تسعة مجهول
فارمان ودي هافيلاند
الرئيسية » الغاز » فارمان ودي هافيلاند : أول مأساة في تاريخ الطيران

فارمان ودي هافيلاند : أول مأساة في تاريخ الطيران

حدثت الكثير من الحوادث في تاريخ الطيران، لكن أول حادثة لها نكهة خاصة، في هذه السطور نتحدث عن حادثة سقوط الطائرتين فارمان ودي هافيلاند .

إن ما يجعل حادثة سقوط الطائرتين فارمان ودي هافيلاند أكبر كارثة في تاريخ الطيران المدني ليس سقوطهما بالقرب من جزيرة فرنسية بشكل بشع أو موت جميع الركاب، فلو لم تكن طائرتا فارمان ودي هافيلاند أول طائرتين تم صنعهما في تاريخ الطيران المدني لكان الأمر مختلفًا، فحوادث الطائرات تحدث باستمرار، بل ولم تعد أي دولة الآن تحمل سجل نظيف من حوادث الطيران، لكن أن تصطدم الطائرتان بهذا الشكل وفي بداية عهد جديد في الطيران فتلك هي الكارثة الحقيقية، كارثة اصطدام الطائرتان فارمان ودي هافيلاند، أكبر مأساة في تاريخ الطيران المدني، وأول حادثة اصطدام جوي في غير المعارك الحربية.

فارمان ودي هافيلاند : القصة الكاملة لأول كارثة اصطدام في تاريخ الطيران

اختراع الطائرات المدنية

حتى بدايات القرن العشرين لم تكن السماء تعرف ما يُسمى بالطائرات المدنية المخصصة لنقل الركاب فقط، فمنذ فجر الطائرات واختراعها على يد الأخوان رايت عام 1903 وهي تُستخدم في الحروب والمعارك، ولا تعمل إلا بنقل المعدات الحربية وأفراد الجيش والمؤن العسكرية، وكان هذا هو السبب الرئيسي في اختراعها.

مع مرور الوقت وانتهاء الحرب وظهور الحاجة إلى نقل المدنيين عبر الطائرة بدلًا من القطار الذي كان وسيلة السفر الشائعة في هذا الوقت بدأت الدول في تطويع الطائرات العسكرية واستخدامها في نقل المدنيين، ومع عدم تلائم الأمر ظهرت الحاجة إلى طائرات مدنية مُخصصة للمدنيين فقط، فتم التفكير في اختراع الطائرة قُبيل بداية العقد الثالث من القرن العشرين، وكانت أول طائرتين في تاريخ الطيران المدني هما فارمان الفرنسية، ودي هايفلاند البريطانية.

فارمان ودي هافيلاند

قبل خمسة أيام فقط من أول حادثة طيران في التاريخ المدني انتهت شركة دي هافيلاند البريطانية من تصنيع أول طائرة تقوم على خدمة الركاب المدنيين فقط، وقد كانت الطائرة آنذاك مكونة من عشرة مقاعد فقط بالإضافة إلى قُمرة الطائرة، وكانت تُستخدم بلا جوزات سفر، بل كان يتم تأجيرها عن طريق شركة دي هافيلاند المالكة لها، والتي صنعت من هذا الطراز خمسة طائرات فقط على سبيل التجربة، وقد كانت أول رحلة لطائرة الدي هافيلاند في الثاني من أبريل عام 1922، أي قبل حادثة الاصطدام بخمسة أيام فقط، حيث كانت في صباح السابع من أبريل.

شركة فارمان بدورها بدأت في دخول مجال الطيران المدني في نفس العام، وهي شركة قديمة كانت مُخصصة في إنتاج الطائرات الحربية طوال فترة الحروب، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قامت الشركة بإجراء تعديلات على طائرات الفارمان حتى أصبحت جاهزة للاستخدام المدني، وكانت في نفس تصميم طائرات الدي هافيلاند من حيث عدد المقاعد والشكل الخارجي، لتُصبح جاهزة للاستخدام المحلي داخل فرنسا وتحديدًا على الخط الفرنسي لابورجيه كرويدون.

الرحلة المنكوبة

في صباح السابع من أبريل سنة 1922 انطلقت خامس رحلة من طائرات دي هافيلاند متجهة من انجلترا إلى فرنسا، وكانت تحمل أظرف البريد إضافة إلى قائد الطائرة ومُساعده واللذان كان حتى خمسة أيامٍ مضت طيارين عسكريين مُعتادين على الاشتباك مع الطائرات وإسقاطها، ويبدو أن هذا ما حدث في لحظة طقسٍ غير مُستقرة.

الطائرة الفرنسية فارمان انطلقت بدورها بغد انطلاق الدي هافيلاند بنصف ساعة، وكانت متجهة إلى مدينة كرويدون، حاملةً ثلاثة ركاب بينهم رجل أعمال وزوجته، وقائد الطائرة ومُساعده، أي أنها كانت تحمل خمسة أشخاص، ليصبح عدد ركاب الطائرتين سبعة أشخاص، لم يستمروا في الجو أكثر من ساعة ونصف، وفوق جبل بيكاردي بفرنسا ودع ستة أشخاص منهم الحياة دفعةً واحدة، أما السابع فأخذ الأمر وقتًا معه.

انقلاب الطقس

كان الطقس في بداية الرحلة خادعًا لطائرتي فرمان ودي هافيلاند، حيثُ بدا وكأنه مُستقرًا هادئًا، وكان الركاب الذي كانوا جميعًا من الأثرياء يتناقشون في أعمالهم التي تُساوي الملايين، قبل أن ينقلب الأمر فجأة عند جبال بيكاردي، وتبدأ العاصفة المصحوبة بالمطر والرياح والضباب، أي أن هذا الهدوء كان فقط الهدوء الذي يسبق العاصفة.

بعد ساعتين من إقلاع الطائرتين فارمان ودي هافيلاند جاءت العاصفة، وعم الضباب وقويت الرياح وأمطرت السماء بكثافة، ووسط عتمة الضباب، وكثافة رذاذ المطر، ومن فوق ارتفاعٍ يصل إلى مئة وخمسين مترًا، حلقت الطائرتين في طريقٍ واحد والتقيا وجهًا لوجه للمرة الأولى في تاريخ الطيران المدني.

الاصطدام

كانت المواجهة بين طائرتي فارمان ودي هافيلاند مواجهة غير مقصودة على الإطلاق، فقد حاولت كلا الطائرتين تحاشي الأخرى إلا أن الطقس مُتمثلا في العاصفة والمطر والضباب لم يسمح لهما بذلك، ليحدث الاصطدام وتسقط الطائرة الإنجليزية دي هافيلاند أولًا بعد أن فقدت الجناح الأيسر والذيل دفعةً واحدة، أما الطائرة الفرنسية فارمان فحاولت التماسك قدر الإمكان لكنها لم تستطع الصمود أكثر من خمسة دقائق، لتسقط هي الأخرى وتلقى مصير الطائرة الإنجليزية، كان هذا في صباح السابع من أبريل عام 1922، وكانت هذا أول حادثة طيران في تاريخ الطيران المدني.

مصيرُ الركاب

من شكل الاصطدام المروع بدا مصير الركاب معروفًا، حيث لقي الجميع حتفه لحظة السقوط، عدا شخص واحد استطاع التماسك ليومٍ واحد، ومات في المستشفى بعدها مُتأثرًا بجراحه، ليتم دفن الضحايا السبع بجوار بعضهما في مدينة بيكاردي الفرنسية، وتُقام جنازة عسكرية كبيرة يحضر فيها ذوي الضحايا من كِلا الدولتين.

شائعات عن الاصطدام

خرجت الكثير من الشائعات بعد سقوط هاتين الطائرتين وكان أهمها هاتين الشائعتين:

1- إسقاط من أجل الحرب

قيل بعد حادثة اصطدام الطائرتين فارمان ودي هافيلاند أن الأمر كله كان مُرتبًا، وأن الحادثة لم تكن حادثة اصطدام عادية بل كانت جريمة قتل، تم تدبيرها من جانب بعض أصحاب النفوذ والمصالح للإيقاع بين الدولتين والتعجيل بحرب عالمية ثانية، وذلك حتى ترتفع أسعار النفط مرة أخرى والتي انخفضت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهذا الادعاء رغم وجود سبب منطقي له إلا أنه يُعد مُستبعدًا بسبب تفاصيل وقوع الحادث والتي لا تدع مجالًا للشك في هذا الأمر، وحتى لو تم إثباته فهو في النهاية لم ينجح في تنفيذ أهدافه، حيث وقفت الدولتين بجانب بعضهما بعد عقدين في الحرب العالمية الثانية ولم تتوتر علاقتهما بسبب هذا الحادث.

2- إسقاط بسبب البريد

من ضمن التخمينات التي قيلت أيضًا أن شحنة البريد التي كانت تحملها الطائرة الفرنسية ومتجهة بها إلى لندن كانت تحتوي على الكثير من الشفرات السرية المسربة من الموساد الإسرائيلي، وأن أحد الرجال اليهود قد عرض أي مبلغٍ من المال في مقابل إيقاف هذه الشحنة إلى لندن، لذلك تم تدبير هذا الحادث، وهذا أمر مستبعد بالطبع حتى من دون النظر إلى الدليل، لأن أجهزة الطيران الفرنسية والإنجليزية في هذا الوقت كان لا يمكن اختراقها من قبل جهاز تابع لبعص العصابات التي لم تكن أسست دولةً لها بعد، كما أن البريد يتم فحصه جيدًا قبل النقل ولو كانت به أي شبهة لتم اكتشافها وهذا لم يحدث، لذلك يظل هذا القول قولًا مستبعدًا.

بعيدًا عن كل ذلك وقفت شركات الطيران المدنية وقفةً مع هذه الصناعة التي تعرضت للخسارة في بدايتها، وتم تحسين جودة الخدمة تحسبًا لتكرار مأساة طائرتي فارمان ودي هايفلاند، أول مأساة في تاريخ الطيران المدني.

محمود الدموكي

كاتب صحفي فني، وكاتب روائي، له روايتان هما "إسراء" و :مذبحة فبراير".

أضف تعليق

4 × أربعة =