ربما لو كان الإنصاف موجودًا لانضمت بطارية بغداد إلى عجائب الدنيا السبع، فهي لا تقل شيئًا عن الأهرامات أو سور الصين العظيم أو حدائق بابل المعلقة، بل تتميز عنهم في أنها ليست مجرد قطعة أثرية عادية، بل أنها معجزة صغيرة، وضعت فولتا مُكتشف الكهرباء في مأزقٍ حقيقي، خاصةً بعدما أكد الباحث الألماني الشهير ويلهيلم كونق أن تلك البطارية التي يرجع عمرها لأكثر من ألفي عام كانت تُستخدم في توليد الكهرباء، وهذا ما دفع البعض إلى التفكير في اعتبار فولتا أول من اكتشف الكهرباء، والتفكير أكثر في بطارية بغداد، أكثر الآثار جدلًا في العراق.
بطارية بغداد والقصة الكاملة ورائها
بطارية بغداد
سُميت بطارية بغداد بهذا الاسم لأنه قد تم العثور عليها في بغداد، ويُرجح أنه قد تم صنعها في عهد الساسانيين، أي قبل الميلاد بعدة سنوات، ويُقدر عمر هذه البطارية بألفي عام، وإن ثبت ذلك سيتعرض فولتا في قبره لصفعة كبيرة، حيث سيتم نسب اكتشاف الكهرباء إلى أبناء حضارة بلاد الرافدين.
تتشكل بطارية بغداد على شكل جرة صغيرة طوالها نحو 13 سنتيمتر، في عنق الوعاء أو الجرة ثمة أسطوانة مكونة من رقائق نحاسية مُغلفة بسبائك من القصدير والنحاس والرصاص، بشكل أشبه إلى اللحام أو اللصق، في داخل تلك الجرة محلول أو سائل لزج أقرب إلى عصير العنب، وهذا المحلول هو المسئول عن تحريك عملية توليد الكهرباء.
اكتشاف بطارية بغداد
في قرن الاكتشافات المجيد، القرن العشرين، وفي نفس العقد الذي تم فيه اكتشاف مقبرة الملك الطفل توت عنخ آمون على يد كارتر، وكهوف تاسيلي على يد الرحالة اليونان بريان، تم اكتشاف بطارية بغداد، وحدث الأمر كالعادة على يد مُحتل أجنبي عن البلد التي يحدث فيها الاكتشاف، حيث كان مكتشف البطارية هو الباحث الألماني الشهير ويلهيلم كونق، والذي وجدها في أثناء إحدى عملية الحفر التي كانت تتم لإنشاء قنوات جديدة، وقد وضعها الحفارين في مكانٍ ما وأهملوها غير مُدركين لقيمتها أو ما تعنيه هذه البطارية، حتى جاء ويلهيلم كونق وشاهدها صدفةً.
تم وضع البطارية التي وجدت في قرية من قرى بغداد- في المتحف العراقي، والذي كان يُشرف عليه ويلهيلم كونق أيضًا، حيث بدا شغف واهتمام كونق بهذه البطارية جليًا، كما حاول أكثر من مرة أخذها إلى ألمانيا وإجراء الأبحاث عليها هناك، لكنه لم يتمكن من ذلك، حيث كانت ألمانيا وقتها في خضم الحرب العالمية الثانية.
إجراء الأبحاث
منذ بدأ خبر اكتشاف بطارية بغداد في الانتشار انهال الباحثون على العراق لدراسة هذه المعجزة، حيث أرسلت شركة بيتسفيلد الأمريكية مُهندسي جنرال إليكترك لإجراء تجارب على بطارية بغداد، وتم الاستعانة في هذه التجربة برسومات وأبحاث المُكتشف ويلهيلم كونق، كما استعانوا بالكبريتات النحاسية، وانتهى الأمر بتوليد الكهرباء من البطارية ونجاح التجربة، وعاد البحاثون إلى بلادهم مذهولين من تلك البطارية التي أثبتت اكتشاف الكهرباء قبل ألفي عام من وقتها الذي أعلن عنه مكتشفها الألماني في القرن السابع عشر.
بعد الاكتشاف بثلاثة عقود قام عالم ألماني شهير بإجراء تجربة على نموذج مماثل لبطارية بغداد، لكنه ملأها بالعصائر وخاصةً العنب، واستطاع أيضًا توصيل الكهرباء، كان هذا في عام 1970، وقد خرج هذا العالم وصرح أن شحنة واحدة من هذه البطارية قادرة على طلاء تمثال متوسط الحجم صُنع من الفضة بصبغة الذهب.
افتراضات لحل لغز بطارية بغداد
مع نجاح أغلب التجارب التي جرت على هذه البطارية بدأ العلماء في افتراض عدة مبررات وأسباب لعمل هذه البطارية، وما دفع القدماء إلى صنع هذه الجارة المُعجزة، وبعد بحثٍ مضني، وجهد شاق استمر لأكثر من ثلاثة عقود، خرجوا بعدة افتراضات كان أهمها:
1- حفظ ورق البردي، افتراض مُجحف
رجح العلماء أن القدماء العراقيين قد قاموا بصنع بطارية بغداد من أجل حفظ ورق البردي فقط، ولم يخطر ببالهم أبدًا توليد الكهرباء، ولم يكونوا على علمٍ بما تعنيه الكهرباء من الأساس، وهذا الرأي، وإن كان أقرب للصواب، فإنه يُعد رأيًا مُجحفًا ومُنقصًا من قدرات العراقيين القدماء، حيث نفى احتمالية قصدهم توليد الكهرباء.
2- وسيلة للعلاج، افتراض منطقي
ذهب بعض الباحثين إلى تبرير وجود تلك البطاريات بحاجة القدماء إليها في العلاج، وبرروا ذلك بالعثور على إبر بالقرب من البطارية، فالعلاج بالإبر من المعروف أنه يحتاج إلى الكهرباء، مثلما هو الحال في الصين، والتي ما زالت تستخدم طريقة العلاج هذه إلى الآن، وتُعد هذه الفرضية منطقية إلى حدٍ كبير.
3- ممارسة الطقوس السحرية، افتراض مُناسب لوقت الصنع
الافتراض الثالث الذي قال به الباحثين ورجحوا أنه السبب الحقيقي لصنع هذه البطارية هو ممارسة الطقوس السحرية، حيث كان الكهنة يستخدمونها في التأثير على الناس، فعندما يضع الرجل يده داخل هذه الجرة يشعر بنكزة أو وخزة طفيفة، تجعله يُصدق قول الكهنة وتعاليمهم، أي أن تلك الجرة كانت تُستخدم للترهيب والتخويف والدلالة على وجود الله، ومع انتشار الجهل والخرافات وسطوة رجل الدين يمكن الجزم بهذا الافتراض.
وبالرغم من كثرة الافتراضات التي أطلقها العلماء إلا أنه لا يُمكن الجزم بأي منها، وما زالت بطارية بغداد حتى الآن لغزًا يُحير العلماء، حيث وصفها البعض بأنها اكتشاف فريد من نوعه، لم ولن يتكرر.
العراق بلد سياحي
منذ تم اكتشاف بطارية بغداد عام 1938 ووضعها في المتحف عام 1940 تحولت العراق إلى بلد سياحي جاذب للسياح من كل حدبٍ وصوب، حيث توافد الناس لرؤية الاختراع الذي مر عليه أكثر من ألفي عام، واستمر هذا التوافد حتى تمت سرقة البطارية وتهريبها إلى خارج العراق، حيث تعرضت البلاد إلى ضربة سياحية مُوجعة.
اختفاء بطارية بغداد
مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 بدأت الكثير من الكنوز والآثار العراقية في الاختفاء، لكن الضربة الكبرى جاءت مع اختفاء أعظم آثار العراق وأكثرها قيمة، بطارية بغداد، حيث تمت سرقتها من المتحف العراقي بعد الغزو على أيدي مجهولين كما قالت التحقيقات، وإن كان هؤلاء المجهولين لا يمكن أن يخرجوا عن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فهاتين الدولتين يملكان أكبر الأسواق السوداء لتهريب الآثار في العالم، وقد أوقفت مصر قبل أعوام عملية تهريب لبعض آثار مقبرة توت عنخ آمون في أثناء تهريبها إلى إحدى الدولتين، لكن العراق، وفي خضم الحرب والاحتلال، لم تستطع إيقاف أو حتى ملاحظة سرقة تلك البطارية، لتفقد واحدة من أعظم آثارها على مدار التاريخ.
نهاية البطارية
بعد اختفاء البطارية من العراق عقب الغزو الأمريكي تولت فرقة بحث دولية مهمة البحث عن بطارية بغداد، وبعد نحو ستة أشهر من البحث خرجت تلك الفرقة ببيان تؤكد فيه أنها قد بذلت قصارى جهدها لكنها بكل أسف لم تستطع العثور على البطارية، ولم يُصدق أحدًا ما هذا البيان خاصة وأن تلك الفرقة مُشكلة من مُحققين أمريكين، وما زال لدي العراقيين أملٌ أن تظهر هذه البطارية ذات يوم ويتم إعادتها إلى موطنها الأصلي بغداد من جديد، تلك البطارية التي حيرت العالم في صُنعها واستخداماتها، ونصّبت نفسها أكثر الآثار جدلًا في العراق.
أضف تعليق