تُعتبر مزرعة الجثث، أو مدينة جونز، أحد أهم الأماكن في التاريخ بأكمله، وليس هذا لمجرد وجود طائفة من المنحرفين دينيًا، والذين مارسوا الطقوس الدينية بشكل خاطئ، وإنما بسبب المذبحة الدامية التي حدثت بها في الثامن عشر من نوفمبر القابع في عام 1978، والذي ظلّ تاريخًا أسودًا على الولايات المتحدة الأمريكية حتى جاء الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وشاركه هذا السواد، فدعونا في السطور التالية نتعرف على ما حدث بالضبط داخل هذه المزرعة أو المستوطنة ومن هي الطائفة التي كانت تقطنها ولماذا، أو ببساطة، دعونا نتعرف على مُلابسات حادثة مزرعة الجثث.
مزرعة الجثث واكبر انتحار جماعي في التاريخ
ما قبل مزرعة الجثث
قبل مزرعة الجثث كانت هناك العديد من الأحداث التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت بالقضاء على هتلر في الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت بعدها دعوات التحرر في الظهور والانتشار، وزادت أعداد الطوائف المتُعصبة والمُتطرفة، وقد كان كل ذلك من صنع بعض الشباب البيض الذي جعلوا من أنفسهم أوصياء على الشعب الأمريكي بأكمله، ورفضوا ما كان يُرَوج له من قبل الحكومات وقتها من فصل البيض عن السود، وإلغاء ما كان مُنتشرًا وقتها من عبودية ضمنية، بمعنى أدق، كانوا يحلمون بتطبيق الشيوعية بحذافيرها، وكان من ضمن هؤلاء الحالمين شاب أبيض من أصل أيرلندي يُدعى جيم جونز.
جيم جونز وبداية النهاية
كان جيم جونز يحلم بتوحيد الشعب الأمريكي تحت راية الشيوعية، حيث لا فارق بين أبيض وأسود أو غني وفقير، وقد بدأ أول خطواته نحو تنفيذ حلمه عام 1956، وذلك بتأسيس جماعته الغريبة “كنيسة الشعب”، وبالطبع يتضح من المُسمى أنه أراد أن يفتح زراعية أمام كل مسيحي أمريكا، وهذا بالفعل ما حدث.
كان أصحاب البشرة السوداء هم أول من آمنوا بأفكار جونز وانضموا له، لكنهم لم يأتوا وحدهم، بل كان هناك ثلة من البيض أيضًا، رأوا في جونز مُخلّصًا لهم من الفراغ العاطفي والروحي الذي كان يُحدق بهم، إضافةً إلى بعض المُثقفين الذين أغرتهم ثقافة جونز ووداعته.
جونز ومزرعة جونز
مع الوقت بدأ جيم جونز يُظهر وجهه الحقيقية لأتباعه، وبدأت مرحلة الاستعباد الكاملة، حيث أصباح أعضاء جماعة كنيسة الشعب الذين انضموا لتغيير حالتهم الاجتماعية في البلاد مجرد جُرذان خاضعين خضوعًا تامًا لمن وصف نفسه بالنبي جيم جونز، أو الإله جونز كما قال فيما بعد.
بدأ أنصار جونز في التنقل بين الولايات بحثًا عن الاستقرار والأمان، فلم يجدوا بُدًا من الذهاب خارج البلاد والاستقرار في مزرعة صغيرة تقع على حدودها، تم تسميتها من قِبل المخدوعين بمزرعة جونز، وبالطبع بدأ جميع أنصار جونز وأعضاء كنيسة الشعب في التوافد إلى تلك المزرعة التي كانوا يعتقدونها جنة الله في أرضه.
بوادر مزرعة الجثث
في المزرعة لم يجد أحد الجنة، كان هناك الجحيم فقط، وكانت الأعداد أكثر من أن تتحملها البيوت الموجودة هناك، حتى أن العشرين شخصًا كانوا يبيتون في مساحة العشر أمتار فقط، وبالطبع كانت النساء معزولة عن الرجال، فلم يستطع الزوج مُلاقاة زوجها أو الاختلاء بها، أما من يُفكر في القتل فكان يجد الموت واقفًا له بالمرصاد ومُحدقًا فيه، ببساطة، تحولت المزرعة إلى قطعة من الجحيم.
وصلت أخبار مزرعة جونز إلى الكونجرس الأمريكي، حيث بات الجميع يعرف أن رجل يدعى جيم جونز يحتجز حوالي ألفي شخص في مزرعة صغيرة ويُسخرهم لخدمته، وأنه لا يسمح بخروج أحد إلا بإذنه أو بقبره، لذلك كان لابد من اتخاذ خطواتٍ صارمة.
ليو رايان ومحاولات الإنقاذ
وصلت العديد من رسائل الاستغاثة إلى الكونجرس الأمريكي، جميعها تصف ما يحدث داخل هذه المستوطنة من جرائم وتُطالب الحكومة بالتدخل وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، ومن ضمن هذه الرسائل وقعت واحدة في يد النائب ليو رايان، وكان فحواها أن جونز يُجبرهم على العمل الشاق وأن أغلبهم يموت هناك من درجة الرطوبة وقلة الطعام، وأن أحدهم حاول من قبل الغابة فتم التهامه من قِبل الأسود.
أثارت هذه الرسالة حفيظة ليو رايان وقرر التوجه مع وفدٍ من الصحفيين إلى هذه المزرعة، وذلك للوقوف على صحة ما وصل إليه من رسائل استغاثة، وهناك، ظهرت الأمور مُختلفةً تمامًا عما كان يُقال في الرسائل، وبدا الجميع سعداء ومُرتاحين، وعلى ما يبدو أن جونز كان قد أجبرهم على الظهور بهذا الشكل.
المُحاولة الأخيرة
عندما يأس ليو رايان من المراقبة الغير مُجدية قرر العودة أدراجه من جديد، في هذا التوقيت جاءته رسالة من أحد القابعين إجباريًا في جونز، فحواها أن الأشخاص في هذه المزرعة غير قادرين على التحدث بسبب تهديد جونز، وأن أغلبهم، إن لم يكن كلهم، يُريدون الخروج من هذا الجحيم.
في اليوم التالي قام رايان باستجلاب شاحنة وطاف المزرعة داعيًا من يرغب في الخروج معه بالركوب، فلم يستجب له سوى فئة قليلة فقط، لقيت حتفها مع رايان وطاقمه الصحفي في الطريق، وذلك من خلال عربة دفع رباعي قامت بالانقضاض عليهم وفتح نيران وفوهات المدافع.
الاستعداد للمذبحة
وصل الخبر المنتظر إلى جونز في المزرعة، وهنا تيقن أن الحكومة الأمريكية لن تصمت على قتل نائب الكونجرس رايان وطاقمه، لذلك أشاع في الناس أن الولايات المتحدة الأمريكية غير راضية باستقلالهم عنها، وأنها ستُرسل من يقومون بقتل كل شخص على وجه هذه المزرعة واجتثاثها من جذورها.
وبالطبع صدق الجميع كالعادة شائعات جونز، وقرروا اتباعه في كل ما يأمرهم به لاجتياز هذه الأزمة، ولم يكونوا متوقعين أبدًا بنوايا جونز المجنونة، والتي تُخالف تمامًا ما وعدهم به في بداية تأسيس جماعة الكنيسة.
مذبحة مزرعة الجثث
طلب جونز من الجميع القتل، لكنه للغرابة طلبه لهم، حيث أمر كل شخص بقتل أسرته ونفسه، وذلك حتى يتمكن من الفرار مما ينتظره عند وصول الأمريكان، والذين سيقومون بإذلالهم قبل قتلهم، في المقابل، إن قتلوا هم أنفسهم فسيدخلون الجنة وينعمون بالنعيم الأبدي، هذا ما وعدم به جونز وهذا ما صدقوه ونفذوه.
صبيحة الثامن عشر من نوفمبر عام 1978 قام أفراد المزرعة بتنفيذ ما أمرهم به جونز وسط ثقة مُفرطة، حيث قاموا بخلط السم بالطعام وناولوه أطفالهم ثم تناولوه هم بعدها، ليلقى جميع من في المزرعة حتفهم في أقل من خمس دقائق.
نهاية جونز
في اليوم التالي وصلت القوات الأمريكية إلى مزرعة جونز كما تنبأ وليم جونز، لكنهم جاؤوا من أجل إنقاذ شعبهم من سطوة هذا المتطرف المجنون، لكنهم وجدوهم يفترشون أرض المزرعة بأكملها في مشهد أسطوري سخيف جعل كل العقول ترتجف في مكانها، في حين تم العثور على جونز في أحد الحانات مُمسكا بالمسدس الذي كان يصوبه إلى رأسه قبل أن يقتل نفسه.
الناجين من هذه المذبحة كانوا العقلاء الذين لم يقتنعوا بأفكار جونز واختبئوا في بيوتهم وقت القتل، وقد كانوا قلة صغيرة، أما من ماتوا فكانوا يتجاوزون الألف شخص، ثلثهم من الأطفال والنساء، لتظل حادثة مزرعة الجثث نقطة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والتطرف الديني عمومًا.
أضف تعليق