يبدو أن الناس قديمًا لم يجدوا لأنفسهم متعًا أكبر من الحكايات المخيفة والأساطير، أحيانًا تولد الأساطير من قلب اللاشيء هم فقط يصنعونها من العدم، فتخرج شائعةٌ تدعمها الظروف وتنشرها حكايات السمر ليلًا لتتغذى وتكبر وتصبح واقعًا، وأحيانًا تبدأ الظروف بالمبادرة فتغري الناس بأن يحيكوا الأساطير عنها، وأحيانًا لا هذا ولا ذاك وإنما تبدأ الأسطورة بقصةٍ شعبيةٍ هدفها تأديبي وتهذيبي لكن القصة ما إن تنتشر تأخذ مجراها الخاص، لا ندري من أي نوعٍ كانت أسطورة ذوات وجه الخنزير لكننا لو بحثنا عن المعنى التهذيبي والحكمة فيها لوجدناها تحارب بعضًا من أسوأ خصال الإنسان مثل التكبر والطمع واستئثار الخير للذات دون مشاركته، استحقار الآخرين والتقليل منهم يجعلك أكثر وضاعةً وحقارةً منهم في أحد الأيام، هكذا عبرت قصة ذوات وجه الخنزير عن ذلك المعنى لكنها في نقطةٍ ما من التاريخ صارت أكبر من مجرد قصةٍ تهذيبية، بل صارت واقعًا.
تعرف على أسطورة ذوات وجه الخنزير
القصة
هذه المرة لم تكن القصة حكرًا على منطقةٍ معينةٍ ولا بلدٍ محدد بل عدة بلادٍ معًا في نفس الوقت ولا أحد يعرف سر ظهورها ذات فجأة في كلٍ من إنجلترا وفرنسا وهولندا وإيرلندا لكنها انتشرت كالنار في الهشيم لعدة قرونٍ كان أولها القرن السابع عشر، وعلق على الأسطورة العديد من الكتاب والأدباء بسبب ذيوع صيتها وانتشارها المرعب أمثال تشارلز ديكنز بل وآمن بعضهم بوجودها حالهم حال بقية الناس الذين آمنوا بوجود ذوات وجه الخنزير في قراهم ومدنهم وبين معارفهم، تبدأ القصة دائمًا بأن سيدةً ثريةً غنيةً تمر عليها متسولةٌ فقيرةٌ معها أولاد، فتطلب المتسولة من السيدة أن تمد لها يد العون لكن السيدة تأبى وترفض ذلك إما بسبب غرورٍ وكبر وإما بسبب انشغالٍ وضيقٍ وينتهي بها المطاف بأن تطرد المتسولة وتدعو أولادها بالخنازير الصغيرة فتغادر وهي تصب عليها لعناتها وغضبها وتتمنى لها أن تلد أطفالًا أشبه بالخنازير، وتتحقق الأمنية وتضع تلك السيدة طفلةً من ذوات وجه الخنزير، لم يمنعها مالها وجمال جسدها من أن يتحول وجهها لوجه خنزيرٍ كاملٍ وسلوكها أشبه بسلوكهم فتأكل من وعاءٍ فضيٍ تنكب عليه كالخنزير وكلما حادثها أحدٌ ردت عليه بقباع خنزير، وكانت بطبيعة الحال وريثةً وحيدةً بدون إخوةٍ دائمًا لأبوين غنيين لم يساعدهم المال أبدًا في الوصول إلى حلٍ بشأن ابنتهم الوحيدة القبيحة.
خليطٌ من الأساطير
صحيحٌ أن قصة ذوات وجه الخنزير بدت كأنها حقيقية وكان الناس يتعاملون معها كواقع وليس مجرد قصة أو أسطورة وأن من سيرفض مد يد العون للفقراء سيُرزق بطفلةٍ بوجه خنزير، إلا أن الباحث قليلًا في التراث الشعبي والأساطيري في تلك الفترة سيجد قصتين مشابهتين أو أسطورتين بمعنى أدق كان الناس يتعاملون معهما باعتبارهما دروسًا وعبرًا لا واقعًا كما هو الحال مع هذه القصة، فأسطورةٌ منهما تقول أن من ترفض مساعدة فقيرٍ وتزجره وترده خائبًا ستُرزق بـ 365 طفلًا! والدليل على كونها أسطورةً فحسب واضحٌ في عدد الأطفال، أما الأسطورة الثانية فلها علاقةٌ بالخنازير وهو أن من ترفض مساعدة فقيرٍ ستُرزق بتسعة خنازير صغيرة تضعهم في بطنٍ واحدة! كانت تلك الأساطير معروفةً وشائعةً جدًا في ذلك الوقت إلا أنها فجأة اندمجت لتأتي لنا بأسطورة ذوات وجه الخنزير التي اعتبرها الناس أكثر شيوعًا وواقعيةً وأقرب للواقع من تلك الأساطير.
ذات وجه الخنزير الحقيقية
القصص روت حياة العديدات من ذوات وجه الخنزير في بقاعٍ مختلفةٍ من العالم أو من تلك البلاد التي شاعت فيها القصة لكن لكل شيءٍ بدايةٌ دائمًا، وكانت البداية لهذه القصة هي السيدة تاناكن سكنكر التي انتشرت وعرفها الجميع ومنذ ذلك الوقت بدأت تلك القصص في الشيوع سواءً في الواقع أو في الفن أو في الأدب، كان والد تاناكن رجلًا موسعًا له الكثير من الممتلكات والماشية والأموال، وذات يومٍ من الأيام وأثناء حملها كانت والدتها منشغلةً ولاهيةً عما حولها فجاءتها امرأةٌ عجوزٌ تطلب منها المساعدة فصدتها الأم، عندها غضبت العجوز وأخذت تصب لعناتها على السيدة وتدعو بأن تنجب ابنةً وجهها كوجه الخنزير واختفت، ووُلدت تاناكن بالفعل عام 1618م وكان لها أنف خنزيرٍ أثار الرعب في قلبي أبويها، ومع تقدمها في السن بدأت ملامحها الإنسانية في الاختفاء وزاد تشوه وجهها حتى بدأ يتحول لوجه خنزيرٍ كامل، وكان حلقها به تشوه يجعلها لا تستطيع الكلام باستقامةٍ دون أن تصدر صوتًا كصوت الخنازير، وكانت تأكل مثلهم من حوضٍ كبير، بدأت القصة بالانتشار ورغم حرص الأبوين على إخفاء سر ابنتهما عرف الناس القصة فضربوا في الأرض يبحثون عن العجوز، وما إن وجدوها حتى اتهموها بممارسة السحر وبداية عهد ذوات وجه الخنزير، طلبوا منها فك السحر أو عكسه لكن المرأة أبت أو لم تستطع لا أحد يدري بالفعل وتم إعدامها.
السحر ينفك
ليس شائعًا أن ينفك السحر في تلك القصص وليس معروفًا إن كان ذلك سحرٌ فعلًا يصنع من قصص ذوات وجه الخنزير أمرًا مشابهًا لقصص الأميرة النائمة وبياض الثلج وتلك الأساطير الحالمة الجميلة، أم أن الأمر مجرد تشوهاتٍ خلقية أدت بهؤلاء الفتيات لهذا الطريق ولم يرحمهم العالم فشبهوهم بالخنازير حتى آمنّ بأنهن ملعونات ومسحورات، لكن في حكاية تاناكن يُقال أنهم عرفوا الحل لينفك السحر وبأنها ستظل تحمل وجه الخنزير طالما ظلت عذراء فإن تزوجت عادت طبيعيةً ثانيةً! ومن هنا بدأ الأب بوضع جائزةٍ نقديةٍ مجزية لمن يوافق على الزواج من ابنته وفك سحرها، وأقبل الخطاب على بيتهم يطمعون في مالها ومال أبيها وفي المكافأة إلا أنهم جميعًا ما إن يروا وجهها حتى يفروا من البيت وينجوا بأنفسهم من لعنتها، ويئست تاناكن ويأس أبواها وتركوا قريتهم وسافروا للحياة في لندن بعيدًا عن أنظار الفضوليين وجهلهم، ومرت الأيام ووجدت تاناكن الرجل الذي يقبل بالزواج منها أخيرًا، وليلة زفافهما نظر الرجل لزوجته فجأة فوجد امرأةً فاتنةً ساحرة الجمال تستلقي بجواره وقد اختفى وجهها المشوه، وخيرته زوجته بين أن يراها جميلةً للأبد بينما يراها البقية كما كانت، أو يراها هو بوجه الخنزير بينما يراها بقية الناس جميلة، فاحتار الرجل وترك الاختيار لها وأعطاها السلطة الكاملة في أن تكون ربة أمرها فسعدت به وبقراره وأخبرته أنه سيراها جميلةً بقية العمر وحتى يذبل جمالها بسبب السنين وتصير عجوزًا.
قصصٌ تُحكى
بعد قصة تاناكن ظهرت قصصٌ أخرى بعضها كان له أصولٌ ودلالاتٌ دينية كأن انتشرت في فترةٍ من الزمن شائعة تقول أن رجلًا ترك المسيحية واعتنق اليهودية فتحولت ابنته لخنزير، وعندما علم بذلك عاد ثانيةً للمسيحية وما إن دخل فيها هو وابنته حتى عاد لها وجهها الطبيعي الحسن، ولكن المأساة الحقيقية كانت أن كثيراتٍ ممن غلب عليهن الانطواء والحياء والخجل من مقابلة الناس اتهمن بأنهن من ذوات وجه الخنزير وأنهن يتخفين حتى لا يرى أحدٌ وجوههن، ورغم أن الكثيرات منهن عمدن للظهور بوجوههن في مناسباتٍ كثيرة لدحض الشائعات لكنها كانت أقوى من مرات ظهورهن القليلة وعيشن ومتن بشائعة وجه الخنزير تلاحقهن.
أضف تعليق