حظيت قضية العربي المغربي عمر رداد، والمعروفة باسم عمر قتلني ، بشهرة واسعة طوال خلال العقد الأخير من القرن العشرين واستمرت كذلك حتى هذه اللحظة بسبب الغموض الشديد الذي يكتنفها، حتى أن فرنسا بعظمتها وقوتها لا تزال تعتقد بأن تلك القضية تُعد أكبر قضية مرت على التحقيق والقضاء الفرنسي، وطبعًا ربما يُثير أمر مثل هذا اندهاشكم إلا أن الممعن حقًا في هذه الجريمة وتفاصيلها سوف يُدرك أننا نتحلى بالكثير من المنطقية عند وصفنا لتلك الجريمة بالمعجزة، معجزة ربما لم يتوصل العالم حتى الآن إلى طريقة لفك طلاسمها، وإن كنا سنحاول فعل ذلك سويًا من خلال السطور القادمة، أو على الأقل سنحاول تقريب الأمور على أولئك الذين لا يعرفون شيئًا عن هذه القضية، فما هو لغز كلمة عمر قتلني المكتوبة في قبو القتيلة الفرنسية؟ ومن هو عمر رداد المتهم الأول في هذه الجريمة؟ وإلى أي حد يُمكن أن نقول بأن الجريمة المُحيرة قد انتهت؟ كل هذه الأسئلة وأكثر سوف تجدون الإجابة عليها بعد لحظات، فهل أنتم مستعدون؟
أبطال اللغز الكبير
في البداية، وبطريقة منطقية لا غبار عليها، دعونا نتعرف على أبطال هذا اللغز الكبير لكي نكون أكثر فهمًا عند تناول الأحداث، ولتكن البداية مع عمر رداد، صاحب البطولة الذكورية في القضية، فذلك الرجل قد ولد في المغرب مطلع النصف الثاني من القرن العشرين وعاش لمدة ستة عشر عام فقط في المغرب، ثم هاجر بعد ذلك إلى فرنسا، والتي كانت تحتل المغرب في هذا الوقت، وعاش فيها مستغلًا التقارب الشديد بين البلدين، وقد كان بالرغم من معيشته في فرنسا غير قادر على التحدث بالفرنسية، لكنه كذلك تمكن من الزواج والإنجاب والعمل كبستاني في منزل البطل الثاني في لغزنا الذي نتحدث عنه، جيزلين مارشال.
على العكس تمامًا من عمر كانت جيزلين مارشال، فهي سيدة ثرية، ازداد ذلك الثراء بعد وفاة زوجها وحصولها على جميع أمواله بسبب كونها أرملته، وقد كانت عندما عمل عمر معها تتجاوز الستين بقليل، إلا أنها كانت تحتفظ بكامل جمالها، وطبعًا معيشتها في بيت كبير به حديقة واسعة دفعتها إلى الاستعانة ببستاني مميز، وهنا بدأ نجم عمر رداد يلوح في الأفق، لتبدأ بعدها قصتهما سويًا، والتي انتهت نهاية بشعة إلى أبعد حد يُمكن تخيله.
اختفاء جيزلين، بداية اللغز
في شهر يونيو القابع في عام 1991 تلقت الشرطة بلاغًا من أصدقاء جيزلين يقولون فيه أن صديقاتهم المغربة جيزلين مارشال لم تظهر منذ أيام، وأنهم لم يتعودوا منها أبدًا على ذلك الغياب الطويل، لذلك يشعرون أن شيء ما قد حدث لها، وبالفعل أخذت الشرطة البلاغ على محمل الجد وقامت بالذهاب إلى بيت جيزلين والتفتيش فيه عن أي شيء غريب، لكن الشرطة لم تجد شيء في المنزل، وهنا كان من الطبيعي أن تغادر باحثة في مكان آخر، لكن أحدهم لمح قبو صغير شبه مفتوح، ومن هنا يُمكن القول إن قصتنا قد بدأت بالفعل.
كان دخول القبو صعب جدًا بسبب وجود جسم صلب خلفه يُعيق الحركة، لكن الشرطة لم تكن لتتوقف أمام كهذا، وبالفعل تم فتح الباب في دقائق قليلة، وبداخله كان ثمة مفاجأة لم يكن أحد يُريد توقعها، وهي وجود جثة جيزلين في هيئة تقول إنها قد قتلت قبل أيام، لكن المدهش حقًا أن حائط القبو كان مكتوبًا عليه بالدم واحدة من الجمل التي لا يزال تاريخ الجريمة مستمرًا في تخليدها حتى الآن، عمر قتلني.
القبض على عمر
على الفور حاصرت الشرطة الفرنسية عمر رداد بعد أنا قامت بالتحري والبحث عنه، كان الوصول إليه أسهل مما توقعت الشرطة، فهو لم يكن هاربًا أو فارًا من العدالة، بل الحقيقة أنه كان يجلس في عمله كبستاني بمكان آخر وكأن شيئًا لم يكن، أو أنه كان صادقًا ولم يفعل شيء، عمومًا، ما هي إلا ساعات قليلة حتى ربطت الشرطة بين جملة عمر قتلني وعمر رداد البستاني، وبعد تحقيقٍ غريب أذاعت الحكومة الفرنسية أن القضية قد حلت، وأن المجرم الآن بقبضة العدالة!
ما يجعل الأمر غريبًا أن عمر رداد أثناء التحقيق لم يكن يفهم شيء بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، فهو في الأصل لم يكن يتكلم اللغة الفرنسية، ولا حتى العربية، ولذلك كان من المنطقي أن يكون الحديث من جهة واحدة فقط، لكن يا تُرى ما هي الشواهد التي استندت إليها جهات التحقيق الفرنسية في إعلان عمر رداد مذنبًا؟
شواهد إدانة عمر
بالنسبة للشرطة الفرنسية، وحتى لو كان المتهم غير فرنسي، وحتى لو كانت جملة عمر قتلني كافية، فإن إعلان الحكم على الناس يعني كذلك إعلان الشواهد التي تؤكده، والحقيقة أن الشرطة الفرنسية حسب تفسيرها للحكم قد أعلنت بعض الشواهد التي لا تقبل مجالًا للشك، سوف نستعرض أهمها كي نبين وجهة النظر الأولى، وأهم هذه الشواهد بالتأكيد الدافع.
وجود دافع للجريمة
كان عمر فقيرًا وكانت جيزلين غنية جدًا، هذا أول شيء يجب أن يلتفت له الجميع، فعندما يعيش بستاني فقير في بيت امرأة ثرية فإنه بالتأكيد سوف يطمع يومًا فيما تملكه، وسوف يحاول سرقته، وهذا ما تظن الشرطة أنه قد حدث ذلك اليوم، حيث أقدم عمر على سرقة جيزلين ثم قتلها عندما خاف من الفضيحة، لكن أين يا تُرى ذهبت الأشياء التي سرقها؟ لا أحد يعرف، ولا حتى الشرطة الفرنسية نفسها.
جملة عمر قتلني
الأمر الثاني الذي يُزيد من أسهم كون عمر رداد مجرمًا هي جملة عمر قتلني التي تم العثور عليها على باب القبو، كانت مكتوبة بالدم، وعلى يبدو أنه كان دم الضحية، وعلى الرغم من كون الأمر غير مقبول عقلًا إلا أن الضحية في هذه اللحظة لم تُفكر في شيء بخلاف كتابة اسم الشخص الذي قتلها، وهو ما جعل القضية أسهل مما تبدو عليه بكثير.
الدعارة والقمار
أيضًا من ضمن الأسباب التي تجعل من عمر رداد مذنبًا أنه كان قبل ارتكابه لجريمته يتردد على نوادي الدعارة والقمار، وطبعًا كلنا نعرف أن مثل هذه الأماكن لا تجعل من الشخص سويًا، ففي النهاية يظل مشبوهًا ومتوقع منه فعل أي شيء، حتى ولو كان ذلك الشيء هو جريمة قتل.
شهادة الخادمة
الضربة القاضية بالنسبة لعمر، والتي كانت أسوأ من جملة عمر قتلني، أن الخادمة التي كانت تعمل في نفس البيت قد شهدت بأن عمر قد قام من قبل بتهديد السيدة بالقتل في حالة عدم زيادة الراتب الخاص به، وقد رجحت الخادمة أن يكون عمر قد قتلها بدافع سرقتها، لكن هل تتوقعون أن يقوم شخص بقتل رب عمله فقط من أجل السرقة! مع الوضع في الاعتبار أن مصدر الدخل بأكمله سوف ينقطع!
بيان كذب عمر
أمر ثالث جعل الأمور شبه محسومة في هذه القضية، وهو كذب عمر رداد الذي ثبت في بعض الأمور، منها أنه قال بعدم وجوده وقت الحادثة وذهابه لشراء الخبز من مكانٍ ما، وهذا أمر تم إثبات كذبه عندما ذهبت الشرطة إلى المخبز وسألت عن وجود عمر فتم إنكاره، أي أنه لم يحضر من قبل، وما دام لم يحضر فهذا يعني أنه يكذب.
سجن عمر رداد
لم تفكر المحكمة طويلًا، بعد محاكمة استمرت لأكثر من ثلاث سنوات تم الحكم على عمر رادد بالسجن لمدة ثمانية عشر عام، كان من المفترض أن يقضيهم في السجن ويخرج عام 2008، لكن، قبل أن يتم السنوات الخمس كان يُحلق حرًا خارج السجن، وكي يحدث هذا فإن ثمة معجزة قد وقعت لذلك البستاني الفقير.
خروج عمر من السجن
في عام 1998، وقبل أن يقضي عمر رداد عقوبة سجنه كاملة، جاءت بعض التوصيات من حكام فرنسا والمغرب بشأن تبادل المساجين، وقد طلبت السلطات المغربية وجود عمر رداد ضمن هذه الاتفاقية، فهي كانت ترى طوال الوقت أنه مظلوم، وأن شواهد إدانته ليست كافية، بل إنه ثمة شواهد للبراءة أكبر من ذلك بكثير.
شواهد براءة عمر
بعد خروج عمر رداد من السجن والانتشار الكبير الذي شهدته تلك القضية بسبب جملة عمر قتلني الشهيرة، عكف عمر على إثبات براءته، وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من فعل ذلك الأمر حتى الآن إلا أنه على الأقل قد تمكن من وضع بعض الشواهد التي تؤكد براءته، على رأسها الجملة التي أدانته من قبل.
الشك في الجملة الشهيرة
بعد سنوات من الاعتراف بجملة عمر قتلني كشاهد على جريمته تمكن بعض خبراء الخطوط الموالين لدفاع عمر رداد من إثبات كون هذا الخط ليس تابع للسيدة المقتولة، وذلك لسبب بسيط جدًا، وهو أنه كان ثمة خط إملائي في الجملة، ذلك الخطأ لم يكن ليقع من السيدة الثرية المثقفة، ولم يكن عمر ليكتب الجملة لأنه أصلًا لا يعرف الفرنسية، وهذا يعني أن شخص ثالث قد ارتكب تلك الجريمة وأراد نسبها إلى عمر من خلال كتابة الجملة، ولابد أنكم تشكون الآن في الشخص الذي شك فيه عمر منذ الوهلة الأولى، الخادمة، تلك التي شهدت زورًا عليه دون سبب.
الخادمة تكذب
ذكرنا من قبل ضمن شواهد إدانة عمر رداد أن الخادمة كانت تقول بأنه طلب زيادة الراتب وهدد صاحبة المنزل بقتلها إذا لم يحدث ذلك، وطبعًا أخذت الشرطة بهذه الشهادة مع أنه في الحقيقة شاهدة ساذجة، الأدهى أن عمر قد أكد أن تلك الخادمة هي التي قامت بالسرقة أكثر من مرة من الثرية وكانت هي في النهاية من تسامحها بسبب أبنائها.
عمر لم يكن يكذب
ذكرنا كذلك ضمن أسباب اتهام عمر رداد في الجريمة الشهيرة عمر قتلني أنه كذب بشأن تواجده في المخبز وقت الجريمة، وقد اتضح ذلك من خلال سؤال العاملون هناك وإنكارهم رؤية عمر من قبل، لكن ما ثبت فيما بعد أن الشرطة الفرنسية أصلًا قد ذهبت إلى مخبز آخر بخلاف الذي كان يعنيه عمر، وعندما تم الذهاب إلى المخبز الصحيح قالوا فعلًا أن عمر كان عندهم في هذا الوقت، وهذا ما يمحو الجريمة عنه تمامًا، لكن حتى الآن لم يتم رفع الجريمة عن الرجل، ولا يزال يعيش وهو يحمل حكمًا في جريمة لم يقم بارتكابها، هذا بالرغم من كونه متمتعًا بحريته كاملة، لكنها حرية منقوصة.
أضف تعليق