تُعتبر أسطورة بغلة القبور أكبر دليل على أن الفطرة السليمة القويمة تقضي بابتكار أساليب تحذيرية حالة الحيد عن تلك الفِطرة، فالناس يُمكن ألا يسمعوا لأوامر النهي والزجر ويعتبرونها ترهات لا قيمة لها، لكن عندما يتعلق الأمر بحادثة سابقة مرت بنفس الظروف التي يمرون بها فإنهم بالتأكيد يُعيدون حسابهم ويُفكرون في الأمر مرات ومرات، ومثلًا، فيما يتعلق بأسطورة بغلة القبور فإن الهدف الأول من وجودها هو تحذير الزوجات من خيانة زوجاتهن وانتظار العقاب الأليم لكل من تسول لها نفسها أن تعبث بالأخلاق وتخون زوجها، حتى ولو وصل الأمر إلى أن يكون ذلك الزوج مجرد شخص ميت، فهو في النهاية بالنسبة لهم له قدسيته وحرمته، وسوف نتعرف أكثر على ذلك الأمر ونُفصل ما هو مقصود به عندما نستعرض سويًا في السطور القليلة المُقبلة قصة بغلة القبور وما الذي تعرضت له حتى تُصبح على هذه الهيئة وبالتالي أسطورة من الأساطير الخالدة، فهل أنتم مستعدون لجرعة مُكثفة من الخوف الممزوج بالعِظة؟
بداية أسطورة بغلة القبور
البدايات دائمًا هي المرحلة الأهم، هي التي تُحدد النهايات بشكلٍ أو بآخر، والحقيقة أن بداية أسطورة بغلة القبور كانت بداية أقل ما يُقال عنها أنها كانت تعج بالسعادة، فقد كان هناك زوجان يعيشان في سعادة بالغة، يحترم كل شخص منهما الآخر ولا يجور على حقهما أحد، كان مُنعزلين عن العالم ومُكتفيين بأنفسهما، ولولا أن بعض الأشياء لا تتم إلا بالاحتكاك بالآخرين لما كان هذان الزوجان قد خرجا من منزلهما، لكن في النهاية شيء ما سيُفرق ذلك الجمع المحمود مهما كانت قوته، فحتى لو لم ينجح الناس فإن القدر سوف يجد السعادة البالغة في التكفل بهذه المهمة، وهذا ما حدث بالفعل.
في يوم من الأيام نام الزوج مريضًا، وربما يظن البعض أن هذا أمر عادي لكن ذلك المرض بكل أسف قد تطور إلى موت سريع ترك الزوجة وحيدة في بيتٍ طويل عريض، بيد أن الحب الذي تحدثنا عنه قبل قليل قد تبخر مع موت الزوج، وهنا ارتكبت الزوجة واحدة من الأمور التي ستندم عليها للأبد، والحقيقة أنها لن تندم بمفردها، بل الجميع كذلك سوف يشعر بالندم على تلك الواقعة التي ارتكبتها الزوجة وأربكت كل الحسابات.
الخيانة تقود إلى العذاب
نحن نتحدث عن دولة المغرب، وهي دولة مُسلمة بالطبع، لذلك كان من الطبيعي أن تنتظر تلك الزوجة مُدة مُعينة تُعرف في الشرع الإسلامي باسم العدة، لكن تلك الزوجة لم تنتظر، وإنما أقامت علاقة مشبوهة برجل بعد فترة وجيزة من موت الزوج، تلك العلاقة هي التي قادت إلى ما نحن بصدد التحدث عنه طوال السطور القادمة، وهو وجود بغلة القبور، ففي الليلة التالية لتلك العلاقة المشبوهة استيقظت الزوجة واجدةً نفسها مجرد بغلة، ومن هنا بدأت حياتها تتغير.
اعتقد الناس أن ما حدث للزوجة ما هو إلا عقاب على تلك الخيانة، فحتى لو كان الزوج قد مات فإنه من الواجب عليها الانتظار لفترة العدة، لكن هذا لم يحدث، ولكيلا تتكرر مثل هذه الأمور كان لابد من وجود مثال أو عِبرة لكل من تسول له نفسه تكرار تلك الخيانة، ومن هنا بدأت قصتنا في الانتشار، وإذا كنا مُنصفين حقًا فإنه من الواجب علينا وصف كل ما سيلى من أحداث بالأسطورة، فالأسطورة هي الوصف الرئيسي للأحداث الغير قابلة للتصديق، وهذا ما ستبدون عليه جميعًا بعد أن تعرفوا بحياة بغلة القبور التي قادت إليها خيانتها.
حياة بغلة القبور
كانت حياة بغلة القبور حياة سوداء بكل ما تعنيه الكلمة من معان، ففي البداية تحولت إلى حيوان غريب نصفه السفلي تابع لبغلة ونصفه العلوي لإنسانه عادية، ثم بدأت حياتها تأخذ طريقًا آخر، فلم تعد تتواجد في البيوت كما هو المعتاد، بل أصبحت القبور ملاذًا لها، كانت تقضي حياة مُنعكسة، فهي تستيقظ طوال الليل وتتجول في القبور مع باقي الوحوش وفي النهار تظل نائمة مع الأموات الذين يتواجدون في المقابر التي تتواجد بها، كانت حياة مُخيفة، وقد يظن البعض أن الفعل الذي ارتكبته تلك المرأة لا يستحق كل هذا العذاب إلا أن أصحاب العظات وحدهم يُعانون أكثر من أي شيء آخر.
حياة بغلة القبور لا تتوقف عند ما ذكرناه، فقد تركت المرأة حياتها السابقة، على الأغلب ظنها أهالي القرية هاربة أو مُختفية من شيءٍ ما، ولم يكونوا على علمٍ أبدًا بما وقع لها وأحال حياتها إلى جحيم، لكنها امرأة خائنة، والعرب بالذات لا يتساهلون مع من يقدمون على فعل الخيانة، والواقع أن الأسطورة قد بذلت قصارى جهدها كي تُبين حجم المعاناة التي أصبحت عليه المرأة بعد تحولها، لكنها كذلك لم تغفل معاناة الناس من وجود تلك البغلة المتجولة بين القبور.
معاناة أهل سوس
في سوس المغربية كانت بغلة القبور تكيل الجحيم كيلًا لكل من تلتقي به من الرجال، أو بمعنى أدق، كل من يقوده حظه السيئ إلى الاقتراب من مقابرها، فقد ذكرنا قبل قليل أن كل ما حدث كان في الأصل بسبب خيانتها مع أحد الرجال، ولذلك فهي ترى في نوع الرجل عدوها الأزلي وتريد الانتقام منه بكل طريقة ممكنة، ولهذا كانت النساء أكثر أمنًا من الرجال الذين كانوا يتساقطون بأعداد كبيرة ويوجدون في أحد المقابر في حالةٍ يُرثى لها، والواقع أن هذا الأمر قد أصبح طبيعيًا بالنسبة لأهالي سوس، حيث بات من المنطقي تمامًا أن يستيقظوا في الصباح ليجدوا رجلًا مختفيًا من المدينة.
مع الوقت بات الناس يموتون أكثر، لكن موتهم لم يكن هينًا، فقد كانت بغلة القبور تغويهم أولًا ثم بعد ذلك تجرهم إلى أحد الأماكن النائية وتقوم بالتهام نصفهم الأول، وبالنصف الثاني تعبث بالأعضاء التناسلية الموجودة به، كان موتًا مُهينًا حقًا، والأكثر إهانةً أنه لم يكن هناك أحد قادر على إيقافها ومنعها من هذه الجنون المبالغ به، أو هكذا تقول الأسطورة.
أساطير حول بغلة القبور
طبعًا عندما يتواجد شيء أسطوري فمن المنطقي أن تخرج عليه الكثير من الأساطير والخرافات التي تضمن انتشاره أكثر وأكثر، فمثلًا قيل عن تلك الأسطورة أنها قد وقعت بالفعل قبل عشرة قرون وأنها ليست مُختلقة كما قد يظن البعض، وأيضًا قيل أن البغلة تتخير نوع معين من البشر وليس كل صنف تُقابله، كما قيل كذلك أن بغلة القبور لا تكون نصف بغلة ونصف أنثى دائمًا، حيث أنها تمتلك القدرة على التحول إلى أنثى كاملة أو بغلة كاملة، وقد كانت تستخدم ذلك السلاح عندما تُريد تحديد الضحية قبل الإيقاع به، فإما أن تندس وسط النساء أو تندس وسط البغال، عمومًا الأسطورة بأكملها درس في عدم الخيانة الزوجية أو مخالفة نص ديني مهما كانت الأسباب، وإلا فإن المصير سوف يكون سيء للغاية.
أضف تعليق