو أحد أشهر شعراء اليسار وربما أشهرهم على الإطلاق، فكيف بلغ هذه الشهرة؟ ولماذا يعد أحد رموز الفن الثوري؟
الميلاد والاسم :
اسمه بالكامل هو محمد أمل فهيم أبو القاسم محارب دنقل، ولكنه عُرف في عالم الأدب والشعر باسمه المختصر ( أمل دنقل )، والذي قد وُلِد في صعيد مصر وتحديداً في مركز قفط التابعة لمحافظة قنا المصرية، وكان ذلك في عام 1940م، ونشأ أمل دنقل في كنف أسرة صعيدية متوسطة الحال، ذات سمعة طيبة وتحظى باحترام أهالي مركز قفط، وذلك لأن والده فهيم دنقل كان أحد رجال الدين الإسلامي وعالم من علماء الأزهر الشريف، وعمل ولده له علاقة بالاسم الغريب الذي أطلقه على ابنه، فاسم (أمل) يُطلق عادة في البلاد العربية على البنات، ولكن في العام الذي وُلد به شاعرنا نال والده إجازة العالمية، وهي شهادة تصدر من جامعة الأزهر تعادل شهادة الدكتوراه الأستاذية، فقرر أن يُسمي مولوده باسم أمل، وحين جاء المولود ذكراً لم يثنه هذا عن قراره فاسماه اسماً مركباً هو محمد أمل، ولكن هذا لم يُغير من الأمر شيئاً، فبسبب شيوع اسم محمد بدأ الناس ينادون الطفل باسمه الثاني أمل، حتى إن غالبيتهم تناسى إنه في الأصل يحمل اسماً مركباً، فعاش ومات واشتهر وخُلِد ذكره في تاريخ الأدب العربي باسم أمل دنقل
تأثر أمل بوالده :
كانت علاقة أمل دنقل بوالده علاقة وقوية ووطيدة، حتى إن الوالد فهيم أبو القاسم دنقل كان سبباً مباشراً في اتجاه ابنه إلى الشعر، فقد أحبه في أول الأمر من خلاله؛ إذ أن الوالد كان يهوى نظم الشعر العمودي، وكان أمل الصغير يسمع أشعاره ويتذوق أشكالها البديعية ومظاهرها الجمالية، ويسأله عن المعنى المراد من وراء القول إن لم يستوعبه، ومع كل بيت كان يكتبه الوالد كان يزداد الطفل تعلقاً بالشعر.. بجانب هذا فإن الوالد كان مثقفاً، وكان بيته يضم مكتبة ضخمة تحتوي على عدد كبير من الكتب القيمة، وبالأخص الكتب المتعلقة بعلوم الشريعة والفقه والتفسير، بجانب كم كبير من الكتب الأدبية، مما أتاح لـ أمل دنقل فرصة التعرف على التراث الثقافي العربي في سن مبكرة، وساهم بشكل مباشر في تشكيل شخصيته ورؤيته ووعيه.
تأثره برحيل والده :
حين بلغ أمل دنقل سن العاشرة تقريباً رحل والده عن دنيانا، ومَثلت هذه الواقعة صدمة شديدة بالنسبة لأمل الصغير، خاصة وإنه كان شديد التعلق بوالده، وظل متأثراً بفراقه حتى وفاته، ويظهر ذلك بوضوح من خلال أشعار أمل دنقل ،والتي دوماً ما نجدها مكتسية بمسحة من الحزن والشجّن، ويرى بعض النقاد إن هذه التجربة القاسية وهي فقدان الأب في تلك المرحلة المبكرة من العمر، رغم إنها تجربة قاسية بكل المقاييس، إلا إن تأثيرها على أمل وانفعاله بها انعكس بشكل إيجابي على إنتاجه الأدبي، إذ أن أشعاره تميزت بصدق وقوة العاطفة؛ حيث كانت نابعة من تجربة شعورية وليست مصطنعة، واضطر أمل بعد وفاة والده إلى ترك كلية الآداب قبل إتمام دراسته بها، وعمل بعدة وظائف ليتمكن من إعالة نفسه.
الشعر السياسي :
عند الحديث عن العلاقة بين الأدب والسياسة فلابد من ذكر اسم أمل دنقل ،فهو من أعمدة هذا اللون الأدبي وأحد رموزه، فقد استطاع دنقل ببراعته المعهودة من تطويع أدواته الفنية لخدمة قضاياه السياسية، فكانت كلماته بمثابة سوط يلهب به ظهر الظلم والقمع، وتشبيهاته سيف ودرع يدافع بهما عن الحقوق والحريات، وقد ذاع صيت أمل دنقل بصفته من أشد المعارضين لعدد من قرارات الرئيس أنور السادات، وخاصة لخطوة إبرام معاهدة السلام مع الجانب الإسرائيلي والتي تعرف باسم معاهدة كامب ديفيد، وفي تلك المناسبة نظم دنقل قصيدته الشهيرة بعنوان لا تصالح، فخلد بأبيات شعره موقفه المعارض للسلام مع العدو الصهيوني، وتكرر الموقف نفسه خلال التظاهرات الحاشدة المعترضة على رفع الأسعار، والتي تعرف باسم انتفاضة الخبز بعام 1977م، حيث كان ضمن المحتشدين في ميدان التحرير، وعبر عن المشهد التاريخي بقصيدته الرائعة الكعكعة الحجرية، ولم يقتصر النضال الشعري لدنقل على القضايا المصرية وحدها، بل إنه تناول بالعديد من القضايا القومية العربية من خلال أشعاره، فلن نبالغ إن قولنا بإن دنقل مؤرخ من طراز خاص، اتخذ من أبيات الشعر وسيلة لتأريخ الأزمنة التي عاصرها.
أمل وعبلة :
قصة حب أمل دنقل وزوجته عبلة الرويني يتغنى بها الوسط الأدبي المصري حتى يومنا هذا.. فقد كانت عبلة الرويني لا تزال متدربة شابة بصحيفة الأخبار، وقررت أن تتعدى كافة الخطوط الحمراء وتجري حواراً صحيفاً مع الشاعر أمل دنقل ،وهي مخاطرة كبيرة بالنسبة لصحفية شابة، إذ أن دنقل كان معروف عنه توجهاته اليسارية وكثرة معارضته للنظام الحاكم. فتوجهت إلى مقهى ريش، تلك المقهى عتيقة الطراز القريبة من ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، والتي اعتاد دنقل التواجد بها أغلب الوقت، ولما تكرر ترددها على المقهى ولم تجده تركت له رسالة مع أحد العاملين، ففوجئت به باليوم التالي يهاتفها على الرقم الذي تركته بتواضع جم، وحدد معها موعداً بدار الأدباء لإجراء الحوار، وتقول عبلة الرويني في كتابها الذي رصدت فيه قصتها مع أمل ،إن منذ اللقاء الأول انعدمت بينهما المسافات وسقطت الأقنعة، وانتهى مقابلتهما وهي تشعر وكأنه صديق لها تعرفه منذ زمن، وتكررت اللقاءات وزاد التقارب فنشأ الحب، وبعد فترة أعلنا في 1979 زواجهما الذي استمر حتى وفاة أمل في 1983م.
الأصالة العربية :
من أهم إنجازات أمل دنقل الشعرية هو إنه أعاد الأصالة إلى الشعر العربي، ففي زمنه كان أغلب الشعراء إن لم يكن جميعهم، متأثرون بشكل بالغ بالميثولوجيا اليونانية، فجاء أمل واستمد قصائده من رموز وشخصيات التراث العربي، فكان واحد ممن ساهموا في الحفاظ على الهوية الشعرية المصرية خاصة والعربية عامة.
الشعر والمرض والوفاة :
يبدو إن أمل دنقل لم يكن يجيد التعبير عن أي شىء إلا من خلال أبيات الشعر، بما في ذلك آلام المرض ومعاناته، ففي سنوات عمره الأخيرة أصيب دنقل بمرض السرطان، وعانى من آلامه لمدة قاربت الأربع سنوات تقريباً، واستلهم من هذه التجربة الأليمة كتاباته التي أطلق عليها اسم أوراق الغرفة 8، والغرفة 8 هي الغرفة التي كان يتلقى بها العلاج داخل معهد الأورام، وفي الحادي والعشرون من مايو لعام 1983م تخلص دنقل من معاناته مع المرض بالرحيل عن عالمنا، وكانت آخر القصائد التي نظمها على فراش المرض هي قصيدة الجنوبي، وشكلت وفاة أمل دنقل صدمة لكامل ابناء الوسط الأدبي ومتذوقي الشعر بشكل عام، وقد نظم العديد من الشعراء قصائد الرثاء لأجله، كما نعاه عدد كبير من الأدباء والمثقفين.
أضف تعليق