رغم مرور أكثر من سبعة عقود على الحادثة إلا أن الفتى الأسود جورج ستيني لا يزال عالقًا في أذهان الكثيرين حتى الآن، خاصةً أولئك الذين تجرعوا من ويلات التفرقة العنصرية التي عصفت بالولايات المتحدة الأمريكية القرن الماضي، والتي راح ضحيتها بطل قصتنا، ذو الأربعة عشر عامًا وقتها، جورج ستيني، فدعونا نتعرف سويًا في السطور الآتية على قصته، وكيف سارت الأمور معه حتى يتم إعدامه بهذه الطريقة الجائرة وهو لم يتجاوز الأربعة عشر عام، ليُصبح بعدها أصغر طفل في التاريخ يتم تنفيذ حكم الإعدام قانونيًا عليه.
جورج ستيني الطفل ضحية التمييز العنصري
من هو جورج ستيني؟
جورج ستيني طفل أمريكي من أصول أفريقية، أي أنه كان يحمل رغمًا عنه البشرة السمراء، وربما يُعد هذا الأمر طبيعي وعادي جدًا الآن لكنه في الحقيقة كان قبل حوالي نصف قرن أشبه بجريمة شنعاء، يُعاقب مرتكبها بالقتل، وهذا هو فعلًا ما سيحدث لبطلنا فيما بعد.
ولد جورج ستيني في السادس والعشرين من مارس القابع في عام 1930، وقد حدث ذلك في السنة الأولى لوصول والديه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانا يعيشان قبل ذلك في بلد الميلاد نيجريا، إلا أن الولايات المتحدة في هذا الوقت كانت بمهدها كما نعلم، أي أنها كانت مُستعدة لاستقبال أي شخص، شريطة ألا يكون أسود، وهذا هو خطأ والدي جورج الوحيد، والذي سيدفع ثمنه وحده لاحقًا.
طفولة جورج ستيني
بالطبع لن نتحدث عن تعليم أو حياة كريمة لبطل قصتنا جورج ستيني، فهو كما أسلفنا يمتلك بشرة سوداء، وهذا أمر كفيل بنبذه من كافة الأماكن التي يُمكن الحصول فيها على أي نوع من الخدمات، ومنها بالتأكيد الخدمة التعليمية، لكن هذا للأسف لم يكن العائق الوحيد في حياة جورج، فقد مات والديه وهو في سن التاسعة، وبالرغم من أنه لا أحد يعرف حتى الآن كيف ماتا إلا أن ما تم تأكيده كان موتهم سويًا، ليجد جورج نفسه وحيدًا بمقاطعة كلاندون.
حياة باللون الأسود
بعد موت والديه اكتسى كل شيء في حياة جورج ستيني باللون الأسود، حتى وصل الحال إلى طرده من منزل والديه ورفض جميع دور رعاية الأطفال قبولها بها، ولمن يظن أن فيما سبق مبالغة في وصف العنصرية بالولايات المتحدة الأمريكية يكفيه أن يعرف بأن زواج الرجل الأبيض بامرأة سوداء أو العكس كان مُجرّمًا حتى نهاية أربعينيات القرن المنصرم، وغيرها الكثير من القرارات التي تدل على العنصرية الشديدة التي كانت تسود في هذا الوقت.
على كلٍ، أصبح الشارع هو الحاضن الوحيد للطفل جورج ستيني، يعمل طوال النهار مُقابل الطعام فقط، ثم يعود آخر الليل ليأخذ قسطه من النوم في الشارع، لكن، بعد خمس سنوات من المعاناة، أعطى هذا الشارع لجورج صفعة كبيرة تكفلت بإنهاء حياته في سن الرابعة عشر.
ما الذي حدث؟
لا أحد يعرف ما الذي حدث ولماذا، لكن في النهاية تم الجزم بأن شيئًا ما قد حدث في الثالث والعشرين من مارس القابع في عام 1944 وجعل جورج ستيني مُتهمًا في قتل فتاتين. بيتي ومرين، هذا هو اسم الضحيتين اللتان تم اتهام جورج بقتلهما، وقد قيل أن هاتان الفتاتين قد ذهبتا لشراء بعض الأشياء من مكانٍ يبعد عن بيتهما بمئة متر ثم اختفيا وتم العثور على جثتيهما بعد أربعة وعشرين ساعة، وفي خلال أربعة وعشرين ساعة أخرى كان المسكين جورج ستيني أمام الشرطة بتهمة القتل المُتعمد من الدرجة الأولى، وصدق أو لا تُصدق، لقد كان هذا المتهم بالنسبة للحكومة الأمريكية هو الشخص الوحيد الذي حاول مساعدة إحدى الفتيات وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، لكنه بكل آسف ألقى بشهادة مُتأرجحة يسهُل إدانته من خلالها.
جورج يُسقط نفسه
استدعت الشرطة جورج ستيني فور وقوع الجريمة، وذلك لكونه الشخص الوحيد الذي مرّ على مسرح الجريمة قبل وصول الشرطة، وقد بدا جورج خائفًا ومُترددًا أثناء الشهادة أمام جهات التحقيق، لكن ذلك الخوف لم يكن لشيء سوى رؤية الفتيات وهن غارقات في دمائهن، لكن الشرطة استغلت ذلك الخوف.
قال جورج أنه كان ذاهبًا لشراء الزهور من مكان قريب من مسرح الجريمة ثم رأى فجأة فتاتين مكومتين على الأرض، إحداهما ميتة بالفعل والأخرى تلفظ أنفاسها الأخيرة، وقال أيضًا أنه عندما اقترب سمع وقع خطوات تبتعد عن المكان، إذًا جورج بما قال مجرد شاهد أليس كذلك؟ الإجابة عقلًا نعم، لكن عنصريًا الأمر يختلف.
مُذنب لم يُذنب
تم اتهام جورج ستيني بقتل الفتاتين، وفي الحقيقة ليس هناك سبب واضح حتى الآن، فشهادته ليست بهذا السوء، وأخلاقه التي عُرف بها عند الناس ما كانت لتدفعه أبدًا إلى ارتكاب جريمة كالقتل، لكن في النهاية يبقى كل ذلك مجرد هراء أمام التعمد والتعنت من قِبل الحكومة وجهات التحقيق، ورغبتهم في إلصاق التهمة بهذا الطفل الذي لم يكن متجاوزًا لسن الرابعة عشر بعد، ولمزيد من هذا التعنت تم الحكم على فتانا الأسمر بالإعدام عن طريق الكرسي الكهربائي، لكن بالتأكيد هناك أمل في النقض وحق في الدفاع والاعتراض، وإن لم يكن، فثمة وقت كبير جدًا حتى يُنفذ هذا الحكم؟ الإجابة بكل أسف له، فبعد أقل من شهرٍ تم تنفيذ الحكم.
إعدام جورج ستيني
لم تمضي سوى أيام قليل حتى وجد جورج نفسه متوجهًا إلى غرفة الإعدام الكهربائية، كان الأمر فعلًا أشبه بالجنون، فالطفل لم يتجاوز الرابعة عشر بعد، والحكم لم يمضي عليه أكثر من الشهر، والأدلة والشهود وكل شيء في صالح الطفل، ورغم ذلك، حُدد موعد الموت وتم تنفيذ الحكم.
كان جورج أثناء توجهه إلى غرفة الإعدام غارقًا في دموعه، وكانت قدماه بالكاد تحمله من فرط الانهيار، رغم ذلك كان يحمل في يمينه الكتاب المُقدّس، وما هي إلا أربعة دقائق فقط على الكرسي الكهربائي حتى لفظ الطفل الأسود أنفاسه الأخير وأصبح مُجرد جثة هوية، ربما لو تمكنت من النطق لقالت ما كان يُردده جورج دائمًا، أنا بريء.
العالم ينسى جورج
ثارت بعض المؤسسات والجمعيات على قرار إعدام جورج ستيني، وخاصةً تلك التي تدافع عن حقوق أصحاب البشرة السمراء، إلا أن ذلك الرفض لم يستمر سوى أسابيع قليلة، بعدها عادوا من جديد للانشغال بالحرب العالمية الثانية وما آل إليه مصير هتلر والألمان، إلا أن قصة جورج في الحقيقة لم تكن لتنتهي بهذه السهولة.
إعادة فتح القضية
عام 2005، وبعد أكثر من نصف قرن على القضية، قام فريق من الدفاع والمُحامين بإعادة فتح القضية من جديد، كما تمكنوا في خلال ثلاثة أشهر إثبات براءة جورج ستيني من قضية قتل الفتاتين ومن كل الجرائم التي نُسبت إليه، والواقع إن هذا الأمر لم يكن في الحقيقة سوى إرضاء لبعض السود الذين ظلوا ناقمين على النظام طوال هذه الفترة، لكن، حتى وإن كان هذا الأمر حقيقي فعلًا، وأن القضية فُتحت من أجل تحسين العلاقات بين البيض والسود، ففي النهاية استطاع التاريخ كتابة وصمة عار جديدة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وتمكن كذلك من إثبات براءة أصغر طفل في العالم تم إعدامه.
أضف تعليق