ظلّ خط بارليف أسطورة تُرددها إسرائيل في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967 وتُصدّرها للعرب والغرب على أنها حقيقة مُطلقة، بل وخرجت أصوات من الكنيست الإسرائيلي تُطالب بإضافة هذا الخط إلى عجائب الدني السبعة، وبلغ التضخيم ذروته حين صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها موشي ديان بأن الجيش بأكمله يُمكن أن يذهب إلى عُطلة دون أدنى قلق من المصريين، لأن خط بارليف سيتكفل بهم جميعًا قبل أن تدوي صافرات الإنذار في تل أبيب. قيل وقيل، وكثُرت الأقاويل، لكن الحقيقة الكاملة ظهرت في السادس من أكتوبر عام 1973، حيثُ بدا هذا الخط الأسطوري كقطعة جبنٍ كما وصفه وزير الدفاع الإسرائيلي بعد العبور.
خط بارليف الحقيقة والأسطورة
لماذا خط بارليف؟
لم تكن إسرائيل كاللص إذا يسرق ويبحث جاهدًا عن إخفاء مسروقاته بعيدًا عن الأعين، بل بلغت في اللصوصية إلى الحد الذي يجعلها تسرق ثم تُحافظ على ما سرقته كأنه ملكًا أصيلًا لها، وهذا الأمر في الحقيقة يُعد أضحوكة مُثيرة للدهشة والذهول، فرغم كونها أكبر الدول سرقةً بسرقتها لأراضي الفلسطينيين إلا أنها ما زالت تجهل بقواعد السرقة، وأولها الاختباء والتواري، الانتكاس والخوف، أو ربما يكون الخوف هو القاعدة الوحيدة التي طبقتها إسرائيل.
بعد انتهاء حرب الأيام الستة مُباشرة عمدت إسرائيل إلى تأمين الجزء الذي انتزعته من أيادي المصريين واعتبرته ملكًا لها، أرسلت أكثر من ثُلثي الجيش لتأمين هذا الجزء فقط، شيدت المطارات وجهزتها بالطائرات، حركت أكثر من ألفي دبابة وخمسة الآف مدفع إلى سيناء، رغم ذلك، رأت أن كل ما مضي لن يُعطيها القدر الذي تحتاجه من الأمان.
بعد أقل من عام على انتهاء حرب الأيام الستة بدأت إسرائيل في بناء عدة تحصينات دفاعية على ساحلِ قناة السويس، كانت التحصينات على شكل ساترٍ من التراب يصل ارتفاعه إلى اثنين وعشرين مترًا، كما زودت هذا الساتر بعدة أنابيب من النابالم، وهي مادة كفيلة بتحويل البحر- إن حاول الجيش المصري العبور- إلى ألسنة من اللهب، ثم أسمت كل ذلك خط بارليف، أو مانع بارليف الحصين تحديدًا.
أسطورة خط بارليف
عقب الانتهاء من بناء خط بارليف أخذت الصحف الإسرائيلية والعالمية تُصوره بأنه مُعجزة القرن العشرين، تم تكريم المُهندس المسئول عن المشروع، وتم إطلاق اسم بارليف على الخط نسبة إلى قائد الجيش الإسرائيلي بارليف، كما تم تزويد الخط بأكثر من 22 نقطة دفاعية و26 نقطة حصينة، وتم ربطه بشبكة كبيرة من الاتصالات مع القيادة العليا وباقي الجيش، كما تم أيضًا إضافة خط اتصال مُباشر بإسرائيل، حتى يتمكن الجنود من الاطمئنان على ذويهم، إجمالًا، كان خط بارليف مصدرًا للراحة والرفاهية لدي الإسرائيليين وبابًا للجحيم على المصريين، أو هكذا تقول الأسطورة.
في خضم التهويل قال بعض المُهندسين الغربيين أن خط بارليف أقوى مانع في الشرق الأوسط بل في العالم، وأنه من يرغب في تدميره عليه استعمال قُنبلة ذرية وأسلحة نووية، كما زاد رئيس إحدى الصحف الفرنسية من التهويل وأبدى ندمه على نشر خبر بناء خط بارليف في جريدته باللغة الفرنسية، وقال أن حدثًا عظيمًا كهذا لا يُكتب إلى بلغة من قاموا به، وبالفعل تم تصحيح الخبر وكتابته باللغة العبرية في العدد التالي.
الحكومة الإسرائيلية أيضًا أخذت قسطًا من التهويل، فمنذ العلم بلحظة الاقتحام في السادس من أكتوبر ووزير الدفاع موشي ديان يُطمأن الجميع ويُخبرهم بأن خط بارليف سيتكفل بالمصريين، ورفض الاقتراح القائل بتوجيه ضربه جويه سريعة وكبيرة نحو المصريين، وبرر ذلك بأنه لا حاجة لإرهاق الجنود واستنزاف الوقود دون جدوى، لكن خط بارليف خيّب ثقة وزير الدفاع، ولم يصمد لحظة الاقتحام.
انتهاء أسطورة خط بارليف
كل الملايين التي أنففتها إسرائيل على بناء هذا الخط، وكل التضخيم الذي اتبع بناءه، وكل كلمة قيلت لتجعل هذا الخط حدثًا أسطوريًا، تم ردها دفعةً واحدة في أقل من ست ساعات، حيث عبر الجنود، والمدافع والدبابات، والمُعدات الطبية، دون أي اعتراض يُذكر من هذا الخط المزعوم، والذي سقط كقطعة من الجبن حسب تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي.
باقي ذكي يوسف، أو المهندس المُعجزة كما يطلقون عليه، هو من فعل كل ذلك، حيث كان صاحب فكرة ضخ المياه بقوة دفعٍ كبيرة نحو هذه السواتر، وتكمن المعجزة الحقيقية في مقدرة هذا المهندس الشاب على إنقاذ ما يقرب من عشرين ألف جندي على الأقل، كانوا في طريقهم للهلاك والموت المحقق حال فشل هذه الفكرة.
في اجتماعات التخطيط للحرب كان ثمة عثرة وحيدة تواجه قيادة الجيش، كان الجميعُ يسأل سؤالًا واحدًا يبدو منطقيًا بلا أدنى شك، كيف سنعبر؟ وكان دائمًا ما يُتبع هذا السؤال بسؤالٍ كارثي أخر، كم من الجنود سنخسر؟
كانت الإجابة تأتي دائمًا على السؤال، الثاني، أغلب التقديرات أشارت إلى هلاك عشرين ألف جُندي على الأقل لحظة الاقتحام، وانهاك ما سيتبقى من الجيش في أثناء العبور، كان الوضعُ كارثيًا بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، وكان السؤال الأول يملك دائمًا إجابة واحدة، لا نعرف.
باقي ذكي يوسف قال أعرف، أو قال تحديدًا أظن أنني أعرف، كان ذلك في غرفةٍ مغلقة مع أحد القادة الفرعيين، فالمهندس القبطي الشاب لم يكن مسموحًا له بحضور اجتماعات قادة الجيش، كان حديث التخرج والالتحاق بالجيش، لكنه كان ذكيًا، وكان ذلك كفيلًا باستدعاء السادات له.
في أول اجتماع لباقي ذكي يوسف مع القيادة قال صراحةً أن هذا الساتر الترابي لا يوجد به أي خللٍ يُذكر، وأن القنبلة الذرية أيضًا غير مضمونة النتائج، وقبل أن تأكله نظرات القادة تابع باقي ذكي بأن العيب الوحيد الذي سيُمكننا من إبطال مفعول هذا الساتر ليس موجودًا فيه، وإنما في المادة التي تم تكوينه منها، وهي التُراب.
ببساطة، قال المهندس الشاب أن تلك السواتر التُرابية ليس لها إلا الماء، وأن الجيش المصري إذا أراد العبور فعليه التمهيد بمضخات المياه أولًا، وأن هذه المضخات قادرة على إبطال مفعول هذه السواتر وإحالتها إلى كُتلة من الطين اللزج، وهنا انقسمت الأـنظار، ما بين مُعجبٍ من فكرة المهندس الشاب، وغير مُقتنعٍ بقدرتها على تمهيد طريق العبور للجيش.
رغم التوجس وخشية فشل هذه الفكرة تم إقرارها، ومن قبيل التمويه تم استيراد خراطيم ومضخات المياه باسم وزارة الزراعة، ونُفذت الفكرة كما تم التخطيط لها، وعبر الجيش المصري القناة واسقط النقاط الدفاعية المُتمركزة على شريط السويس والتي كان يحرسها 441 جندي إسرائيلي، قُتل نصفهم واعتُقل النصف الآخر.
عندما وصل الخبر إلى تل أبيب وأخذت صافرات الإنذار تدوي عمّ الذعر وتفشت الفوضى في صفوف السلطة والشعب، تم استدعاء الجيش الاحتياطي بأكمله، كما تم الاستعانة بالضباط المُتقاعدين كشارون، لكن، في هذه اللحظات، كان العلم المصري يُرفرف في سماء سيناء.
انتهت الحرب، واسترد المصريون أرضهم بعد ستة أعوام، سقط بارليف الأسطورة، وظهر بارليف الحقيقة، بارليف الهش الذي يُمكن تدميره بالمياه، بارليف الذي غالى الجميع في تعظيمه لإضعاف الروح المعنوية للجيش المصري، بارليف الذي بدا لحظة العبور كقطعة من الجُبن، أو كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان.
أضف تعليق