يُعد محمد نجيب -الرئيس الأول لجمهورية مصر العربية- أكثر الرؤساء المصريين إثارة للجدل، ويرجع ذلك إلى كونه الرئيس المصري الوحيد الذي تم نفيه ووضعه تحت الإقامة الجبرية بين الرؤساء الستة الذين تناوبوا على حكم مصر، وقد فسرّ البعض ذلك بغدر الرئيس عبد الناصر به وانتوائه تولي رئاسة مصر، أو لأن نجيب كان قد عزم على عزل مجلس قيادة الثورة المُشكل من الضباط الأحرار لحيدهم عن أهدف الثورة، لذلك قاموا بابتداره وعزله قبل أن يفعل ذلك، وقد يكون السبب غير ذلك، إلا أن المؤكد أنه قد تعرض لنوعٍ من أنواع الغدر من قبل مجلس قيادة الثورة الذي كان يتولاه حفنة من الضباط الأحرار على رأسهم جمال عبد الناصر الذي تولى الرئاسة بعد الرئيس الأول محمد نجيب.
محمد نجيب وقصته الكاملة
محمد نجيب في سطور
أول رئيس لجمهورية مصر العربية محمد نجيب سوداني الأصل، ولد في التاسع عشر من فبراير عام 1901، جاء إلى مصر والتحق بالجيش المصري ومن ثم الحرس الجمهوري، وكان أول جندي مصري يحصل على ليسانس الحقوق.
تولى الكثير من المناصب منها حاكم سيناء ورئيس المدرسة الحربية، شارك عام 1948 في حرب تحرير فلسطين ،وتمت إصابته أكثر من سبع مرات، وهناك تعرف على عبد الحكيم عامر الذي أدخله إلى مجلس قيادة الثورة كأحد الضباط الأحرار، ولكِبر سنه تم تعيينه بالانتخاب من مجلس قيادة الثورة كأول رئيس لجمهورية مصر العربية الأولى، كان هذا في عام 1953، أي بعد ما أُطلق عليه الحركة التصحيحية بعام واحد، وكان نجيب قد تجاوز الخمسين وهو سن مُناسب جعله يُهيأ نفسه لحكم مصر ما لا يقل عن عشرة أعوام، لكن.
محمد نجيب في الحكم
تولى محمد نجيب رئاسة مصر في الثامن عشر من يونيو عام 1953، وفي هذا اليوم أيضًا تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، ومنذ هذا اليوم بدأت المشاكل في التفاقم وبدأت خلافته مع العديد من الجهات أبرزها مجلس قيادة الثورة وعلى رأسه جمال عبد الناصر والذي حاول التدخل في تعيين اللواء عبد الحكيم عامر قائدًا أعلى للقوات المسلحة، مما يتنافى مع قواعد الجيش وتخطيه مبدأ التدرج، هذا ولم يستطع محمد نجيب رفض طلب عبد الناصر لأكثر من ثلاثة أسابيع، بعدها رضخ لمطالبه وقام بتعيين عبد الحكيم عامر قائدًا أعلى للقوات المسلحة، مما تسبب في ثورة كبيرة داخل الجيش.
في فبراير 1954 قدم محمد نجيب استقالته رفضًا لتدخل الجيش متمثلا في مجلس قيادة الثورة بالحياة السياسية، كما طالب بعودة الحياة النيابية من جديد، وكان ينوي بذلك الخلاص من حكم مصر الذي أصبح منظورًا فيه من قِبل جميع قادة الثورة، لكن المدهش في الأمر أن تلك الاستقالة كانت سببًا أصيلًا في توطيد حكمه، إذ خرجت مظاهرات حاشدة في مصر والسودان تُطالب بعودة محمد نجيب للرئاسة مرة أخرى وتنفيذ كافة مطالبه سواءً كانت عودة الحياة النيابية من جديد أو ابتعاد مجلس قيادة الثورة عن السلطة.
كما أدى الزخم المفاجئ الذي حدث لمساندة نجيب إلى تأني مجلس قيادة الثورة في قبول استقالته، كما عرض رئيس الحرس الجمهوري وقتها على محمد نجيب اعتقال أعضاء مجلس قيادة الثورة بتهمة زعزعة استقرار البلاد ومحاولة الانقلاب على الحكم، لكن نجيب كما يقول في مُذكراته رفض، ويقول أيضًا أنه قد ندم على هذا الرفض.
في الشهر التالي بدأ جمال عبد النصر في تحضير ما يُعرف بأزمة مارس، وكان محمد نجيب قد بدأها بالفعل حين طالب فور عودته بتعجيل عودة الحياة النيابية وتعديل الدستور، لكن المجلس اجتمع يومها بقيادة عبد الناصر وقرر بالإجماع عدة قرارات أهمها حل مجلس قيادة الثورة، وترويج شائعات مفادها أن محمد نجيب يُجري اتصالات مع حزب الوفد لتسليمه أغلبية مجلس الشعب، وكان نجيب مُنشغلًا وقتها بزيارة ملك السعودية، فلم يستطع الرد بالنفي أو الإيجاب، لتخرج في الثامن والعشرين من مارس عام 1954 مُظاهرات حاشدة تُطالب بإلغاء الحياة النيابية ورفض الديموقراطية، كما قام رئيس اتحاد العمال عبد الناصر صاوي بدفع السائقين إلى الإضراب لشلّ حركة البلاد، ثم اعترف بعدها بأنه فعل ذلك بناءً على طلب أحد القيادات مقابل أربعة آلاف جنيه.
إذًا، تم تفتيت الزخم الذي كان يتمتع به نجيب، ولم يعد له نصير شعبي كما كان، ليُصبح لقمة سائغة في فم عبد الناصر ورفاقه، وهذا ما حدث في الرابع عشر من نوفمبر عام 1954.
في صباح هذا اليوم توجه نجيب من بيته إلى مكتبه بقصر عابدين كالعادة، لكنه فوجئ بتغير معاملة الجنود له، حيثُ عزفوا عن تقديم التحية العسكرية، بل ورافقه جُنديين إلى المكتب بما يُشبه المراقبة، فما كان من نجيب إلا أن اتصل بعبد الناصر الذي أخبره أن عبد الحكيم عامر في طريقه إلى القصر لإطلاعه على كل شيء.
ريثما وصل عامر أخبر نجيب بأن المجلس قرر بالإجماع إعفاءه من منصبه، فلم يُعارض نجيب بل قال أن الإقالة طالما جاءت منكم فمرحبًا، وأثناء استعداده لمغادرة القصر أخبره عامر أن عليه المكوث في فيلا زينب الوكيل حتى تهدأ الأمور، وأكد عليه أن هذا الوضع لن يستمر إلا ثلاثة أيام على الأكثر، لكان الأيام الثلاثة تحولت إلى ثلاثين عام.
محمد نجيب في المنفى
في المنفى- فيلا زينب الوكيل- قضى محمد نجيب أكثر من ثلث عمره، حيث تم استقبال رئيس مصر الأول أسوأ استقبال، فلم يقم أحدًا من الجنود بتحيته عسكريًا كما حدث مع الملك فاروق والذي تم إطلاق أكثر من 21 رصاصه أثناء توديعه، بل وقام الجنود بمضايقته منذ اللحظة الأولى له في قصر المرج، بداية من تفريغ القصر من الأساس واللوحات وتركهم بالكاد سرير صغير له، مرورًا بمنعه من الخروج مهما حدث، حتى أطفاله تم مضايقتهم وتأخير عربة المدرسة عليهم ذهابًا وإيابًا، بل ووصل الأمر إلى تعرضه للضرب من أحد الجنود.
في 1971 أمر الرئيس السادات بالإفراج عنه، لكنه ظل مُتجاهلًا من قبل السادات والمجلس النيابي ومن بقىّ من مجلس قيادة الثورة، فلجأ إلى الحيوانات التي وجد فيها – خاصة الكلب- وفاءً لم يجده في البشر، قبل ذلك خرجت شائعة تقول بوفاته عام 1966، وأغضبت نجيب هذه الشائعة لأنها جاءت على يد صحفي إسرائيلي، كان ذلك قبل النكسة بعامٍ واحد،لذلك، مع حدوث النكسة طلب نجيب من عبد الناصر أن يسمح له بالالتحاق بالجيش من جديد وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، لكن عبد الناصر لم يُعره أي اهتمام.
في عام 1983 خصص الرئيس مبارك فيلا له بقصر القبة، لكنه لم يعش فيها أكثر من عام، حيث مات في أغسطس من العام التالي، تاركًا وراءه وصية وحيدة تقول بأنه يتمنى أن لا يتم دفنه في مصر، لكن مبارك رفض ذلك تقديرًا له وأمر بإقامة جنازة عسكرية له انطلقت من مسجد رابعة العدوية، وتم دفنه بمقابر الشهداء.
هذا وقد دوّن محمد نجيب قصته كاملة في كتابه الذي كتبه قبل موته بأيام وكان يحمل اسم ” كنت رئيسًا لمصر” ، رفض فيه الإساءة إلى أيـًا من ضباط الثورة رغم ما فعلوه بهم، كما ذكر فيه طريقه كاملًا، من الحكم إلى المنفى.
أضف تعليق