تُعد حادثة سحابة الجنوب من أصعب الكوارث التي تعرضت لها أستراليا في مهدها، حيث كان الطيران الأسترالي يخطو أولى خُطواته في عالم السماء حين بُلي بسقوط إحدى طائراته عام 1931 على جبال سنووي، ورغم أن سقوط الطائرة الأسترالية جاء بسبب الأحوال الجوية إلا أنه كان بمثابة صفعة قوية ربما لم يستطع الطيران الأسترالي التعافي منها إلا بعد ثلاثة عقود على الأقل، وهي تقريبًا الفترة التي استغرقتها تلك الطائرة الأفرو 618 في الاختفاء، والتي ظهرت بالصدفة في أكتوبر 1958، لينتهي بذلك لغز طائرة سحابة الجنوب واختفائها الذي دام لثلاثة عقود.
سحابة الجنوب وحادثة شديدة الغموض
الطيران الأسترالي
بدأ الطيران الأسترالي مغامرته مع الطيران بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولم تكن أستراليا الوليدة في مجال الطيران وقتها تمتلك سوى خمس طائرات من طراز الأفرو 618، وكانت هذه الطائرات تُستخدم في الطيران الداخلي فقط، وتتنقل بين مدن أستراليا لتنقل الركاب القادمين من أقصى المدن إلى شرقها، وكانت هذه الطائرات تأخذ لونًا واحدًا وتحط جميعها في مطارٍ واحد في العاصمة الأسترالية كانبرا.
كان الطائرات في بداية الأمر أشبه بالسيارات الخاصة، يُمكن استخدامها من قِبل الأغنياء ورجال السلطة فقط، وكانت الرحلات تتم بمعرفة الشركة الأسترالية دون تدخل من الحكومة، حتى إن الرئيس نفسه كان إذا ما أراد الطائرة يقوم باستئجارها من الشركة، وبسبب خلو التكلفة كانت الطائرات الخمسة خالية معظم الوقت، حتى إن طائرة سحابة الجنوب التي سقطت عام 1931 كانت تحتوي على ستة ركاب فقط، بالإضافة إلى طاقم الطائرة، وكان الجميع من كبار رجال الأعمال في الدولة، لذلك حدثت كل هذه الجلبة بعد الإعلان عن اختفاء الطائرة.
رحلة سحابة الجنوب
بدأت طائرة سحابة الجنوب رحلتها في الثامنة من صباح الحادي والعشرين من مارس عام 1931، وكانت متوجهة من سيدني إلى مدينة ملبورن، وكلاهما مدينتين أستراليتين، وقد كانت طائرة سحابة الجنوب تحمل ثمانية أشخاص، ستة من الركاب بدرجة كبار رجال الأعمال، واثنين من طاقم الطائرة.
قبل الإقلاع أشار مساعد الطيار تشارلز أولم بعدم الإقلاع، وأكد على أن الجو غير مُناسب بالمرة، وقد تُمطر السماء في أي وقت، خاصة وأن السُحب قد بدأت في التجمع، ومع اتجاه قائد الطائرة إلى الموافقة على تأجيل الرحلة حتى يتحسن الجو أصرت غرفة المتابعة والشركة الأسترالية للطيران على الإقلاع، وبررت ذلك يأن رجال الأعمال رفضوا تأجيل رحلتهم مهما حدث لارتباطهم بأعمال ضرورية لا تمتلك خيار التأجيل، وبعد عدة مناقشات أقلعت الطائرة بالفعل.
اختفاء سحابة الجنوب
بعد إقلاع الطائرة بأقل من ساعة انقلبت سماء أستراليا رأسًا على عقب، وهبت عاصفة رهيبة قادمة من جبال الألب لم تكن قد سُبقت بأية مؤشرات، وقد صرحت الجمعية التاريخية للطقس أن الذي بدأ مع إقلاع الطائرة كان كارثيا، وأن رياح الأعاصير ضربت فجأة البلاد بأكملها، ومع هذا الجو الغريب توقفت أجهزة الإرسال والراديو.
لم يكن الطقس كما توقعه مساعد الطيار تشارلز أولم، بل كان أسوأ بكثير، ولم تتماسك الطائرة في الجو أكثر من ثلاث ساعات، ثم سقطت بعدها في مكانٍ ظل مجهولًا لأكثر من ثلاثة عقود.
البحث عن الطائرة
عقب التأكد من سقوط طائرة سحابة الجنوب بدـأ فريق البحث المكون من ثلاث طائراتٍ أسترالية عمله، وبعد ثلاثة أيام من البحث الغير مُثمرٍ انضمت طائرات أخرى تابعة للولايات المتحدة وفرنسا للمساعدة في عملية البحث، إلا أن كل الجهود باءت بالفشل، ولم يتم العثور على أي أثرٍ لطائرة سحابة الجنوب.
فقدان الأمل
بعد عشرة أيام من الاختفاء أعلن فريق البحث الدولي أن العثور على طائرة سحابة الجنوب بات أمرًا شِبه مستحيلًا، وتم الإعلان رسميًا عن فشل فريق البحث في تأدية مهمته التي كُلف بها، كما تم إبلاغ أهالي الضحايا بموت زويهم وعدم العثور على جثثهم، مما أثار بعض الأقارب وقرروا رفع قضية على شركة الطيران التي كانت مسؤولة عن رحلة طائرة سحابة الجنوب، وبالفعل تمكنوا من كسب القضية والحصول على التعويضات، لأن أمر السقوط كان فعلًا يدعو للدهشة والذهول، فكيف تسقط طائرة ذات ثلاث محركات وهي تحمل ستة ركاب فقط؟ ، لا بدَّ أن الأمر كان فيه شبهة تقصير من قِبل المسؤولين على الصيانة قبل الإقلاع، هذا ما استندت إليه المحكمة في الحكم.
انهيار الشركة
بالإضافة إلى خسارة القضية أمام ذوي الضحايا خسرت الشركة المسؤولة عن رحلة طائرة سحابة الجنوب الكثير من سُمعتها، وتم سحب بعض التراخيص الخاصة بها، كما قام بعض الركاب بإلغاء حجوزاتهم بهذه الشركة، وأصبحت تعمل بصورة غير مستقرة، إجمالًا، انهارت شركة الطيران تلك.
تغيير سياسة الطيران الأسترالي
بعد حادثة طائرة سحبت الجنوب سعت شركات الطيران المنافسة إلى الاستفادة من هذه الحادثة، وتم تغيير صناعة الطيران في أستراليا بشكلٍ عام، حيث تم تحسين الاتصالات اللاسلكية واستخدام مُعدات أحدث في الصيانة، كما تم إرسال البعثات الأسترالية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الطيران الحديث.
ظهور سحابة الجنوب
في أكتوبر عام 1958، أي بعد سبعة وعشرين عامًا من اختفاء طائرة سحابة الجنوب، تم اكتشاف حطام الطائرة بالصدفة البحتة في منطقة كثيفة الأشجار تقع بالقرب من جبال سنووي المهجورة، وهي منطقة تبعد عن سيدني بأكثر من خمسة وعشرين كيلو متر، أي أن البحث طوال الفترة الماضية كان يتم في مكان وقوع الحادث وليس في المكان الذي سقطت فيه الطائرة، وبالرغم من أن المكانين يُعدا مكانًا واحدًا إلا أن تدحرج الطائرة من الجبل وسقوطها بين الأشجار الكثيفة أدى إلى اختفائها عن أعين فريق البحث.
موقف مؤثر
بعد إبلاغ أهالي الضحايا بموضع سقوط ذويهم ذهبت ابنة أحد الضحايا وتُدعى هيلين إلى موقع الحطام وأخذت بالبكاء في مشهدٍ مؤثر، حيثُ كانت تأمل أن يكون والدها على قيد الحياة بسبب عدم العثور على الطائرة، وبعد أن هدأت كتبت على الرمال بالقرب من الحطام ” أبي، أنا الآن أعرف أين أنت”.
بعد ذلك ذهب باقي اسر الضحايا إلى موقع الحادث وأقيمت هناك جنازات رمزية، كما تم نصب بعض القبور ووضع حطام الطائرة فيه بدلا من الجثث التي كانت قد انتهت طوال الثلاثة عقود التي استغرقها اختفاء طائرة سحابة الجنوب، والتي كانت بمثابة فاجعة أصابت أستراليا مع بداية استخدامها للطيران المدني، كما كانت لغزًا حير العالم لأكثر من ثلاثة عقود حتى تم إسدال الستار عنه عام 1958.
طائرة سحابة الجنوب في السينما
لم يمر حدث كبير كهذا على شاشة السينما مرور الكرام حيث تم تجسيد هذه الواقعة في أكثر من عملٍ سينمائي كان أهمها الفيلم الأسترالي الشهير ” لغز سحابة الجنوب”، والذي عرض بدقة متناهية مأساة طائرة أستراليا ولغز اختفاء الحطام لأكثر من ثلاثة عقود، كما تعرض لواقعة ابنة أحد الضحايا هيلين التي ذهبت إلى موقع الحادث وبكت والدها التي كانت تظنه على قيد الحياة، وفاز هذا الفيلم بعدة جوائز وتم اعتباره فيلم إنساني من الدرجة الأولى وعُرض بأكثر من مهرجان في أكثر من دولة.
أضف تعليق