لا زالت المعجزات تُلقى بظلالها على الكوكب الأزرق، فقد حدثت واحدة من تلك المعجزات في نهاية القرن التاسع عشر، وتحديدًا عندما تم الحكم على الشاب صاحب العشرين ربيعًا جون لي بالإعدام شنقًا، ومع بدء تنفيذ الحكم حدثت المعجزة برفض المشنقة لتنفيذ الحكم، هذا على الرغم من تجريبها أكثر من مرة على الفراغ ونجاح الأمر، إلا أنه عندما يصعد جون على المشنقة كان يحدث الشلل التام بها، المثير حقًا في تلك القضية هو رد الحكومة البريطانية، والتي قررت إلغاء الحكم بالإعدام وتخفيفه إلى المؤبد، لكن، هل يا تُرى كان جون مُذنبًا ويستحق الموت؟ وهل تعاطفت السماء معه؟ وهل المشنقة كانت مُعلقة بالشكل الصحيح؟ كل هذه الأسئلة وأكثر سوف نحاول الإجابة عليها سويًا في السطور القادمة، فهل أنتم مستعدون لخوض تلك الرحلة مع الرجل الذي جرب الموت أكثر من مرة؟
من هو جون لي؟
البداية دائمًا تكون مع البطل، علينا أن نعرف من هو وكيف سارت الحياة معه حتى أوصلته إلى ذلك الحد، والحقيقة أن جون كان يحظى بواحدة من الحيوات التي لا تقود أبدًا إلى نهايات جيدة، فبالرغم من كونه قد ولد في بلد جيدة مثل بريطانيا، دولة عظمى كما يقولون، وبالرغم من أن ذلك المولد قد جاء في وقت مثالي، 1864 ميلاديًا، وقت كانت فيه بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فيكفي أن نقول بأن ثلث قارتي أسيا وأفريقيا كان من نصيب تلك الدولة العظمى، ولم يكن ثمة أحد قادر على مقارعتها سوى فرنسا، وعلى استحياء أيضًا، لكن في النهاية كانت اليد العليا للفقر، والذي ابتُلي به جون وأسرته منذ الطفولة، فهو لم يكن ابن مزارع فقير أو عامل كادح، بل الحقيقة أنه قد ولد يتيمًا، وأمه كذلك لم تمكث طويلًا بعد أن ولدته، لتتركه وحيدًا مع شقيقته الكبرى، وبالمناسبة، تلك الشقيقة تعد نقطة تحول بالقصة.
جون لي ومصاعب الحياة
أي طفل في سن جون، سن الست سنوات، من الطبيعي أن يحلم بأشياء منطقية تُناسبه جيدًا، مثلًا، أن يتمنى فرصة تعليم جيدة، طعام جيد، ملبس جيد، مسكن جيد، حياة جيدة بالمعنى الأدق، ولا نقول مثالية، بل مجرد جيدة يُمكن التعايش بها، لكن حياة جون كانت حياة فقر ووحدة في نفس الوقت، ومن حظه الجيد بعض الشيء أنه كان يمتلك شقيقة تكبره بخمس سنوات، وهي التي كانت تعمل كخادمة في البيوت كي تُوفر لشقيقها ضروريات الحياة، لكن، هل سيبقى الأمر هكذا للأبد؟
مع الوقت، وببلوغ جون الخمسة عشر عام، لم يكن من المنطقي أن يظل على نفس المنوال، وإنما قرر أن يُشارك شقيقته في العمل، أي عمل يضمن له دخل جيد يُمكن حتى أن يكفي لإطعامه وإشرابه، وبالطبع هو لن يعمل طبيبًا أو مهندسًا، ففي النهاية هو مجرد طفل متشرد لا يعرف القراءة والكتابة ولم يحظى أصلًا بأي فرصة للتعليم، ومن هنا بدأت رحلته مع العمل التي سارت على أسوأ نحو ممكن.
جون لي والعمل
كان على جون أن يعمل من أجل توفير ما يحتاج إليه، لذلك بدأ بالفعل ممارسة الكثير من الأعمال مع وصوله لسن السادسة عشر، وفي كل عمل كان يعمل به كان يجد فشلًا ذريعًا لسبب بسيط جدًا، وهو أنه لم يكن أمينًا بما فيه الكفاية، فبكل أسف كان يمتلك جون يدًا طويلة بعض الشيء، ذلك الطول يجعلها تمتد لتسرق الأشياء من أصحاب الأماكن التي يعمل بها، وبالرغم من أن هذه الأشياء كانت في الغالب أطعمة وأشربة إلا أنها في النهاية كانت تُعتبر سرقة، ولهذا كان يتم طرده من العمل، واستمر الوضع على هذا المنوال لعامين كاملين، وقبل أن يُصبح جون شريدًا في الشارع جاءه طوق النجاة من شقيقته، والتي تمكنت من إقناع السيدة التي تعمل لديها بتشغيل جون معها، حيث كان بإمكانه فعل الكثير من الأمور أهمها الاهتمام بحديقة المنزل، وبالفعل اقتنعت السيدة وأصبح جون لي خادمًا مع شقيقته في نفس المنزل.
الرحيل والعودة مجددًا
كانت السيدة التي تعمل معها شقيقة جون تُدعى كيز، والحقيقة أن كيز هذه كانت شديدة السخاء والعطاء في نفس الوقت، فكانت تُعطي جون راتبًا كبيرًا، لكنه كان يتذمر عليه بحجة أن شقيقته تأخذ أكثر منه، وفي وقت من الأوقات ظن جون أنه قد أصبح قادرًا على العمل في أي مكان، فترك منزل السيدة كيز ثم ذهب ليتنقل بين الفنادق والأماكن المختلفة، كان ذلك في عام 1884، وقد كانت البحرية البريطانية في حاجة إلى متطوعين، لذلك قرر جون تجريب حظه في الحياة العسكرية، لكنه لم ينجح أيضًا، ومع ذلك الفشل المُتتالي على الكثير من الأصعدة لم يكن أمام جون سوى العودة مرة أخرى إلى منزل الشخص الوحيد الذي احتضنه وقبله في العمل، السيد كيز، لكنها لم تكن عودة حميدة على الإطلاق.
مقتل السيدة كيز
عاد جون إلى منزل السيدة كيز وبدأ العمل بصورةٍ طبيعية، لكنه لم يكن قد شُفي من داء السرقة بعد، فقد ضبطته السيدة وهو يسرق مالًا من حقيبته، وبالرغم من ذلك لم تقم بطرده عطفًا عليه وعلى شقيقته، وإنما اكتفت فقط بخصم شهر من راتبه، وفي الخامس عشر من شهر نوفمبر القابع في عام 1884 تم العثور على كيز مقتولة بطريقة وحشية، فقد كانت مضروبة بقضيب معدني على رأسها ومذبوحة من الرقبة، وفي نفس الوقت تم إشعال النار بجثتها لتحترق عن آخرها.
الغريب في جريمة القتل هذه أن جون بعد سماع صراخ كيز مباشرةً ركض باتجاه بيوت الجيران وهو يصرخ بأن السيدة كيز قُتلت، هذا على الرغم من أنه لم يكن أحد يعرف بالضبط ما حدث، كما أن التوتر الشديد كان واضحًا بشدة عليه، عمومًا، أثناء ذلك الحريق اقتحم جون غرفة أحد الخدم وقام بإنقاذه، لكن هذا لم يمنع من توجيه تهمة قتل السيدة كيز إليه، فما هي يا تُرى الأسباب التي أدت إلى ذلك الاتهام الخطير.
أسباب اتهام جون
لم تجد الشرطة صعوبة في توجيه تهمة قتل السيدة كيز إلى جون لي، فتقريبًا كل الدلائل كانت تُشير إليه، أولها القضيب الذي استُخدم في القتل، وهو معروف بكونه يُستخدم في الأشغال التي كان يقوم بها جون داخل المنزل، كما أن يده كانت تمتلئ بالدم بعد الحادثة مباشرةً، وقد برر ذلك بأنه قد حدث خلال اقتحامه غرفة الخادمة لإنقاذها، تلك الخادمة التي قالت إنها لم تسمع صوت زجاج يُحطم من الأساس، وأيضًا الكيروسين الذي تم حرق الجثة به تم العثور على أثار دماء بها تتشابه مع دماء جون، والأهم من كل ما مضى أنه قد ركض صارخًا بخبر مقتل كيز بالرغم من أنه لم يرى جثتها.
كانت الأدلة كما ذكرنا أشبه بحبل المشنقة الذي أخذ يلتف شيئًا فشيئًا حول رقبة المسكين جون، ونقول مسكين لأنه أقسم من مرة على كونه لم يرتكب تلك الجريمة ولم يُفكر أصلًا بها، وقد بدا صادقًا جدًا خلال هذا القسم، لكن المحكمة بكل تأكيد ليست موجودة لتأخذ بأقسام الناس، ولهذا فإنها قد منحت الأدلة كل اهتمامها، تلك الأدلة التي تناولناها وقلنا أنها تُشير بشكل لا يحتمل الشك إلى كون جون قاتلًا للسيدة، ولهذا كان الحكم بإعدامه شنقًا في عام 1885.
المعجزة تحدث للمرة الأولى
في صباح أحد أيام شهر فبراير القابع في عام 1885 تم اقتياد جون لي إلى مكان تنفيذ الحكم بعد أن تناول وجبته الأخيرة التي يخولها القانون له، وحين تم سؤاله عن رغبته لم يتكلم بأي كلمة، الأغرب أنه لم يفعل ما يفعله الآخرين في تلك الظروف، فهم عادةً يبدؤون بالصريخ والبكاء والانهيار، لكن جون ذهب بكل هدوء وصعد على مكان التنفيذ ولم يُحرك إصبعًا في الوقت الذي كان حبل المشنقة يلتف على رقبته، كان هذا مدهشًا بالطبع لكل الحاضرين، لكن الشيء المدهش بحق لم يكن قد حدث بعد يا سادة.
عندما سحب منفذ الحكم القبضة، التي من شأنها أن تجعل جون يترنح فوق الباب الذي سيُفتح من تحته، لم يحدث أي شيء، وإنما ظل كما هو وكأن شيئًا لا ينتظره، وكأنه متيقنًا من فشل الأمر، ومع المحاولة الثانية كان الأمر على ما هو عليه، وهنا تزايدت وتيرة الدهشة لدى الحضور بصورة مُدهشة بحد ذاتها.
المعجزة تُثير الدهشة
أثارت تلك المُعجزة الدهشة في نفوس الجميع، لكن تلك الدهشة لم تمنع الميكانيكي من تفقد آلة الإعدام من أجل البحث عن التلف الذي كان الجميع يتوقع وجوده، وبالتالي يتوقعون كذلك أن يتم إصلاحه وإعادة تنفيذ الحكم، لكن حتى بعد إصلاح الآلة وتجربتها أكثر من مرة لم تعمل وقت وجود جون لي عليها، مما أدى إلى استدعاء مأمور السجن، والذي أراد مشاهدة عملية الإعدام بنفسه مرة أخرى، تلك المرة التي لم تُجدي نفعًا كما هي العادة، وفي النهاية لم يكن على المأمور سوى انتظار الأوامر العُليا من المحكمة، وبالفعل جاءت الأوامر بنفس درجة الجنون التي تُضاهي ما كان يحدث، حيث تم إلغاء حكم الإعدام وتخفيفه إلى السجن مدى الحياة، لتكون بذلك أغرب حالة إلغاء لحكم إعدام في التاريخ.
من قتل كيز؟
كان ذلك السؤال هو أول ما تناقش به الشارع بعد معرفته بما حدث داخل غرفة الإعدام، فإذا كان جون لي قد حظي بذلك الدعم الإلهي على حد قولهم فلابد أن الحكم الذي طاله غير صحيح، وهنا بدأ الناس يبحثون بأنفسهم عن القتل، وقد اكتشفوا في النهاية أن الجريمة لم تتم بواسطة جون، لكنه بكل تأكيد يعرف مرتكبها، وذلك ببساطة يرجع إلى سياق الأحداث، حيث اتضح أنه كان ثمة رجل يواعد شقيقة جون سرًا وقد اكتشفت السيدة كيز أمرهما فقتلاها، ولهذا لم يُرد جون الإدلاء بأي شهادة تُدين شقيقته، مما أدى إلى وقوف السماء في صفه وعدم تنفيذ الحكم الجائر، أو هكذا ظن الناس.
لماذا تعطلت المشنقة؟
في الحقيقة لم تحدث المعجزة كما قد يتوقع بعضكم، فكل ما هُنالك أن المشنقة كانت مُعطلة، وإذا كنتم ستُسارعون بالقول بأن الميكانيكي قد تأكد من عدم وجود أي خلل فلكم أن تعرفوا أن الخدعة كانت تكمن في أن المشنقة لا تُصبح جاهزة للعمل فقط في حالة وجود شيء ثقيل عليها، وهذا بالضبط هو الوصف الصحيح للرجل المحظوظ جون لي.
أضف تعليق