بدأت قصة مذبحة القلعة ببناء قلعة صلاح الدين الأيوبي، وبالطبع لم يكن صلاح الدين يعلم عند بنائه لتلك القلعة أن واحدة من أشهر عمليات الاغتيال في التاريخ سوف تحدث فيها، والتي عُرفت فيما بعد باسم مذبحة القلعة، ولم يكن يعرف أيضًا أن حاكم مصر في هذا الوقت، محمد علي، كان يُفكر في تلك الطريقة الوحشية للتخلص من مُنافسيه على الحكم، كان صلاح الدين يبني قلعة من الحجارة وعرق الرجال، وكان محمد علي يُفكر في تزيينها بالدماء والأجساد، تناقض كبير إذًا، أسفر في النهاية عن أشهر الوقائع التاريخية، والتي سنبدأ في تناولها سويًا بالسطور الآتية.
مذبحة القلعة من أكبر المذابح التي حدثت في التاريخ فما هي أسبابها؟
أبطال مذبحة القلعة
لكل قصة أبطال، وقصة مذبحة القلعة في الحقيقة اعتمدت بشكل كبير على البطولة المشتركة بين محمد علي والمماليك، إلا أن محمد علي تمكن في منتصف الحكاية من الانفراد بالبطولة والتغريد وحيدًا في حكم مصر، دون شريك أو طامع، دون خوفٍ أو وجل، دون المماليك.
المماليك، بداية ونهاية
لأننا بصدد التحدث عن مذبحة القلعة، ولأن المماليك كانوا ضلعًا رئيسيًا فيها، فسوف نقوم بالمرور على بدايتهم مرورًا عابرًا، وقد بدأت القصة باختصار على يد أحفاد صلاح الدين الأيوبي، والذين فضلّوا في إحدى فترات الضعف الاستعانة بجيش من الشراكسة والعبيد، تمت تسميتهم بالمماليك، وقاموا بتعليمهم كافة شئون الحرّب والقتال، وولوهم على الجيش حتى قويت شوقتهم وتمكن أحدهم، ويُدعى قطز، من الانتصار على التتار في إحدى الفترات العصيبة والظفر بالحكم عن طريق الملك وقتها عز الدين أيبك، لكن صلاحهم لم يستمر طويلًا حتى أن الناس في مصر باتوا يكرهونهم وقاموا بشكايتهم للوالي العثماني وقتها خورشيد باشا، وهو الوقت الذي بدأ فيه ظهور محمد علي.
محمد علي يعتلي الحكم
كان الأمر أشبه بالحلم لذلك الرجل الذي نفذ مذبحة القلعة، فقد جاء في البداية كجندي عادي في حملة عثمانية لمواجهة الحملة الفرنسية، ثم تمكن خلال سنوات قليلة من كسب ود المصريين والتقرّب إليهم وإشعارهم أنه المُخلّص الوحيد لهم من بطش المماليك، وهذه بالفعل ما نجح فيه عام 1805 عندما انتفضت مصر بأكملها من أجل توليتها على حكم مصر، بل وقاموا أيضًا بالوقوف في وجه السلطان العثماني من أجل إصدار الفرمان الخاص به، ليصدر فعلًا الفرمان ويُصبح محمد علي واليًا على مصر، لكن، هل امتثل المماليك للأمر أم فتحوا على أنفسهم أبواب الجحيم والمذبحة؟
لماذا مذبحة القلعة؟
كان من المماليك منذ اليوم الأول، وقبل التفكير في مذبحة القلعة من الأساس، يكرهون محمد علي ويرون فيه الرجل الماكر المُتخفي، لذلك قاموا بالوشاية به لدى السلطان العثماني أكثر من مرة وكادوا له كل المكائد الممكنة، ولما فشل الأمر لجأوا إلى الكارت الأخير في لعبة التضييق تلك، وفتحوا أبواب مصر أمام الحملة البريطانية، لكن الشعب المصري تمكن من صدها وإفشالها، ليُدرك محمد علي بعد ذلك أنه لا مناص من التخلّص من المماليك دفعة واحدة وتخليص البلاد من شرهم، ويبدأ التفكير جديًا في مذبحة القلعة.
بداية مذبحة القلعة
بعد أن تأكد محمد علي أن المماليك لن يتركوه ينعم بحكم مصر، وأنهم ما حيوا سيظلون متربصين للتخلص منه، قرر الرجل الماكر الظفر بهم في الغداء قبل أن يظفروا به في العشاء، فقط كان ينتظر الوقت والطريقة المناسبة، وهو ما أتاحه له الولي العثماني بالفعل عندما طلب من محمد علي الخروج في حملة إلى الحجاز وتخليصها من الوهابيين، فقرر على الفور استغلال هذا الأمر ودعوة المماليك للعشاء على شرف تلك الحملة.
الفأر يدخل المصيدة
استجاب المماليك بسذاجة لدعوة محمد علي، واحتشدوا جميعًا بقلعة صلاح الدين في الحادي عشر من شهر مارس عام 1811، حيث توافدوا على القلعة قبل حلول المساء، وأخذوا يأكلون ويتراقصون وكأنهم يأخذون كل مُتعهم من الدنيا دفعة واحدة، ثم شرعوا في نهاية الليل بالرحيل، لكن محمد علي، والذي كان يُخادعهم بمكر ودهاء، طلب منهم توديع الجيش الذاهب للحجاز قبل المغادرة، وبالفعل ذهبوا جميعًا لتوديعه آمنين، ولم يستطع أحد منهم اكتشاف ما رُتب لهم، وأنهم باتوا كفئران دخلت بأقدامها المصيدة، لتبدأ بعد ذلك حفلة أخرى من نوع آخر، حفلة صيد المماليك.
مذبحة القلعة
في الحقيقة، جاء تنفيذ مذبحة القلعة بعد تخطيط وتكتيك شديدين من محمد علي، حيث جعل المماليك بين الجيش والجنود الألبان المُرتزقة، وعندما أعطى الأمر بالهجوم كان الأمر أشبه بكماشة تم تنفيذها خصيصًا من أجل المماليك، وقد أدت هذه الكماشة إلى جعل فرص النجاة شبه منعدمة، وهذا ما حدث.
بدأ الهجوم بعد إشارة محمد علي، ليبدأ بعده صراح المماليك الذين شعروا أن السماء كانت تُمطر الرصاص عليهم، لذلك لم يتمكنوا من صد تلك الهجمات، وخاصةً مع الموقع الضيق الذي حُبسوا فيه، والذي كان مقصودًا بالطبع للتقليل من فرص الفرار أو النجاة، والواقع أن الشفقة في هذه المذبحة كانت أمرًا غير مطروح مُطلقًا.
الرأس مُقابل المال
أراد محمد علي أن يجعل نهاية المماليك شبه حتمية في هذه المذبحة، لذلك وعد جنوده أن يقوم بإعطاء حفنة كبيرة من الأموال نظير كل رأس مملوكي يأتون بها، ولقد أدى هذا العرض إلى تصارع الجنود على اصطياد المماليك مثل الفئران، حتى أن الشعب المصري كان يسمع أصوات صراخهم على باب القلعة، بينما كان محمد علي يجلس في قصره غير آبه بكل ذلك ومتُلذذ بما يسمعه من أصوات، لتستمر المذبحة أكثر من ست ساعات ويسقط ما يزيد عن ألف شخص من المماليك في أكبر عملية اغتيال سياسي حدثت بالتاريخ الحديث.
الناجون من المجزرة
مما لا شك فيه أن ما حدث في تلك الليلة بقلعة صلاح الدين كان مجزرة بكل المقاييس، لكن هناك أشخاص، من المماليك تحديدًا، تمكنوا الهرب من مذبحة القلعة تلك ونجوا بأعجوبة، وهم بالطبع أولئك الذين لم يستجيبوا لدعوة محمد علي وشعروا أنها تنطلي على خدعة جديدة من خدعه، أو ذلك الشخص الوحيد الذي استطاع الهرب من الرصاص وبطش الجنود الشراكسة والألبان واختبئ بأحد البيوت حتى انتهت المذبحة وخرج ليحكي لنا ما حدث هذه الليلة وما كان يُمكن أن يُزيفه التاريخ ويُبدل حقائقه، لكن الحقيقة أن الشرور كلها لم تقع داخل القلعة فقط، بل كان هناك أيضًا بعض المساوئ التي حدث خارج جدران قلعة صلاح الدين الأيوبي.
ما بعد المذبحة
بعد مذبحة القلعة وما حدث فيها من قتل وسفك لدماء المماليك أراد محمد علي أن يُجهز على المماليك قبل أن يتمكنوا من استعادة قواهم من جديد، لذلك قرر أن يُرسل جنوده من الشراكسة والألبان إلى بيوت المماليك في ربوع مصر وحرقها بمن فيها، وذلك حتى يضمن تمامًا أن ما أراده من البداية سيحدث، وأن المماليك لن تقوم لهم قومة بعد ذلك، وهذا ما حدث بالفعل، حيث أعمل جنوده القتل والحرق في كل ربوع المحروسة لكل ما هو تابع للماليك مدة أسبوع كامل، ثم خرج بعدها محمد علي وأمر جنوده بالتوقف وإعادة الاستقرار من جديد، وذلك بعد أن نفذ أكبر عملية اغتيال سياسي بالتاريخ.
أضف تعليق