الاشتعال الذاتي كابوسٌ آخر غامض يهدد البشرية وإن كان يهددها بشكلٍ نادر وبأعدادٍ ضئيلةٍ جدًا من مليارات البشر وخلال مئات السنين يفقد عددٌ يعتبر قليلًا حياته بسبب ظاهرة الاشتعال الذاتي الغير مفسرة حتى يومنا هذا، ليست غير مفسرة فحسب بل إنه من ندرتها وغرابتها ولا معقوليتها بدأ البعض في التساؤل إن كانت ظاهرة الاشتعال الذاتي حقيقيةً وممكنةً أم أنها أسطورة صنعها لا أحد، وعُلق عليها فشل الشرطة في بعض الأحيان في إيجاد التفسير الحقيقي والواقعي لبعض حالات الاحتراق الغريبة فظهر تفسير الاحتراق الذاتي مداراةً على العجز وتسليةً وشغلًا للناس، لكن إن كان الأمر كذلك فما التفسير الحقيقي الممكن لحالات الاشتعال تلك حتى بعد تطور العصر والتكنولوجيا لماذا ما زلنا عاجزين عن معرفة التفسير العلمي؟
الاشتعال الذاتي : بين الحقيقة والخيال
الاشتعال الذاتي
هو الظاهرة التي يحترق فيها جسد أحدهم ببساطة وهو ليس أمرًا غريبًا أو مستنكرًا لإن الحوادث تحدث والتاريخ مليءٌ بأولئك الذين ماتوا حرقًا أو اشتعلت فيهم النيران وتركتهم أحياءً بآثار وتشوهات أبدية، لكن الاختلاف الوحيد في الاشتعال الذاتي هو أن الجسد يشتعل من الداخل إلى الخارج وليس العكس حيث يتسبب مصدر النار في الإمساك بالجسد أو الشعر أو الثياب فيحترق الإنسان من خارجه حتى داخله، بل إن الأمر قد يتجاوز ذلك في الاشتعال الذاتي حيث أن بعض الحالات التي تم رصدها لم تمس النار فيها ثياب الضحية أو الأثاث من حولها وإنما كان الجسد البشري هو المحترق الوحيد، وبعض الضحايا الآخرين احترق منهم الجسد كله إلى بعض الأعضاء أو بعضهم احترق عضوٌ معينٌ من الجسد فحسب بلا سببٍ ولا مبرر هكذا فجأة، وقد تم تسجيل ما يقارب المائتي ضحية للاشتعال الذاتي خلال الثلاثمائة سنة الأخيرة أغلبهم ماتوا ولم يستطع أحدٌ إنقاذهم لكن للعجب فقد عاش البعض منهم ليروي حكايته.
سبب الاشتعال الذاتي
كما قلنا فقد وقف العلم حائرًا عاجزًا أمام هذه النظرية لا يملك طرف خيطٍ حتى يقوده إلى بداية كشف اللغز وإنما بقيت ظاهرة الاشتعال الذاتي بلا سببٍ ولا نمط ولا حتى قدرة على التنبؤ بحدوثها وإنما هي تحدث في حالاتها وأوقاتها النادرة تلك بغير حسبان، وبالطبع فهي من الظواهر التي لا تطبق ولا تختبر ولا يمكن إعادتها لدراستها بل حتى أن وقت حدوثها أمرٌ يستحيل معه إمكانية دراسته، لكن برغم ذلك وعلى مر العصور ومنذ بدايات معرفة الإنسان لهذه الظاهرة الغريبة فقد بدأت مع الوقت تظهر تفسيراتٌ وأسبابٌ مختلفة اعتقد فيها البعض وآمنوا بها.
أسطورة لعنة الأنكا
حضارة الأنكا من الحضارات التي تعبق بالغموض والأوهام والأساطير ويشوبها ويغلفها بساطٌ ساحرٌ يجذب الكثيرين من محبي غموض الحضارات القديمة وأشكالها، كانت من إحدى أساطيرها أن أحد آلهتها وهو إله الشر عاث فسادًا في أرضهم ونشر شره وغضبه فأزهق الأرواح وأفسد الزرع وقتل الأطفال والمواشي وبعد تضرع الناس إلى بقية الآلهة استجابوا لهم وحبسوا إله الشر في تمثالٍ عجيبٍ قبيح يرتدي قلادة تحمل تعويذة بلغةٍ غير مقروءة، ولا يستطيع قراءتها إلا الشخص التعيس الشرير المذنب والغارق في الفساد من داخله وما إن يقرأ التعويذة حتى تحل عليه اللعنة فيشتعل ذاتيًا ويحترق حتى الموت، لذلك ارتبط الاشتعال ذاتيًا في تلك الأسطورة بالشر والذنوب لكنها أسطورة صحيح؟ وبرغم ذلك فمغزاها ظل قائمًا قديمًا عند بعض الشعوب وفي بعض الديانات.
دلالة الاشتعال ذاتيًا الدينية
كان ذلك في العصور الوسطى حيث أحكمت الكنيسة قبضتها على كل نواحي الحياة وعقول الناس وأنفاسهم التي يتنفسونها وصارت معارضة الكنيسة جرمًا يستحق القتل، عندها خرجت الكنيسة للناس بذلك التفسير الذي اقتنع به الكثيرون وقتها وهو أن الاشتعال الذاتي عقابٌ وعذابٌ للعصاة والمذنبين والخاطئين ومرتكبي الفواحش والفجور، وأن العقاب الإلهي ذلك يختار أكثر الناس شرًا وفسادًا ليقع عليه ويجعله عبرةً للآخرين ويخلص العالم من فساده، وكان الناس يحتاجون إلى السبب كانوا يحبون أن يروا المذنب معاقب ويحبون الترهيب وأن يشعروا بالخوف وبأن هناك عقابًا سيقع على المذنب في الدنيا قبل الآخرة مما جعل الأمر مقبولًا ومنطقيًا لهم بشدة.
العلم يحاول تفسير الاشتعال الذاتي
بعد ذلك بفترة وبعد القضاء على فكرة أن الاشتعال الذاتي عقابٌ إلهيٌ للعصاة بدأ العلم في البحث والتكهنات ومحاولة خلق وإيجاد الاستنتاجات المختلفة لهذه الظاهرة المحيرة التي لا يستطيع أحدٌ التنبؤ بها أو أن يحول دون حدوثها ولا متى ومن ستكون الضحية القادمة، حيث أن الحريق لا يمكن أن يشتعل بدون نار أو شرارة تحفز الاحتراق ولا بدون المادة التي تشتعل فقد بدؤوا في محاولة البحث عن سبب الاشتعال وسر خلق الشرارة الصغيرة من داخل الجسم، كانت الكهرباء الساكنة داخل الجسم والحقل الكهربي البسيط لجسم الإنسان واحدةً من الاقتراحات الممكنة حيث أدى حدوث خللٍ في تلك الكهرباء إلى توليد الطاقة واشتعال الشرارة، ماسٌ كهربيٌ داخل جسم الإنسان! أمرٌ يستحق التأمل، من جانبٍ آخر فقد اتجهت الأنظار إلى الكحوليات وخاصةً أن كثيرًا من ضحايا الاشتعال الذاتي كانوا من مدمني الشراب ومن المعروف أن الكحوليات من المواد سريعة الاشتعال والمحفزة عليها أيضًا لذلك اتجه ذلك الرأي للإجماع على أن الإسراف في الشرب يؤدي إلى تشبع خلايا الجسم بالكحول ما يجعلها سريعة الاشتعال عند اقتراب أي مصدرٍ حراريٍ منها فيشتعل الجسم كله.
طبيعة الجسم كسببٍ للاشتعال
أسبابٌ أخرى هي من طبيعة الجسم وتكوينه وجزءٍ منه استخدمها البعض في تفسير تلك الظاهرة كدهون الجسم مثلًا والتي تساعده على التقاط الشرارة وانتشارها واشتعاله كله، لكن تلك النظرية لم تكن قوية لأن بعض الضحايا كانوا ذوي أجسادٍ نحيلة فكسروا النمط وأضعفوا ذلك الرأي، ولأن أغلب العالم يعاني من السمنة فهل بذلك نعتبر أغلب العالم معرضًا لاحتمال الاشتعال الذاتي لما في أجسادهم من دهون؟! الجهاز الهضمي كان أحد المشتبهين به في هذه العملية عبر الغذاء الذي يدخل إليه والتفاعلات الكيميائية التي تحصل بداخله أثناء هضم الغذاء وكون بعض الأغذية قابلًا للاشتعال فيحدث الانفجار الكيميائي من الداخل مسببًا نيرانًا تلتهم الجسد من داخله إلى خارجه ورغم كونه تفسيرًا غير منطقيٍّ أيضًا لكن البعض مؤمنون به.
اعتراف العلم بالعجز
ولكن مهما تنوعت واختلفت تلك التفسيرات التي وشى ضعفها وعدم مطلقيتها بعجز العلم عن تفسير الظاهرة بشكلٍ حقيقي وأنه يلجأ إلى التكهنات والاستنتاجات الغير مبنية على التجربة ولا النظريات الدقيقة تبقى مشكلةٌ أخرى تُعجز العلم عن الإجابة، فإن كانت تلك النيران التي تتصاعد من داخل الضحية لخارجها معتادةً وطبيعية فلماذا لم تحرق ثياب بعض الضحايا وأثاث الغرفة وإنما اكتفت بالجسد وحده؟ وأحيانًا اكتفت ببعض أجزاء الجسد وحسب وتركت أعضاءً سليمة بغير حرقٍ ولا تدمير؟
ضحايا للاشتعال الذاتي
على مر التاريخ كان للاشتعال الذاتي ضحايا من كل الأشكال والأعمار والأجناس من أول الأطفال وحتى العجوز كبير السن، بعضهم مات وذهب ولكن البعض منهم ظل على قيد الحياة ليروي قصته، فتحكي إحداهن أن النيران اشتعلت وخرجت من جسدها لثوانٍ ثم اختفت فجأة كما خرجت! وتحكي أخرى أنها كانت تسير لتجد قدمها تشع باللهب الأزرق بدون أن تشعر بأي ألم وسارع أهلها لإطفاء النيران بالماء فانطفأت!
رأيٌ آخر
على كثرة ما وُجد من مؤمنين ومصدقين بتلك الظاهرة وكالعادة خرج لنا تيارٌ مضادٌ ومعارضٌ يهاجمها ويهاجم المؤمنين والمعتقدين فيها موقنًا أنها من نسج الخيال، وأن لكل شيءٍ في الحياة تفسيرًا علميًا واقعيًا ملموسًا لكننا لا نراه أحيانًا لأننا لم نبحث وأحيانًا أخرى لأننا لا نريد أن نرى، وظاهرة الاشتعال الذاتي في رأيهم من الظواهر التي نريد ألا نرى الحقيقة فيها ويروق للنفس البشرية أن تستمتع بالجو الأساطيري أو الغامض الذي تخلفه لنا هذه الظاهرة كغيرها من الأساطير التي مع التقدم اكتُشف زيفها وتم دحضها وكشف جوانب غموضها على ضوء العلم والفكر المنطقي والملموس.
أسباب إنكارهم ظاهرة الاشتعال الذاتي
بداية الإنكار لم تكن فقط إنكارًا لعجز العلم عن تفسير الأمر وإنما إنكارًا للظاهرة كليتها وأنه لم يُعرف شيءٌ باسم الاشتعال الذاتي وإنما هو حريقٌ طبيعيٌ بمسبب، بدأ الإنكار بالاعتراض على الأسباب الضعيفة التي قدمها العلم كتعاطي الخمور أو السمنة أو تفاعلات الجهاز الهضمي حيث أن المليارات في هذا العالم يتعاطون الخمور وملايين يدمنونها وأغلبية العالم يعانون من السمنة وجميعنا نتناول الطعام ونهضمه فلماذا من بين كل هؤلاء المليارات اختار الاشتعال الذاتي هؤلاء الأشخاص ليحرقه؟ من أسباب الإنكار لأخرى كانت أن درجة الحرارة التي نحتاج إليها لإحراق جسدٍ بشريٍ كامل تقترب من الألف وستمائة درجة فهرنهايت بل إن بعض الجثث المتفحمة تدل على أنها احترقت بدرجة حرارة 3000 درجة سليزيوس فكيف لجسد الإنسان من الداخل أن يتمكن من توليد تلك الحرارة اللازمة لإشعال شرارةٍ عنيفةٍ تحرق الجسد بأكمله، خاصةً أن أكثر من ثلثي الجسد من الداخل هو من السوائل أي تخمد النيران ولا تساعد على اشتعالها وزيادة حرارتها.
الاعتراض على بعض العلماء
كان أحد العلماء في سبيل تفسير تلك الطاقة قام بإيجاد جسيماتٍ صغيرة ادّعى أنها تتضارب في جسم الشخص من الداخل فيشتعل لكن بالطبع تم رفض قوله ذلك لأنه غير علميٍّ ولم يقم على نظرياتٍ علمية، كما أنك في العلم لا تستطيع أن توجد جزيئاتٍ بنفسك لمجرد حاجتك لإيجادها من العدم لتفسير أحد الظواهر، وكان السؤال الأهم الذي قاموا بطرحه هو لماذا لم يصب الاشتعال الذاتي الحيوانات ولماذا يصيب البشر فحسب؟ لكن هل قاموا هم بالتأكد فعلًا من أن كل الحيوانات الموجودة في البراري على مر التاريخ لم تصب بتلك الظاهرة أبدًا؟ يبدو صعبًا التأكد من ذلك فعلًا.
تفسيرهم
اتجه التفسير الذي قدمه التيار المعارض إلى أن الأمر حريقٌ عاديٌ جدًا واستندوا في ذلك على أن أغلب الضحايا كانوا بجانب مصدرٍ حراري سواءً سيجارة أو شمعة أو حتى مدفأة وساعدت الظروف على نشوب الحريق كثياب الضحية مثلًا من الممكن أن تكون من مادة سريعة الاشتعال أو تتعاطى الكحول، كما رفضوا فكرة عدم احتراق الثياب أو الأساس واعتبروها مبالغةً وتهويلًا وتحريفًا من الناس لجعلهم يصدقون ما يريدون تصديقه وأن النيران إن اشتعلت فهي تحرق ما حولها وتترك آثارها لا محالة.
أين يكمن التفسير وأين تكمن الحقيقة لا أحد يعرف، إن كانت ظاهرةً حقيقيةً فمن أين تأتي وإن لم تكن حقيقيةً فلماذا لا يبدو احتراقًا واشتعالًا عاديًا لنا؟ لماذا استطعنا التفرقة بين العادي والاشتعال الذاتي ووجدنا أسباب ذلك ولم نجد لذلك سببًا واحدًا؟ لا أحد يدري.
أضف تعليق