قصة سنوحي هي أسطورة فرعونية قديمة مع إن البعض يقول إنها حقيقية وحدثت في زمن الأسرة الثانية عشر. واسم سنوحي جاء من الاسم المصري الفرعوني “سا نهيت” ولكنه تطور مع الوقت في مختلف الأدبيات المصرية التالية، وقصة سنوحي من أشهر القصص في الأدب الفرعوني ويدل على مدى إتقان الأدب في تلك الفترة. في هذا المقال سأتكلم أكثر عن قصة سنوحي وعن جوانبها الأدبية وسأرويها لك بشكل مختصر فتابع معي.
قصة سنوحي من الألف إلى الياء
مخلص قصة سنوحي
تبدأ القصة بسنوحي الصغير الذي ولد في عصر الفرعون الظالم والطاغي أمفسيس وكان الكل قد طاله من ظلمه نصيب، وكان والد سنوحي طبيب مشهور في البلاد وذو علم واسع وأملاك كثيرة ولكنها صودرت لأن أمفسيس كان رجلاً يحب الامتلاك وظالم، بالإضافة إلى حربه مع النوبة التي خاسرها وخسر معها خمس شعب مصر آنذاك. وأحرق الكثير من الأراضي من جنونه وخرب أملاك كثيرة في مصر وفي النوبة. ورأى سنوحي وهو مار بأحد الأيام رجلاً مرمي بالطريق وقد قطعت يداه ورجلاه وكله مشوه ولا يوجد به منطقة لم تطعن بالسيوف وكان ينزف دماءً كثيراً، فأخذه سنوحي إلى أبيه وراعاه وحين فاق بعد بضعة أيام أخبره بقصته التي كانت مؤلمة جداً. هذا الرجل اسمه أخناتون وكان يملك بعض الأراضي ولديه نساء وأطفال فأمره أمفسيس بالتخلي له عن كل أملاكه بما في ذلك النساء والأطفال ليأتوا له في القصر ويخدموه، فوافق أخناتون مجبراً وطلبه الوحيد كان أن يترك له بيته وعشر ما يملك من ذهب وفضة حتى يستطيع أن يعيش. ولكن الفرعون الظالم غضب من طلبه واعتبره بجاحه منه، وأمر حراسه بقطع أقدامه ويداه ورميه على الطريق عارياً ليكون عبرة. وكان حاقد جداً على الفرعون ويتمنى لو أحداً ينتقم له.
تكمل قصة سنوحي بعد ذلك الموقف بعد فترة سنين حين مات هذا الفرعون الظالم وكان هو كطبيب يقف بين الأطباء لإتمام مراسم الجنازة، لأن بذلك الوقت كان سنوحي رجلاً مهماً بالبلاط الملكي. وكان يسمع أناشيد الكهنة التي تشيد بعظمة وطهارة وعدل أمفسيس وكيف كان باراً بالفقراء ورفيقاً على شعبه، وأنه اليوم قد انضم للآلهة الكبار وأصبح واحد منهم وأصبحت أعضاءه متصلة بهم. وبالطبع كلها هرطقة لأن ذلك ما يفعلوه الكهنة للتلاعب بعقول الشعب، وأيضاً بسبب أنهم كهنة لا يدرون بمعناة الشعب العادي أبداً فهم في معابدهم وكل شيء يأتي لهم كما يطلبون وأكثر، ويستغلون أفكار الآلهة على الشعب الجاهل. الغريب أن سنوحي رأى من بعيد رجلاً معوقاً وحين دقق النظر وجد أنه بالفعل أخناتون الذي عالجه من قبل، فأسرع إليه وهو محمول على حمار ووجده يبكي، فسأله سنوحي عن سبب بكاءه وهل هي للفرحة على التخلص من ذلك الظالم؟ والعجيب أن رده كان بالنفي وقال لسنوحي أنه لم يكن يعرف أنه فرعون طاهر وأنه اليوم سيأخذ حقه في كونه إله، وإنه يكره نفسه لأنه حمل في قلبه ضغينة لذلك الرجل العظيم ويتمنى لو أنه يسامحه فأكيد هو كان شريراً لذلك عاقبه الإله وأنه يستحق ما فعله به. مع سماع ذلك الكلام ورؤية منظر الرجل المعوق كان سنوحي في أشد الحيرة، وكيف يتم التلاعب الكامل بعقل أخناتون بهذه الطريقة من قبل كهنة دجالين أكثر من الفرعون الظالم. ومن لم يكن أخناتون هو الوحيد المتلاعب بعقله بل كل البلاد كان ينوح هذا الملك بالبكاء والرثاء.
بعد أن مات أمفسيس حكم بعده الفرعون أمنمحات الأول مؤسس الأسرة الفرعونية الثانية عشر، وهو نوبي من جهة أمه وأفطس الأنف. وكان رجلاً عادلاً ويريد إجراء الكثير من الإصلاحات بالبلاد فنقل العاصمة من طيبة إلى إثيت تاو. وأعاد الممتلكات المسلوبة إلى أصحابها بما في ذلك أبو سنوحي فعادت لسنوحي أملاكه ولكنه تبع وصية أبوه في حيازة مكانة داخل البلاط الملكي ومتابعة كونه طبيباً للعائلة الملكية، فكان الطبيب الخاص للأميرة نفرو زوجة سنوسرت الأول الوريث القادم على العرش. الفرعون أمنمحات الأول دخل حرب ضد الليبيين وانتصر عليهم وحين طلب منه الشعب تحديد من يكون وريثه اختار سنوسرت مع أنه الابن الأصغر لأمنمحات بعد آني والذي كان سنوحي يفضله هو عن سنوسرت ويتمنى أن يكون الملك، هو وزوجته نورا الليبية الأصل. وفي ليلة من الليالي سمع سنوحي صوت ضعيف بين اثنين يتكلمون عن خطة تبدو وكأنها لاغتيال الملك أمنمحات، ورأى سنوحي أن أحد الطرفين كان سنوسرت الوريث للعرش، وبعد هذا الموقف بفترة قصيرة تم إعلان وفاة الملك أمنمحات فجأة دون أن يكون مريض مسبقاً أو أي شيء. وبعدها أعلنوا سنوسرت الفرعون الجديد على كل مصر.
بسبب رعب سنوحي من الملك الجديد سواء لاحتمالية أنه عرف بأن سنوحي قد يعرف بأمر القتل المدبر، أو لمعرفة ميول سنوحي نحو آني الأخ الأكبر، قرر سنوحي الهروب من مصر إلى بلاد أخرى. ويصف سنوحي في قصته (إذ إن قصة سنوحي تعتبر من أدب السيرة الذاتية)، أن هروبه من مصر لم يكن سهلاً أبداً فتنقل من جزيرة إلى جزيرة في البحر (تعرف اليوم بالبحيرات المرة) وكان كثيراً يختبئ وراء شجرة الجميز، وكان يذوق الموت من العطش والوهن وقلة الطعام على حد تعبيره. حد جاء بالأخير لشيخ قبيلة يعرف المصريين ويتكلم لغتهم فراعاه وقدم له الأكل واللبن. ومن ثم تنقل سنوحي من بلد لبلد على أنه طبيب يساعد الفقراء حتى وصل بالأخير إلى بلد تسمى رتنو في شمال سوريا، وكان حاكمها رجل عظيم ولديه مشاكل كثيرة مع الفرعون المصري يسمى منشي بن آمو، فأحب سنوحي وجعله طبيبه الخاص بعد أن حكى له قصته وأنه لم يكن فاراً من قضية أو من تهمة بل هو مظلوم. وبعد فترة زادت أملاك سنوحي وتزوج من ابنة الحاكم فكام له صيت كبير في القصر وتولى مهام عسكرية أيضاً.
وبعد سنين من تلك الأحداث تبدأ قصة سنوحي تأخذ منحى أخر لأن الحاكم السوري قرر محاربة الفرعون المصري سنوسرت. وكان على سنوحي اختيار جانب يحارب معه، فأحس بالحنين إلى بلاده وإلى موطن ميلاده وأن فراق مصر أصبح ثقيل جداً وتمني لو أن الفرعون يمن عليه بالمغفرة ويسمح له بالعودة ليخدم أمته وأهل الملك. وكان الجيش السوري يمتلك أسلحة أكثر تقدماً وهي السيوف الحديدية لأن الجيش المصري كان مازال يستخدم الخشب في صناعة السيوف. فأرسل سنوحي رسالة عاجلة إلى ملك مصر يرجوه فيها مقابلته وأرسل في الرسالة واحداً من تلك السيوف. فسمح سنوسرت له بالمقابلة ووصف المقابلة بأنها كانت عظيمة ومهيبة، فسرد سنوحي قصته أمام الملك وطلب المغفرة لهروبه بسبب خوفه منه وبأنه جلب هذا السيف دليلاً على طاعته وطلبه الوحيد هو الأمان له ولأسرته.
تنتهي قصة سنوحي بفوز ملك مصر في الحرب بسبب السيف الذي تم صنع مثيله للجيش المصري، فأحب سنوسرت سنوحي وقرر العفو عنه بل وإعطاءه أملاك في مصر، وأصبح الطبيب لزوجة وأبناء الملك. ووعده بأنه سيقيم له جنازة كبيرة وخصص له كهنته ومقبرة بجانب الأهرامات، ووعد بأنه جثته ستحنط وسيوضع عليها قناع من الذهب والزمرد. وبنى له التماثيل من الذهب والفضة التي تخلد ذكراه، وأقيمت على شرفه الحدائق وهرم من الحجارة. فجلب سنوحي أسرته من سوريا وعاش بطل الحرب في هذا النعيم والخير الملكي كطبيب للعائلة الملكية وسمير للملك، حتى يوم وفاته.
قصة سنوحي في الثقافة المصرية القديمة
قصة سنوحي من أهم القصص أو الأساطير الفرعونية ورغم عدم التأكد من إذا كانت حقيقة أم لا فالمؤكد هو تأثيرها على الأدب المصري القديم والحديث على حدٍ سواء. ففي الأدب القديم من بعد ظهور قصة سنوحي وهو ظهرت منذ ألفي عام قبل الميلاد، تجد المقتبسات منها كبيرة جداً مما يؤكد أنها كانت متأصلة في الأدب الشعبي، وكانوا يستخدموا أشهر مقولاتها التي تدل على الحنين إلى الوطن بعد الفراق ولو كان الرجل يملك ثروة كبيرة بالعالم، وتجد أيضاً بعض القصص المشابهة لأشخاص تركوا وطنهم فارين منه وأنشئوا لأنفسهم أملاك كثيرة في بلاد أخرى ولكنهم عادوا لوطنهم في الأخير ليموتوا فيه.
أما في الأدب المصري الحديث فتعتبر قصة سنوحي من أقرب وأحب الأساطير الفرعونية، بسبب أنها خلدت مرة أخرى حين كتب الأديب نجيب محفوظ رواية بعنوان “عودة سنوحي” مقتبسة من الأسطورة الفرعونية. وفي 2007 تحولت إلى مسلسل كرتوني للأطفال واشتهر في رمضان من ذلك العام كثيراً، وأغنية التتر تعتبر من أشهر أغاني الأطفال الجميلة والتي يرقصون عليها.
تحتوي الأسطورة الأصلية على معاني جميلة بجانب كلامها عن حب الوطن. فمبدئياً اسم سنوحي يعني ابن شجرة الجميز وهي شجرة مقدسة عند المصريين القدماء وهي التي حامته من الشمس في هروبه من مصر، وذلك له معنى ديني خفي داخل القصة. ثانياً تروي القصة عن الكثير من الأشياء المغلوطة في المجتمع وعن جهله في قصة أخناتون، وتزيد الوعي الاجتماعي ونظرة المجتمع للكهنة والفراعنة الملوك الظالمين في بعض الأحيان. ثالثاً بزيارة سنوحي إلى بلاد سوريا وسرده لما فعله وشاهده فهو جلب نوع من أدب الترحال إلى الأدب المصري، والقصة كلها في حد ذاته تعتبر لون جديد من الأدب (أدب السيرة الذاتية) وهو مختلف عن باقي الأساطير مثل إيزيس وأوزوريس أو أسطورة رع والخليقة المصرية القديمة، وهو مكتوب بعناية بطريقة الكتابة الهيروغليفية يدل على مدى إبداع الكتاب الفراعنة، سواء في السيرة الذاتية وكيف يشدك للأحداث ومتابعة القصة أو في الوصف لكل مكان وموقف مر به سنوحي خاصة موقف هروبه من مصر، وكيف أبدع الكاتب في اختيار الألفاظ التي تظهر المشاعر الحقيقية بداخل سنوحي من الحزن والرعب والفرح والتعجب. رابعاً تحتوي القصة على بعض الأخلاق في تصرفات الشخصيات الأساسية والحكم والعبر متقنة الكتابة.
مصدر قصة سنوحي وكيف وصلت لنا
قصة سنوحي جاءت بشكل أساسي من مصدرين، الأول بردية برلين التي احتوت على الكثير من أهم المعارف عن مصر القديمة سواء الأدبية أو الطبية أو حياة الفراعنة، والثاني من كتاب الموتى ونصوص الأهرامات المنقوشة بداخل الأهرامات. وكلا النصوص تكمل بعضها وتوجد أجزاء مفقودة تكملها بعد الاجتهادات لعلماء المصريات، هذا بالإضافة إلى ما سجله بعض المؤرخين بالعصور القديمة الذين احتكوا بالثقافة المصرية القديمة. وتوجد الكثير من القصص التي تشبه إلى حد ما قصة سنوحي في إطارها الخارجي ولكنها مختلفة في التفاصيل، فلم تعتبر نصوص تروي نفس القصة وإنما هي فقط تشابهات في الأدب المصري القديم.
ما أود أن أقوله إن الأدب المصري القديم يحتوي على قصص في منتهى الإتقان الأدبي والفني في سرد القصة. وقصة سنوحي تقف شاهدة وخالدة لذلك الإبداع الكبير. ولا يجب على أي شخص عربي ألا يكون مدرك لقيمتها وتراثها الأصيل أو التخفيف من قدرها.
أضف تعليق