ريا وسكينة هما أختان مصريتان اشتهرتا بارتكابهما العديد من حوادث القتل بغرض السرقة. عند الحديث عن المجرمين والسفاحين والقتلة المتسلسلين ومرتكبي سلاسل القتل الشنيعة قد يأتي على بالنا العديد من العالميين، لكن ما إن تختلط الجريمة ولفظة السفاح بالتاريخ المصري فإن ريا وسكينة يعتليا عرش الجريمة فيها، وليس ببعيدٍ ولا قليلٍ أن يحظيا بهذا اللقب ويتربعا تلك المنزلة بعد أن قيل أنهما كانتا أول امرأتين يتم إعدامهما في التاريخ المصري بتهمة القتل.
ريا وسكينة : القصة الكاملة
ريا وسكينة الأختان السفاحتان الإسكندريتان اللتان رغم مرور قرابة القرن على قصتهما المروعة ما زال أهل الإسكندرية خاصةً المناطق والأحياء الشعبية القريبة والمحيطة بمكان سكن السفاحتين أي حي اللبان وارتكابهما جرائمهما يتحدثون ويتسامرون ويتناقلون تلك القصة كأنها حديثة، وكأن القرار بإعدام الأختين وشركائهما في الجريمة والعصابة السفاحة خرج الآن نضرًا طازجًا للخلق الذين تجمعوا وتجمهروا يومها يشاهدون عمليات الإعدام بحق أول امرأتين في التاريخ المصري بمزيجٍ من السعادة والفرح المختلط بالزغاريد لانتهاء ذلك الكابوس الذي أرق لياليهم وأرجف قلوبهم رعبًا وخوفًا على نسائهم وبناتهم.
من هما ريا وسكينة؟
هما أختان مصريتان عُرفتا بريا وسكينة علي همام كانت بداية حياتهما في الصعيد ثم تنقلتا معًا في أنحاء مصر من الصعيد ثم بني سويف ثم كفر الزيات وفي النهاية استقر بهما المقام في الإسكندرية حيث بدأتا سلسلة الجرائم البشعة التي راح ضحيتها سبعة عشر امرأة، لم يكن لريا وسكينة الفضل الأوحد في تلك الجرائم وإنما كانت عصابتهم تتشكل من ريا وزوجها حسب الله وسكينة وزوجها محمد عبد العال واثنان آخران أُدينا مع العصابة هما عرابي وعبد الرازق، لكن الفضل الأول في جذب الضحية للفخ كان على يد الأختين حيث كانتا تقومان بجذب الضحايا من النساء متقلدات الذهب والجواهر بالخداع والمكر والكلام المعسول حتى تتبعهما لحتفها، وكان لريا ابنةٌ صغيرة تُدعى بديعة اختلفت فيها الأقاويل فقيل أنها عاشت حتى بلغت التسعين وقيل وهو المرجح أنها ماتت بعد إعدام والديها بعام في دار الأيتام الذي كانت تسكنه عندما احترق بكل من فيه وهي من ضمنهم لتموت وهي ابنة الأربعة عشر عامًا.
بداية الأختين
استقرت أم ريا وسكينة في بني سويف حيث تزوجت ريا بحسب الله وكان يصغرها في العمر بينما تزوجت سكينة من رجلٍ نوبيٍّ طلقها بعد ذلك لسوء سلوكها وخيانتها، ومن المعروف أن سكينة كانت من بنات الهوى تعمل في بيوت الدعارة وبحسب المذكور عن تلك الفترة فكانت بيوت الدعارة وبنات الهوى العاملات فيها تُرخص أي لا تكون سرية وتحصل بنت الهوى على رخصة ممارسة مهنتها وتُعرض على المستشفيات بشكلٍ دوريٍ للتأكد من خلوها من الأمراض التناسلية، وكانت سكينة توقفت فترة ثم عادت واحدةً من هؤلاء بعلم زوجها عبد العال بعد تدني الأحوال المادية التي عاشا فيها، كما أنه كان من المعروف عنها أنها صاحبة الكأس وسكّيرةٌ كثيرة الشرب وينطلق لسانها إذا ما سكرت، وكان سكرها وانطلاق لسانها ذاك واحدًا من مخاوف أختها ريا في بداية سلسلة جرائمهم خوفًا من أن يفشي لسان سكينة بسرهم إذا ما تملكت الخمر من رأسها.
جرائم القتل
كما ذكرنا فقد عاشت الأختان وأزواجهما في فقرٍ مدقع وحالةٍ ماديةٍ مزرية وكان ذلك هو الدافع الأول لارتكاب تلك الجرائم المروعة في حق الأبرياء، بدأت تلك السلسلة بخضرة محمد اللامي أولى الضحايا والتي ظهرت آخر مرة على قيد الحياة قبل أن تتعرض للقتل مرصعة اليدين والعنق والأذنين والثياب بالذهب والمجوهرات المختلفة، عندها كان النقاش بين العصابة بعد رؤية إحدى الأختين للضحية وتعالت الاقتراحات بين سرقة خضرة وبين قتلها والحصول على مجوهراتها وترجحت كفة القتل فسقطت أولى الضحايا، ثم تبعها بعد ذلك ستة عشر ضحيةً أخرى اختلفت بين بنات هوى أو نساءٍ كانت الأختان تعملان على جذبهم بالكلام المعسول لبيتهما لتخدرا الضحية، ثم يخرج عليهم أحد الرجال فيخنقها حتى الموت وبعد ذلك يقومون بتجريدها من ذهبها ومجوهراتها ومالها وصيغتها وثيابها ويقوم الرجال بدفنها في البيت بينما تتعالى في الخارج أنباء اختفاء الضحية بين أقاربها وأهل حيها.
ما أشار بأصابع الجريمة للأختين
كان من أوائل ما قيل عن الضحايا عند اختفائهم هو أن بعضهم كان يُشاهد قبل الاختفاء مع إحدى الأختين ريا أو سكينة ثم لا يظهر ثانيةً، كما أنهما اعتادتا على مر سنين إجرامهما بيع الحلي والذهب والمجوهرات بشكلٍ دوريٍّ لأحد الصاغة والذي حُكم عليه في قضيتهما بالسجن لفترةٍ طويلة، لكن من أكثر ما اتسمت به جرأة الأختين أن البيت الأخير والذي اكتشفت فيه أغلب الجثث كان يقع بالقرب من نقطة الشرطة في ذلك الوقت إبعادًا للشبهات عن أنفسهما، فمن ذا الذي سيدفن ثلاثة عشر جثةً في بيتٍ لا يبعد سوى عدة أمتارٍ عن رجال الشرطة! كما اختلفت أماكن إقامتهما وارتكابهما تلك الجرائم ودفنهم لتلك الجثث فكانت سكينة تستأجر الغرف المختلفة ووُجدت أربعة جثث من ضحاياهم مدفونةً في تلك الغرف، بينما كان المقر الرئيسي هو بيت ريا القريب من مركز الشرطة حيث شاع عنها أن العطور والبخور كانا يفوحان من بيتها بشكلٍ أكبر من اللازم وبشكلٍ خاصٍ من إحدى الغرف الصغيرة فيه والتي عجز البخور والعود عن التغطية على رائحة الجثث المتعفنة فيه، بدأت الشرطة باكتشاف الجثث في الأماكن التي استأجرتها سكينة فتتبعوا أختها ريا وفتشوا بيتها لتظهر الثلاث عشرة جثة المتبقية ويتم القبض على العصابة للتحقيق في تلك الجرائم كلها.
بديعة
بديعة الضحية الثامنة عشر لما اقترفته يد أمها وأبيها وخالتها وزوجها فإن كان بقية الضحايا فارقوا الحياة فبديعة هي الضحية الوحيدة التي امتدت معاناتها حتى بعد إعدام أبويها ولم يكن أحدٌ ليشعر بتلك المعاناة أو يلتفت لها في ظل تلك الجرائم المروعة، كانت البنت الوحيدة لريا التي ما لبثت تنجب الأولاد ليموتوا ولم يبقَ على قيد الحياة إلا الفتاة! فلنا أن نتخيل إحساس أبوين نحو ابنةٍ عاشت على ذكورٍ ماتوا في مجتمعٍ كالمجتمع المصري منذ قرن، كان الضحية والشاهدة على تلك الجرائم وقد ساعدت شهادتها كثيرًا في إثبات التهم على العصابة المذكورة حيث استدرجتها الشرطة آنذاك في الحديث بذكاء حتى أقرت واعترفت بكل ما كانت تراه، وأحيانًا من ضمن كلامها كانت تحاول تبرئة أمها بنسب عمليات الخنق والقتل التي كانت تحدث أمام ناظريها لخالتها سكينة بينما تقول أن أمها لم تشارك فيها، ولسنا ندري حقًا إن كان موتها نقمةً أم نعمةً لهذا العالم لأننا لن نستطيع تخيل ما ستؤول إليه حالة طفلةٍ نشأت في بيت سفاحين وما عرفت غير القتل والجريمة والسرقة ودفن الجثث وإخفاء الأدلة، وما سيكون عليه مستقبلها وحالها بعد ذلك وكيف سيصبح تعاملها مع المجتمع إن كانت نشأت في البداية تلك النشأة الغير سوية، بل ربما لكانت بدأت عهدًا جديدًا من القتل المتسلسل على خطى أهلها الذين ما عرفت أهلًا سواهم.
التحقيق في الجرائم ومحاكمة الأختين
في ذلك الوقت لم تكن تصل الكثير من الجرائم الجنائية للمحاكم يكون النساء من مرتكبيها لذلك لم يشع الحكم بالإعدام على النساء وتنفيذه فيهن، لكن ريا وسكينة كانتا الأول من نوعهما وتفردهما بالجرأة وتحجر القلب وارتكاب سلاسل الجرائم بدم باردٍ ولم يجد القضاء بدًا من الحكم عليهما بالإعدام وتنفيذه فيهما ليكونا عبرةً لمن يعتبر ولإنهاء مسلسل الرعب والدم الذي بدأتاه، كما تم رفض كل الطعن أو الالتماسات في تلك القضية لأي واحدٍ من هؤلاء الستة وتم تنفيذ حكم الإعدام فيهم بدايةً من 21 ديسمبر عام 1921، في البداية بالطبع بدأت الأختان بالنفي والإنكار وإنكار علاقتهما بالاختفاء والسرقة والقتل لكن بعد محاصرتهما من قبل الشرطة بالأدلة والبراهين والإثباتات على جرائمهما نضبت جعبتهما من الكذب والمراوغة واعترفتا على نفسيهما وعلى الشركاء الأربعة معهما، شاع أنهما عُذبتا لأجل الحصول على الاعترافات لكن الشرطة رفضت تلك الإشاعة وهاجمتها وقالت أن التعذيب البدني لم يمسس جسد ريا أو سكينة وإنما اكتفوا بالتعذيب عبر الضغط النفسي ومنع ريا عن رؤية ابنتها بديعة كذلك منع سكينة عن الشرب والخمر اللذان أدمنتهما، أما من اعترفت الشرطة بتعذيبه وضربه فكان حسب الله الذي رفض الاعتراف وظل يردد أنه بريء وأنه متزوجٌ من أخرى ويحاول سرد أدلة براءته التي رُفضت وحكم عليه بالإعدام كالبقية واعترف بجرائمه كلها بل وتباهى به في النهاية.
الطريق إلى حبل المشنقة
كان طريق ستتهم إلى حبل المشنقة مختلفًا فمنهم من سار ثابت الجانب واثق الخطى سعيدًا وجريئًا ومتفاخرًا بما ارتكبه، ومنهم من اضطر الشرطة إلى جره جرًا لحبل المشنقة وظل يردد أنه بريءٌ حتى نضبت الحياة من جسده، كان الأربعة الرئيسيون في تلك الجريمة ريا وزوجها وسكينة وزوجها هم أصحاب الجنان الثبات والجرأة أثناء تنفيذ حكم الإعدام فيهم، آخر طلبٍ لريا كان أن ترى ابنتها بديعة لكن بحكم أنها كانت قد رأتها قبل ذلك بيومين فرُفض طلبها ونُفذ فيها الحكم وآخر كلماتها مازحة لمنفذ الحكم وهي تطلب منه الرفق بها أثناء ربط الحبل لأنها امرأة، تلتها سكينة التي أظهرت الجرأة والتحدي أثناء لف الحبل على رقبتها وهي تتباهى وتتفاخر بما اقترفت يداها وقدرتها على إغفال الشرطة وارتكاب الجرائم كما استنكرت تقييدها مدعيةً أنها شجاعة ولن تهرب منهم، حسب الله كان أكثرهم تفاخرًا وقال أنه لو عاد به الزمن وأتيحت له الفرصة لقتلهن ثانيةً وقتل غيرهن وأكثر وحاول في كلماته الأخيرة أن يبرئ عرابي وعبد الرازق من تهمة القتل، ولم يقل عبد العال عنه جرأةً وتبجحًا، كان عبد الرازق أكثرهم خوفًا وجبنًا وظل يولول ببراءته وهو يُجر إلى حبل المشنقة ويحاول الهرب ويردد أنه مظلوم وأنه لم يرتكب أي جريمة ولم يفعل شيئًا حتى شُنق.
الأعمال الفنية في جرائم السفاحتين
بعد الإعدام الذي ظل حديث عقودٍ في ذلك الوقت بحوالي 32 عامًا ظهر العمل السينمائي الأول الذي يُجسد قصة جرائم الأختين ويخلدها في تاريخ الأعمال الفنية، وكان ذلك الفيلم من تأليف نجيب محفوظ هو البداية وحسب، تلاه بعد ذلك العديد من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات والأعمال الأدبية والكتب التي جعلت من تلك القصة مادةً دسمةً لا ينتهي تجسيدها ما بين الحقيقة والفنتازيا.
قولٌ آخر
بعد قرنٍ من الإعدام يظهر رأيٌ آخرٌ مثيرٌ للجدل على يد السيناريست أحمد عاشور الذي يقول أنه أمضى العشر سنواتٍ الأخيرة في دراسة تلك القضية والواقعة وتاريخها والبحث والتنقيب عن واقعيتها ووثائقها الحقيقية ليخرج لنا برأيٍ معارضٍ تمامًا يقول فيه أن ريا وسكينة كانتا مناضلتين مصريتين ولم تكونا سفاحتين وإنما انتشرت تلك القصة على يد الاستعمار والأجانب لتشويه وإرهاب المرأة المناضلة المصرية، وادعى أن التاريخ يكتبه الأقوى لذلك استطاعوا دثر قصتهما الحقيقية وتغليفها بأكذوبة السفاحتين، عارضه الكثير من المؤرخون في ذلك وواجه هجومًا عنيفًا منهم لكنه ادّعى أن بحوزته الوثائق التي تثبت كلامه.
لكن التراث والتاريخ المصري وكل الأدلة والبراهين على السفاحتين وجرمهما لا يبدو كاذبًا أو مشوهًا ولم تلقَ قصة المناضلتين التي ادعاها أحمد عاشور سوى الجدل الواسع والمعارضة، أما في المجمل والواقع فستبقى ريا وسكينة أشهر سفاحتين في التاريخ المصري بأكمله.
أضف تعليق