في القرن العشرين، وتحديدًا في النصف الثاني منه، شاعت قصة مصاص دماء بوخاريست ، ذلك السفاح المُسمى أيون ريمارو، والذي لم يرحم أحد طوال حياته وتسبب في قتل أكثر من ثلاثة وعشرين فتاة من مدينة بوخاريست الموجودة في رومانيا، وبالرغم من كون تلك القصة لا تُعد أبدًا أول قصة من قصص مصاصي الدماء إلا أنها في الحقيقة تعتبر من أكثر القصص رعبًا وقلبًا للرأي العام، واسألوا في ذلك شرطة رومانيا التي أعلنت حالة الطوارئ في المدينة بأكملها وجندت أكثر من عشرة آلاف جندي ومُخبر من أجل إلقاء القبض على ذلك السفاح، والذي وصلت خطورته إلى الحد الذي جعل الأهالي لا يخرجون بناتهم من البيوت، كما تحولت بعض الشوارع إلى ثكنات عسكرية بانتظار ذلك السفاح واستعدادًا للنيل منه، فمن هو يا تُرى ذلك السفاح المصاص للدماء؟ وكيف وصل به الأمر إلى هذه الدرجة من الخطورة؟ هذه الأسئلة وأكثر، سوف نحاول الإجابة عليها سويًا من خلال السطور القادمة، فهل أنتم مستعدون للتعرف على ذلك الرجل؟
من هو أيون ريمارو؟
عودناكم من قبل أن قصة أي سفاح يجب أن تبدأ بالتعرف عليه، فمهما كان الأمر هو في النهاية شخص، له تاريخ وذكريات جعلته يخوض حاضرًا عسيرًا ويصنع مُستقبلًا سيئًا، وهذا بالضبط ينطبق على بطلنا السفاح أيون ريمارو، ذلك الروماني الذي وُلد في الثاني عشر من شهر أكتوبر الواقع في عام 1946، أي تقريبًا قبيل الحرب العالمية الثانية، وعلى ما يبدو أن قدر العالم أن يولد في العام، الذي يتم فيه التخلص من هتلر، هتلر آخر لا يقل خطورة عنه!
في مدينة كاراكال الموجودة في رومانيا فتح أيون عينيه على الحياة لأول مرة، ومع أن رومانيا بطبيعة الحال دولة هادئة إلا أنها قد استقبلت أيون استقبالًا لا يتمناه أي طفل في العالم، وبالتالي جعلته يخوض واحدة من أسوأ صور الطفولة التي يُمكنكم تخيلها في حياتكم، ومن هنا كانت البذرة الأولى في ثمرة سفاح ومصاص دماء بوخاريست.
طفولة أيون ريمارو
مع أول دقيقة لأيون في الحياة كان يسمع كلامًا سيئًا عن والده، فلوريا ريمارو، والذي لم يكن سوى مُجرمًا عاش وترعرع على السرقة وقطع الطريق، ثم كانت الكارثة الكبرى عندما اتهم في قتل أربع نساء بالعام 1944، لكن عدم كفاية الأدلة كان سببًا كافيًا لإخلاء سبيله، هذا من ناحية القانون، أما من ناحية الجيران والمُحيطين به فلم يتوقفوا ولو للحظة واحدة عن النظر له باشمئزاز، ثم عندما جاء أيون بعد الحادثة بعامين ظفر بنصيبه من نظرات المجتمع السيئة له ولكل أسرته، حتى أصدقاء الطفل الصغير كان يعيرونه بوالده المجرم المارق، وكان هذا أشبه بالمسمار الأول في نعش طفولة أيون.
بعيدًا عن العالم الخارجي كان والد أيون قاسيًا إلى أقصى درجة ممكنة على أولاده، كان يضربهم وينكل بهم بسبب أو بدون سبب، وكان كل ذلك يرجع في الأصل إلى شربه المُبرح للخمور والكحل، حتى والدته، الشيء الجميل الوحيد في حياته، ماتت قبل أن يُكمل الطفل عامه السادس، ليضطر أيون إلى العيش مع أبيه الفظ وزوجة أبيه التي لم تكن تختلف كثيرًا عن أبيه، حياة مستحيلة هي، لكن دعونا نترك هذا الطفل وحياته الآن ونركب قطار الوقت ونطير للعام 1970.
عام الرعب في بوخاريست
كانت الأمور هادئة كما هي العادة، لكن فجأة، وبلا أي مقدمات، قامت الدنيا ولم تقعد في أبريل القابع في عام 1970، حيث أن فتاة قد خُطفت من أمام مدرستها ثم لم تعد للبيت، والحقيقة أنه لمزيدٍ من الدقة فإن الفتاة لم تعد إلى البيت أبدًا بعد ذلك، حتى بعد العثور عليها لم تعد لبيتها، وإنما ذهبت إلى القبور مباشرةً، وما الذي سيفعله هيكل عظمي أصلًا في البيت؟ أجل، لا تتعجبوا، فقد تم قتل الفتاة واغتصابها اغتصاب الأموات ثم بعد ذلك مص دمائها بطريقة أقل ما يُقال عنها أنها وحشية بحتة، ثم ما الذي حدث بعد ذلك؟ لا شيء، ومن الذي فعل ذلك؟ لا أحد يعرف.
كلمة الذعر كانت كلمة بسيطة مقارنةً بما حدث في رومانيا، وقد ازدادت وتيرة الرعب هذه مع اختفاء ضحية أخرى والعثور عليها بعد ذلك بنفس الحالة التي عُثر على الجثة الأولى بها، ثم توالت الجثث والفتيات المختفية بعد ذلك حتى انتشر الرعب بين الناس بطريقة جنونية، وكأنه غاز الخوف الذي تسبب في كل ذلك، والحقيقة أن الناس لم يكونوا يعرفون سوى أمر واحد ويؤمنون به إلى أبعد حد، ثمة سفاح في رومانيا ولقبه هو مصاص دماء بوخاريست!
بداية عملية النسر
لم يكن بالإمكان الصمت أو الجلوس والمشاهدة، خاصةً وأننا نتحدث عن مجرم طليق يقتل في الفتيات بطرق أقل ما يقل عنها أنها وحشية، هذا بالإضافة إلى مسألة مص الدماء التي تخطت حدود المعقول، ولذلك كان لابد من حدوث ما يُسمى بانتفاضة رومانيا الكبرى، والتي شهدت تواجد أكثر من عشرة آلاف شرطي في بوخاريست من أجل الإيقاع بالسفاح المقصود، وطبعًا كان العشرة آلاف شرطي موزعين بين رجال شرطة متخصصين في عمليات القبض ومخبرين يشغلهم جمع المعلومات الممكنة عن تلك الجرائم، حتى الشعب الروماني قد تطوع في عمليات البحث هذه، والتي أسفرت عن إلقاء القبض على ما يربو عن الألفين شخص، بدا للشرطة الرومانية أن مصاص دماء بوخاريست من بينهم، ولكن هيهات.
السفاح لا يزال طليقًا
بالرغم من قلب المدينة رأسًا على عقب وتتبع كل طرف خيط والقبض على أكثر من ألفين شخص مشبوهين إلا أن الجرائم لم تتوقف، وإنما تجاوزت أعداد الضحايا حاجز العشرين، وهذا يعني ببساطة أن السفاح لا يزال طليقًا، وأن كل ما تم فعله قد ضاع سدى، أو على الأقل لم يؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، وبعيدًا عن خيبة أمل الشرطة الكبيرة، إلا أن خيبة أمل الشعب كانت أكبر وأكبر، حيث عبروا عن أسفهم من خلال مقاطعة كل شيء وإغلاق بعضهم المنازل على بناتهم، كان الجميع يخشى التعرض لقبضة السفاح الغير قابل للإيقاع به حسبما بدا من عجز الشرطة، لكن، لأن القدر أفضل كاتب سيناريو في العالم، فقد كتب لنهاية هذه القصة واحدة من أغرب النهايات التي يُمكن أن تسمعوا بها في حياتكم.
الورقة تقود إلى السفاح
في مرة من المرات التي تم الإبلاغ فيها عن ضحية جديدة من ضحايا مصاص دماء بوخاريست، ذهبت الشرطة إلى مكان الحادث، أو مسرح الجريمة كما يُطلق عليه، وهناك تم رفع البصمات وعمل كل الإجراءات المعتادة، لكن لم يكن هناك أي جديد، وبالصدفة عثر أحد المحققين على ورقة صغيرة مدون بها رقم طبيب علاج نفسي، وقد توقع البعض أن يكون تلك الورقة الغرض الرئيسي منها هو التضليل، بمعنى أن يتم إيهام الشرطة بأنه مجنون!
لم تكن الورقة لهذا الغرض، فقد اتضح فعلًا أنها قد سقطت سهوًا من المجرم، وأكبر دليل على ذلك أنه بالذهاب إلى الطبيب النفسي وعمل التحقيقات اللازمة تبين أن مريض فعلًا كان يحمل هذه الورقة، لكن لم يأتي في أي مرة للعلاج، فقط جاء مرة وأخذ الرقم، ومع البحث تم التوصل إلى ذلك المريض، أو مصاص دماء بوخاريست الذي قُتل بحثًا، هل تعرفون من هو؟ إنه ذات الرجل الذي تحدثنا عنه في البداية، أيون ريمارو بشحمه ولحمه.
القبض على السفاح
في مايو القابع في عام 1971 تمكنت الشرطة من إلقاء القبض على أيون ريمارو، أو مصاص دماء بوخاريست الذي أشاع الفوضى بها طوال ما مضى من الوقت، وطبعًا كان الأمر أشبه بصدمة، وبالأخص لأصدقاء أيون وما تبقى من عائلته، لأنهم لم يتخيلوا ولا حتى في الحلم أن أيون الهادئ اللطيف هو نفسه الشخص الذي ارتكب العديد من الجرائم وقام بمص دماء ضحاياه، أيُمكن أن يكون ذلك الهادئ هو السفاح!
أُعلن نبأ سقوط السفاح في كل مكان برومانيا، بات الجميع يعرفون أن السفاح الذي أرعب المدينة طوال الفترة الماضية قد أصبح أخيرًا في قبضة العدالة، وأنه جاهز للاقتصاص منه في أي وقت مناسب، لكن، بعد القبض على أيون بفترة قصيرة ظهرت معلومة خطيرة كان من شأنها قلب الطاولة رأسًا على عقب.
أيون يدعي الجنون
بعد القبض على مصاص دماء بوخاريست بفترة قصيرة سُرب من داخل المحاكمة أن هيئة الدفاع عن أيون تدعي أنه شخص مجنون غير مسئول عن أفعاله، وقد استدلت في لك ببعض السجلات التي تؤكد دخوله المصحة، كما أنها قد وضعت ما تعرض له في طفولته من مآسي نصب أعين المحكمة وطلبت منه الرأفة بحاله، لكن الأمر عندما أُشيع وأثار غضب الرأي العام لم تتمكن المحكمة من الأخذ به، وإنما خولت الأمر إلى اللجنة طبية قضت بأن أيون ليس مجنونًا أو يُعاني من أي خلل في رأسه، ولهذا تم اعتماد الحكم عليه وتنفيذه.
نهاية مصاص دماء بوخاريست
كانت النهاية شبه منطقية ومُستحقة، فبعد أن ثبت أن أيون فقط كان يدعي الجنون وليس مجنونًا بحق كان من اللازم تنفيذ الحكم، خاصةً وأن الأمر كان يحظى بزخم شعبي كبير، فالجميع يُريد أن يرى رأس ذلك الرجل وهي مُعلقة على أسوار رومانيا، وبالفعل، في عام 1975، وبعد مرور حوالي أربع سنوات على هذه الجرائم، تم تنفيذ الحكم في سجن خاص، وذلك من خلال إطلاق النار من سبعة جنود على رأس أيون، والذي قيل أنه كان يتملص من أيدي منفذين الحكم في البداية ويبكي بكاء الطفل، لكن هذا لم يمنع من تنفيذ الحكم وإطلاق عشر رصاصات، واحدة منهم فقط كانت قاتلة.
مُجرم ابن أبيه
هل تذكرون ما تحدثنا عنه من قبل بشأن كون والد أيون قد اتهم عام 1944 بقتل أربع نساء؟ الأمر الغريب أن الشرطة الرومانية قد تمكنت بعد أكثر من ثلاثين عام إثبات الحكم، ليتضح أن مصاص دماء بوخاريست ابن بار لأبيه الذي قتل أربعة نساء، عمومًا، فإن نهاية الأب كانت لا تقل سوءًا عن نهاية الابن، فقد تم العثور على جثته مُلاقاة من أحد القطارات، وقد قيل إنها لم تكن حادثة سقوط عادية، وإنما دفعه أحد أهالي الضحايا الذين قتلهم، وهنا يُمكننا القول أن الأبناء لا يرثون الجينات الخلقية فقط، وإنما كذلك الصفات النفسية والعدوانية!
أضف تعليق